كثيرة هي المواعيد التي ارتبطت بأحداث الهزائم العربية المتكررة من النكبة الى النكسة وما رافقها من نكسات عمت المشهد العربي الممزق اليوم في صراعاته الدموية التي استنزفت الشعوب وباتت تهدد مصير الاجيال العربية التي لم تعرف غير الدمار على مدى عقود طويلة.. وقد بات الحلم المشترك اليوم للحكومات العربية القائمة أن تحافظ على خارطة سايسكس بيكو الذي كانت رفضته في حينه وتتفادى الوقوع في تقسيم المقسم ومزيد تدمير المدمر.. الثاني من نوفمبر 2017 موعد سيرهق الذاكرة العربية والانسانية وهو الموعد الذي سيسجل للعالم صدور تلك الوثيقة التي ستشهد على جريمة العصر التي ارتبطت بإقدام بريطانيا على منح ما لا تملك لمن لا يستحق وتقديم وعد لليهود بإقامة دولة على أرض فلسطين.. ولكن وعد بلفور المشؤوم ستسبقه اتفاقية سايكس بيكو التي تم التوصل اليها بين نوفمبر 1915 وماي 1916 خلال مفاوضات سرية بين الديبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والديبلوماسي البريطاني مارك سايكس ووزير الخارجية الروسي سيرغي سازانوف، وهو الاتفاق الذي استهدف العرب عموما والفلسطينيين خصوصا مستفيدا من حالة الضعف والانهيار التي أصابت الشعوب العربية لزرع الكيان الاسرائيلي، ولن يقتصر الامر على ذلك بل أن القوى الكبرى ستعمد الى دعم هذا الكيان وتعزيز قدراته العسكرية ليتوسع على حساب دول المنطقة.. من سايكس بيكو إلى بلفور السفير اللبناني بتونس د. بسام عبد القادر النعماني كان استبق ذكرى مائوية وعد بلفور المشؤوم بإصدار مجلد ضخم في مأوية سايكس بيكو تحت عنوان «مائة عام على اتفاقية سايكس بيكو «قراءة في الخرائط ضمنه قراءة مفصلة لما سبق الاتفاقية من لقاءات واتفاقات سرية خططت ومهدت لتقسيم الوطن العربي أو ما كان يسمى بالوطن العربي.. وقد صدر المجلد عن مركز جامعة الدول العربية وقدمه مدير المكتب الاستاذ عبد اللطيف عبيد الذي يقول «ان الكتاب» يسد ثغرة كبيرة في المكتبة العربية من اتفاقية سايكس بيكو وما تلاها من مختلف الترتيبات التي أفضت الى الخارطة الجيوسياسية الحالية التي لا تزال بدورها محل تجاذبات وصراعات دولية وحتى اقليمية». ولعله من المهم الاشارة الى أن تلك الوثيقة التي ستعرف ب»اتفاقية آسيا الصغرى» قبل أن تسمى اتفاقية سياكس بيكو التي ستظل سرية ولن يتم الكشف عن بعض الوثائق المرتبطة والتي هيأت لتوقيعها الا بعد انقضاء مصف قرن من الزمن.. ويبدو واضحا أن الغطاء السري الذي رافق هذه الاتفاقية كان يراد له ضمان نجاح المشروع الذي سعت الى تحقيقه فرنساوبريطانيا والامبراطورية الروسية لاقتسام الامبراطورية العثمانية في منطقة الهلال الخصيب والشرق الادنى بين فرنساوبريطانيا.. ولكن ايضا تحديد مناطق النفوذ في الدردنيل وغرب اسيا بعد الحرب العالمية الاولى.. أهمية ما قدمه المجلد الذي يعتبر وثيقة تاريخية علمية لا يستهان بها من خلال555 صفحة تضمنت عددا من الخرائط والمخطوطات والمراسلات والاتفاقيات التي تنشر لأول مرة بالإضافة الى عدد من الوثائق الادارية في المنطقة والتي اشتركت في صياغتها الدوائر الاكاديمية والحكومية الفرنسية والبريطانية في مراحل مختلفة، فانه وهذا الاهم يتضمن تحذيرا مباشرا بأن سايكس بيكو لم ينته وأن المشروع لن يتوقف وأن مزيد الخرائط تكشف عن مخططات لتقسيم المقسم وتفتيت المجزإ. بمعنى أنه اذا لم تكن النخب العربية واعية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى بمخططات القوى الكبرى فان الواقع اليوم يعكس ان المقاربات ذاتها لا تزال قائمة لتنفيذ ما خفي من اتفاقية سايكس بيكو الذي مهد لوعد بلفور مع وصول رئيس الوزراء البريطاني الويد جورج ووزير خارجيته بلفور الى الحكم في ديسمبر 1916 لتنجح الحركة الصهيونية في تحقيق طموحاتها واقناع بريطانيا والدول الكبرى بتبني انشاء وطن لليهود. على خلاف الاتفاقات بين الشريف حسين و مكماهون الذي نقض وعود الحلفاء بمنح الشعوب العربية استقلالها بعد الثورة على الاتراك... وبعد أكثر من