برزت نزعة جديدة في البرامج التلفزيونية وأساسا في البلاتوهات التي تنتصب لتحليل ومناقشة الأحداث التي تشهدها البلاد تتمثل في تقديم خطاب حماسي طويل وعريض متضمخ بعبارات الوعظ والإرشاد. وعادة ما تلقى هذه الخطب في حماسة شديدة خاصة عندما يتعلق الأمر بالخوض في مسألة شديدة الوقع على المواطن. ولئن سلمنا بأن الوطنية المفرطة لصاحبها تجعله لا يتردد في تقمص دور لا يعود له فإننا نخشى من تأثيرات مثل هذه الأساليب، التأثيرات السلبية منها بالخصوص على الرأي العام وضياع جانب كبير من مصداقية الإعلام. فالحماسة الشديدة التي تكون مرفوقة بالرفع في النبرة والصوت العالي إلى درجة الصراخ والإزعاج قد تكون أحيانا مرادفا للمبالغة وحتى غياب المصداقية. وكثيرا ما كتب المسرحيون حول هذا الموضوع وكثيرا ما قالوا إن الإطناب في الظهور في مظهر المصلح والمرشد والخالي من العيوب عادة ما يخفي صفات مناقضة تماما للصفات التي يسعى صاحبها لإبرازها.. وقد تحولت فعلا بعض البلاتوهات التلفزيونية إلى منبر يترافع فيه المتدخلون ممن أدمنوا الكلام بمناسبة وبلا مناسبة، كل يريد أن يكون مقنعا أكثر من غيره فيغالي في الكلام ويحنق ويغضب وتغلي الدماء في عروقه وكأنه في مهرجان خطابي في مناسبة انتخابية أو كأنه خرج للتو من فصل من فصول مسرحية موليار الشهيرة حول شخصية Le Tartuffe «تارتيف». والحقيقة وإن كنا لا نحبذ كثيرا منطق اتهام الناس أو تحميل الأشياء ما لا تحتمل فإننا نعتقد أن الإعلام التلفزيوني اليوم يحيد عن جوهر العمل الإعلامي. فنحن نبتعد رويدا رويدا عن آداب المهنة وندخل في منطق المزايدات ولا نستبعد أن يتحول المشاهدون رويدا رويدا بدورهم عن البرامج التلفزيونية التي صارت في أغلبها منابر للدعاية أو للمزايدة على الآخرين في الوطنية وفي الانتماء للوطن مع كيل التهم لهذا أو ذاك أو لهؤلاء مع الحرص بطبيعة الحال على الاصطفاف في صف الوطنيين الذين لا تشوبهم شائبة.. والسؤال هل هذا هو دور الإعلام وهل هذا ما ينتظره المشاهد من منشطي هذه البرامج وممن المحللين والمعلقين على الأحداث؟ هل يتمثل دور الإعلامي في استغلال اكبر ما يمكن من مساحات البث ليخطب في الناس وليهذي، أم أن دوره يتمثل في تقديم المعلومة في أفضل صورة بمعنى بأسلوب دقيق وبحرفية عالية حتى يفهم المتلقي ما خفي عنه؟ هل يتمثل دور البرامج التلفزيونية التي تخوض في القضايا السياسية والاجتماعية وبالمسائل التي تهم المواطن بشكل مباشر في تقديم خدمة إعلامية للمشاهد تكون مقنعة ومدعومة بالحجج ومقارعة الحجة بالحجة أم في تقمص دور الواعظ والمرشد و تقديم سيل جارف من الكلام إلى درجة الإسهال؟ هل يتمثل دور البرامج التلفزيونية السياسية والاجتماعية في بث المعلومة بأسلوب بسيط وواضح بعيدا عن التكلف وعن الإدعاء بامتلاك الحقيقة أم في مسرحة الأحداث بما في ذلك الحزينة منها؟ أسئلة تعسر الإجابة عنها لأن الأمور اختلطت وتداخلت الوظائف وطغت المزايدات والاعتبارات الخارجة عن منطق المهنة على حساب الدور الحقيقي للإعلام وعلى حساب المهنية وعلى حساب أخلاقيات المهنة.