بدأ حزب الله منذ البداية دوره السياسي والوظيفي في المقاومة ضد الكيان الصهيوني، باعتبار المقاومة أسلوباً متميزاً من الناحية العسكرية، ومحورياً من الناحية الاستراتيجية، في ظل الاحتضان الإقليمي من دون شك، وفي الوقت الذي سادت فيه سياسة التسوية الاستسلامية الوطن العربي كله، وأصبحت معظم الأنظمة العربية تتلاقى في برامجها مع البرنامج الأميركي على صعيد تسوية القضية الفلسطينية، وتصفية النضال لتحرير فلسطين، وتقهقر في الوقت عينه الصراع العربي الصهيوني، وسكنت كل الجبهات العربية، وأصبحت بوابة الجنوب اللبناني حيث الأكثرية السكانية شيعية هي البوابة الوحيدة المفتوحة على الصراع. وقد شكل حزب الله العمود الفقري للمقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، وحقق نجاحات جهادية وإنجازات دفاعية كبيرة ضد وضعية الاحتلال الصهيوني، حيث أسهمت هذه الانجازات، في توسيع دائرة التأييد والتعاطف الشعبي للحزب، وفي تأمين الصعود السياسي للحزب في فضاء السياسة اللبنانية والاقليمية، بوصفه حزباً موجوداً بشعبيته الذاتية أيضاً. وبات الحزب يلقب في وعي الناس بأنه "حزب المقاومة وحزب الشهداء"، نظراً للدور الأساسي الذي أدّاه في معركة تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الصهيوني في 25 أيار 2000. أكد حزب الله منذ نشأته وتأسيسه على دور علماء الدين في مشروعه السياسي الإسلامي، غير أن إطلالة فقهاء الدين على السياسة كشأن من شؤون الاجتماع البشري، ظل يرافقه وبإطلاقية تبني الحزب لنظرية ولاية الفقيه التي هي للحزب المبدأ المطابق للفكر التأسيسي المانح للشرعية، ومرجعية النص الإسلامي. فولاية الفقيه حسب تعبير السيد عبد الحليم فضل الله، مبنية على نص ديني، لا نقول أنها التأويل اليتيم له، لكنها التأويل الوحيد الذي تحول بالفعل إلى نظرية متماسكة، إلى حد استطاعت معه بنجاح مشهود، أن تخوض غمار التطبيق. ولن يتسنى لأي حركة سياسية إسلامية (شيعية) اتخاذ نموذج الفقيه صالح للتعبير عن إسلاميتها، خارج هذه النظرية، ما لم يثمر الاجتهاد السياسي، نماذج أخرى تؤدي إلى الوظائف العملية نفسها وتستند إلى تنظير فكري ملائم. وحين يعتمد حزب الله هذا النص الإسلامي كمرجعية، ويجاهر به، فإنه لا يتمايز عن الحركات الأصولية، بل هو أحد فصائلها الممتازة، لأن حزب الله هو حزب ديني، مرتبط بالنص التأسيسي : أي الايمان بنظرية ولاية الفقيه المطلقة ممثلة بآراء وفتاوى وأحكام "الفقيه الولي" المؤسس، الإمام روح الله الخميني أولاً، "وولي أمر المسلمين الحالي" الإمام علي خامنئي ثانياً. ويرفض حزب الله الجغرافيا، لأنه يؤمن بوجود أمة إسلامية واحدة يقودها فقيه، حيث يقول أحد قادة الحزب: "نحن نعيش على غيبة الإمام المنتظر والقيادة في هذا العصر تتمثل في قيادة الفقهاء العدول". من هنا حزب الله يطيع القرارات الصادرة عن الفقيه، العادل وينفذها. هذا الفقيه اسمه آية الله الخميني "ليس له صفة جغرافية بل صفة شرعية وعلى هذا الأساس أيضاً عملنا السياسي في لبنان لا يكون أبداً من خلال جغرافية لبنان، وإنما من خلال جغرافية الإسلام التي تعني العالم... فنحن في لبنان لا نعتبر أنفسنا جزءاً منفصلاً عن الثورة في ايران". ولبنان على حد تعبير الشيخ ابراهيم الأمين ليس إلا "دائرة جغرافية" مكان لا أهمية خاصة له إلا لأن الغرب حاولوا برأي الحزب أن يجعل منه موقعاً متقدماً في سياسة المستعمرين في منطقة الشرق الأوسط. أما المشروع فهو أن تصبح المنطقة أمة فلا يصح القول أن هناك دولا في منطقة الشرق الأوسط، بل توجد عشائر وطوائف". أن تصبح المنطقة أمة يعني أن تتبنى بكاملها الإسلام سياسة ونظاماً "وقد بدأ هذا المشروع بانتصار الثورة الإسلامية في ايران، وهو مشروع الآمة، دولة الاسلام الكبرى". على الرغم من أن نظرية ولاية الفقيه المبنية على نص ديني، قد طرحت لتملأ الفراغ في قمة الهرم الشيعي بعد اختفاء الإمامة التي تعد من أركان الإعتقاد عند الشيعة، فإن الولاية المطلقة للفقيه التي نادى بتحقيقها وترجمتها على المحك العملي الإمام الخميني كانت ولا تزال موضوع جدال فقهي من مختلف المرجعيات الشيعية الكبرى، بين معارض لها ومتحفظ عليها. ولأن عمق حركة مبدأ ولاية الفقيه وميدان تجربته الأوحد هما المجتمع