تكشف خفايا وأسرارا، تميط اللثام عمّا يحصل خلف الكواليس، تفضح تفكير ونوايا شخصيات عامّة تتخلّى في لحظة عن اللباقة والكياسة وعن الصورة «الجميلة» التي اعتاد الرأي العام استهلاكها «إعلاميا» لتغرق في ابتذال الكلمات والمواقف، ذلك ما تفعله التسريبات الصوتية أو تسريبات الصور والوثائق، هذه التسريبات التي باتت جزءا من المشهد السياسي في البلاد، حيث لم تعد وسائل الإعلام تجد حرجا في تداول هذه التسريبات وإثارة الجدل والنقاش حولها، جدل أثّر على صورة «أبطال» هذه التسريبات خاصّة كلما تعلّق الأمر بشخصيات سياسية وحزبية، وقد رأينا كيف كادت بعض هذه التسريبات أن تنسف المستقبل السياسي لبعض الشخصيات. «لعبة التسريبات» التي اجتاحت المشهد السياسي بعد الثورة، وساهمت في انحداره و»ترذيله» بما أفقده الكثير من المصداقية، يبدو أنها لم تعد شأنا داخليا أو تسريبات محلّية بل تجاوز الأمر ذلك لتطالعنا من حين إلى آخر وسائل إعلام أجنبية غربية وعربية بتسريبات تهم شخصيات تونسية أو تهم الأوضاع في تونس، كما فعلت جريدة «لوموند» الفرنسية بعد تسريبها لوثائق تزعم تورّط رئيس الحكومة في قضية فساد مباشرة بعد إعلان يوسف الشاهد حملة محاربة الفساد. لعلّ التسريب الأخير المنسوب لشخص الناشط السياسي الليبي ورئيس منظمة شباب ليبيا نور الدين بوشيحة، يثبت محاولات سافرة لاختراق الشأن المحلّي التونسي والتأثير فيه وفق أجندات معينة. وقد تمثّل هذا التسريب في مكالمة هاتفية نقلتها مواقع وقنوات عربية مثل قناة الجزيرة القطرية، يحثّ الشخص الذي زعم مسرّبو التسجيل أنه نور الدين بوشيحة، شخص آخر يتحدّث بلهجة تونسية على ضرورة استغلال المظاهرات – يبدو أن المقصود المظاهرات الأخيرة- لتأليب المحتجين ضدّ «الإخوان المسلمين» بأن تنقلب الاحتجاجات ضدّ حركة النهضة وفق ما ورد في المكالمة، مع تعهّد نور الدين بوشيحة بدعم المحرضين ماليا وإعلاميا. وسائل الإعلام التي سرّبت هذه المكالمة قالت إن نور الدين بوشيحة شخصية ليبية محسوب على دولة الإمارات، ولكن بوشيحة في اتصال هاتفي مع إذاعة «موزاييك» نفى ما نسب إليه في المكالمة، مؤكّدا على أن هناك من ينتحل شخصيته وقام بالزجّ به في المسألة لإشعال الفتنة بين عدّة دول، وأنه غير مقرّب من دولة الإمارات العربية وليست له علاقة بالمشاكل الدولية. لكن الملفت،أنه بالتزامن مع يوم التسريب –يوم الأحد – صرّح رئيس مجلس شورى حركة النهضة عبد الكريم الهاروني،أن هناك أطرافا خارجية حاولت الضغط على رئيس الدولة ورئيس الحكومة من أجل «إيقاف الديمقراطية، وإيقاف التوافق لكنهما رفضا أن تكون تونس للبيع «وفق تعبيرها، مشيرا إلى كون هذه الأطراف كانت ضدّ الثورات العربية. فهل يعني ذلك أن هناك أطرافا أجنبية وبعد أن فشلت في تغيير أوضاع السياسية في تونس بالتدخلات المباشرة، تسعى من خلال «صناعة تسريبات» معينة رسم واقع جديدا في تونس؟ حرب التسريبات بعد الثورة.. لم يعتد الرأي العام في تونس قبل الثورة على التسريبات لتشويه الخصوم أو النيل منهم، بل كان ذلك يتم من خلال فبركة الأخبار وبث الإشاعات التي كان النظام وقتها يعمل على تغذيتها للنيل من خصومه ومن رموز المعارضة، وكانت أخطر تلك الإشاعات تلك المقترنة بالأخلاق وبالسمعة. ونظام بن علي الذي برع في بث الإشاعات السياسية لم يكن يدرك انه سيأتي يوم وسيواجه نفس الوصم الذي ألحقه بخصومه، بعد تسريب وثائق «ويكيليكس» التي وجدت صدى دوليا وتم تناقلها على شكل واسع، هذه الوثائق التي فضحت النظام آنذاك وأسقطت ورقة التوت على «الطرابلسية» ورجال البلاط، ساهمت بطريقة ما في الإطاحة بالنظام. وبعد الثورة، «نشطت» التسريبات التي كان بعضها خطير وارتقى إلى مستوى الفضيحة الأخلاقية، كما حصل في قضية ما عُرف ب»الشيراتون –غايت» التي كادت أن تنسف المستقبل السياسي لوزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام. أو الفيديو المسرّب لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في أكتوبر 2012، بصحبة عدد من الشباب السلفي وقوله إن «الشرطة والجيش غير مضمونين، وإن الإدارة والإعلام تتحكم فيهما القوى العلمانية»، ومازال هذا التسريب يثير الشكوك والهواجس إلى اليوم حول النوايا الحقيقية للحركة. بدوره كان محسن مرزوق رئيس حزب مشروع تونس، أحد أبرز السياسيين الذين تعلّقت بهم عدّة تسريبات، بدأت بتسريب ل»وكيليكس» تناول لقاء جمع السفير الأمريكي مع مرزوق وعدد من نشطاء المجتمع المدني في 2006، قال فيه مرزوق انه «يجب حماية الطرابلسية وطمأنتهم بعد رحيل بن علي...» كما عاد اسم محسن مرزوق ليقفز إلى واجهة الأحداث، بعد التسريب الذي هزّ العالم والمعروف ب»وثائق بنما» والذي فضح علاقة شخصيات سياسية من مختلف دول العالم مع ما يعرف ب»الجنان الضريبية» وأبرزها دولة بنما. كذلك من التسريبات التي أثارت جدلا تسريب، اجتماع لحزب نداء تونس تحدّث فيه المدير التنفيذي للحزب حافظ قائد السبسي عن تنصيبه ليوسف الشاهد كرئيس للحكومة، وطلبه منه ضرورة مغادرة إياد دهماني للحكومة. وهذا التسريب ليس الوحيد الذي يكشف «كواليس» النداء، ففي تسريب صوتي لنبيل القروي تحدّث فيه عن حافظ قائد السبسي بسخرية وبكلمات نابية، كما تحدّثت كيف تم تجنيد «قناة» نسمة في الانتخابات الرئاسية لصالح الباجي قائد السبسي. وكذلك من التسريبات التي بقيت عالقة في الذهن، تسريبات وثائق تنصّت الداخلية على مكالمات شفيق جراية التي اعترف فيها بشرائه لذمم عدد من الإعلاميين. كل هذه التسريبات كان لها وقعها على الرأي العام وكانت لها تأثيراتها السلبية على الشخصيات «المسرّب عنها» ونجح بعضها في تحقيق الهدف في إطار حرب صامتة سلاحها التسريبات . أطراف أجنبية على الخطّ.. عندما تتمترس أطراف أجنبية خلف هذه التسريبات المتعلّقة بشؤون تونسية داخلية، تصبح لهذه التسريبات مخاطر مضاعفة، حيث يبرز بوضوح وجود أجندات أجنبية لها مآرب وأهداف «غير بريئة» في تأزيم المسار السياسي الوطني، فالتسريب الأخير لنور الدين بوشيحة، وبصرف النظر عمّا إذا كان هو أو شخص ينتحل شخصيته، يثبت أن هناك أيادي عابثة هدفها إرباك المشهد السياسي وهدفها أيضا إثارة البلبلة وبث الفوضى وزرع الفتن الداخلية، ولعلّ تصريح رئيس مجلس شورى حركة النهضة الذي لا يمكن أن يصرّح بذلك التصريح دون أن تكون له معطيات مؤكّدة تشير بوضوح الى محاولات أجنبية لإرضاخ القرار الرسمي التونسي لإرادة بعض القوى الإقليمية والدولية وفق أجندات وغايات لا تخدم بالضرورة المصلحة الوطنية بقدر ما تخدم مصالح هذه الأطراف سواء في إطار صراعات محاور أو معسكرات إقليمية ودولية، نجحنا غالى حدّ ما في الفكاك من شراكها خاصّة في أزمة الخليج الأخير ،الاّ أن المخاطر ما تزال متوقّعة، كما يبدو أن بعض المحاور العربية خاصّة تصرّ على انتهاك إرادة الدولة التونسية وتوظيفها لمصلحتها.