قرن كامل على إصدار سايكس بيكو وبعد قرن على اصدار وعد بلفور، لا تزال المعانة الفلسطينية مستمرة على وقع تداعيات الوعد البريطاني المشؤوم وما فرضه على الشعب الفلسطيني وعلى شعوب المنطقة من سياسات احتلالية عنصرية ومخلفاتها مع التشرد والتهجير والاسر والتهويد واستهداف الهوية الفلسطينية والذاكرة العربية والانسانية. وفي الوقت الذي تسجل فيه القضية الفلسطينية دعم الشعوب والحكومات المؤيدة لحق الشعوب في السيادة والحرية وحق تقرير المصير تصر الحكومة البريطانية ومعها القوى الكبرى على دعم اسرائيل في سياسة الابرتييد التي تمارسها على الشعب الفلسطيني بما يشجع سلطات الاحتلال على الاستهانة والاستخفاف بالمواثيق والقوانين الدولية.. وبعد أكثر من عقدين على اتفاقات أوسلو فان التغيير الميداني الوحيد المسجل تنامي سرطان الاستيطان الاسرائيلي الذي لم يترك للفلسطينيين اكثر من 22 بالمائة من أرضهم والذي حول المدن والقرى الفلسطينية الى مجرد كانتونات مبعثرة خاضعة للسيطرة الاسرائيلية.. كل ذلك فيما تبقى مختلف الجرائم الاسرائيلية وحرب الابادة البطيئة التي تقترف في حق الفلسطينيين قائمة .. لا اعتذار في بريطانيا أمام قسوة وبشاعة الاحداث على ارض فلسطينالمحتلة تجاهر بريطانيا بفخرها بالاحتفال «بذكرى «وعد البلفور». . وفيما كان يفترض اعلان الحداد على سقوط الشرعية الدولية والعدالة الدولية المجهضة على عتبات مجلس الامن الدولي تستعد العاصمة البريطانية لاستقبال رئيس الوزراء الاسرائيلي ناتنياهو ومشاركته الاحتفال بذكرى اغتصاب الحق الفلسطيني وهو ما يمكن اعتباره تكرارا للجريمة مضاعفة للمآسي المرتبطة بالنكبة التي تحمل توقيع بريطانيا والقوى الكبرى .. حري بالأنظمة والحكومات العربية أن تعلن الحداد في هذه الذكرى التي تعود بعد مائة عام لتشهد حجم المؤامرة التي خططت لها بريطانيا ومعها القوى الكبرى على أرض فلسطين ولكن لتشهد أيضا وهذا الاخطر على الوهن والضعف والتخلف الذي أصاب العرب الى درجة الانسياق والانخداع ولكن أيضا بسذاجتهم التي دفعتهم لتصديق الوعد البريطانية الزائفة بتحرر الشعوب العربية.. وهي الاسباب ذاتها التي تتكرر اليوم لتشهد على ضياع المزيد من الاوطان والشعوب العربية المستهدفة في وحدتها وامنها واستقرارها أمام حجم التحكم والتدخل الاقليمي والدولي في الازمات الراهنة التي تمر بها المنطقة العربية من السودان الى اليمن وسوريا والعراق وليبيا وحتى غيرها من البلدان التي قد تبدو ظاهريا مستقرة.. ولاشك أيضا أن ظهور خطر تنظيم «داعش» الارهابي وقصر نظر الانظمة المعنية قد ساعد على تدخل القوى الاجنبية التي كانت تنتظر الفرصة للتدخل تحت عنوان الحرب على الارهاب.. التمرد على الاحباط كما التمرد على الهزيمة والخروج من دائرة الاستسلام أمر مطلوب لتجاوز حالة النكبة المستمرة والانتباه للحاضر والمستقبل حماية للأوطان ودرئا للمخاطر والتهديدات التي تستهدف تدمير الهوية والقضاء على الشعوب وهي مسؤولية مشتركة لا يمكن أن تتحقق بالشعارات ولا بالبيانات وتستوجب وقف حروب الاستنزاف التي طال أمدها في البلاد العربية واعادة اعمار ما تهدم واستعادة البوصلة المفقودة للسفينة التي توشك على الغرق.. ولعلنا اليوم اذ نقف على ارث وعد بلفور في المنطقة المستباحة لا نملك ولا حق لنا أن نتجاهل فصول الملحة الفلسطينية المستمرة التي ما انفك الشعب الفلسطيني يبهر بها العالم وهو الذي تحول الى عنوان لصبر لا ينضب واصرار على التمسك بالحق المشروع ومواصلة البقاء على الارض الفلسطينية رغم الجدران والحواجز والقيود وكل محاولات التضييق لدفع من بقي الى الهجرة.. ولاشك أن في نضالات وتضحيات خنساوات ونساء وشباب واطفال فلسطين على ارضهم كل يوم وكل ساعة ما يجب اعتباره رسالة مزدوجة على زيف وظلم وعد بلفور الزائف ولكن أيضا على أن المقاومة الشعبية ضد الاحتلال قد تتراجع وقد يصيبها الفتور بفعل الخيبات المتتالية ولكنها لم تنتظر اذنا أو تصريحا لتعود وتنفجر في وجه المحتل..