الإيراني الذي تتحكم فيه ظروفا سياسية اجتماعية وتاريخية خاصة، فإنه لا يجوز على منظري ولاية الفقيه والتي تشكلت بعامل راديكاليتها الايديولوجية في مجال الصراع السياسي، الجهاز الايديولوجي للثورة الإسلامية في إيران، الإيهام بالمطابقة ما بين ولايتهم وولاية الإمام المعصوم، لأن هذا الإيهام فرضته اعتبارات سياسية لا اعتبارات فقهية. ومن هذا المنطلق فإن نظرية ولاية الفقيه التي تشكل الأساس الفقهي للجمهورية الإسلامية الإيرانية، حتى وإن كانت منبثقة من رحم فكر ديني غير متمركز في "مجتمع مصدر" تظل محكومة بحدها الإقليمي الذي نشأت فيه، حسب سماحة الشيخ الراحل محمد شمس الدين، وبالتالي لا عمومية لها ولا الزام. ولهذا، فعندما غدت نظرية ولاية الفقيه مرجعية فكرية وايديولوجية لحزب الله، تحولت إلى ضرورة تنظيمية من أجل بناء الشخصية الحزبية المنضبطة، والنظام الأمني الحديدي والمغلق، وإضفاء الشرعية على مركزية حادة، وأحادية في القرار، وآلية تنظيمية يكون فيها مصدراً لقرار نابعاً من الهيئات العليا باتجاه القاعدة، لا العكس. وليس خافياً على أحد أن حزب الله هو حزب مناضل، يمارس أسلوبين متميزيين في إطار الاندراج في الحقل الوطني اللبناني الذي يشمل أدياناً متعددة. أسلوب المقاومة في مواجهة الاحتلال الصهيوني ضمن سياق استراتيجية تلاؤم حزب الله مع المعطيات اللبنانية والإقليمية، المحددة بعوامل سياسية، تجري تشكلها في إطار ديناميكية التحالف الاستراتيجي السوري الإيراني ومسار الصراع العربي الصهيوني، حيث أن هذا التلازم تغلب عليه البراغماتية والمرونة السياسية ولا علاقة له بنظرية ولاية الفقيه والايديولوجيا. ونظراً لفاعلية حزب الله في هذه المقاومة، التي تحولت الى ظاهرة جهادية في لبنان أرغمت الاحتلال الصهيوني على الانسحاب من جنوب لبنان في أيار عام 2000، فقد أصبح حزب الله يحظى بتأييد وتعاطف شعبي ورسمي كبيرين. المعارضة أما الأسلوب الثاني فهو أسلوب المعارضة التي تندرج في سياق استراتيجية لبننة الحزب، والدخول في اللعبة الديمقراطية، من دون أن يعني هذا أن الحزب قد خرج من حقل شيعيته الاجتماعية السياسية، وبالتالي أصبح حزباً وطنياً على امتداد الوطن اللبناني يستقطب من كافة قطاعات المجتمع وطوائفه. ورغم أن حزب الله يمارس المقاومة والمعارضة اللتين تجعلان منه رقما صعباً في معادلات الحياة السياسية اللبنانية والصراع الإقليمي، فإن حزب الله عجز عن بلورة إنتاج خطاب سياسي وايديولوجي يواكب التطورات والتحولات العالمية والإقليمية والمحلية خاص به بسبب وقوعه في أسر ايديولوجيا الرؤية الإسلامية الايرانية أي نظرية ولاية الفقيه التي لا تراعي الخصوصيات اللبنانية والعربية. ولا شك أن هذا العجز قد جعل حزب الله يعيش حالة من التبعية لم يستطيع الفكاك منها ما دام أنه يستمد من الكيان السياسي في ايران مشروعيته الدينية وامتداده الايديولوجي... والغريب أن الحزب يعيش رهاناته الايديولوجية على مستوى الداخل الإيراني، ليحفظ استقراره التنظيمي الخاص، المبني على آلية عمل ولاية الفقيه، فتراه ينخرط في أرجحيات وأفضليات سياسية على مستوى الداخل الايراني، ويقف على مسافة من ظاهرة الإصلاحيين، ويقلل من عمقها أو جوهريتها على مستوى الداخل الايراني، برغم أنها تبشر بتحولات مهمة على الصعيد السياسي والمجتمعي، ويتجند في معركة التجاذب على المرجعيات الدينية فينادي بتوحيد الولاية والمرجعية على الرغم من الفقر الفقهي لفكرة التوحيد تلك. مراجعة وما دام حزب الله لم يقم بمراجعة نقدية شاملة لأطروحاته الفكرية وتجربته السياسية طيلة المرحلة الماضية، ولم يستطع أن يجد مخرجاً للأزمة البنيوية في خطابه الايديولجي السياسي "وللازدواجيات واجبات" التي يعاني منها، فإنه سيستمر حزباً مقاوماً للاحتلال الصهيوني طالما تسمح له المعادلات الإقليمية بذلك، وكذلك أيضاً مصير العلاقة مع الولاياتالمتحدة الأميركية. وما زالت هذه المقاومة الإسلامية، والنجاحات التي أحرزتها تشكل متنفسا لحزب الله تمكنه من التعايش لبنانياً وعربياً كجزء مقاوم، ولكن من دون أن يتحول الى حزب تغيير وطني، على مستوى الوطن اللبناني، أي على مستوى الدولة والمجتمع اللبناني، لأنه لم يبلور مشروعاً سياسياً يقدم أجوبة مقنعة وعقلانية للأسئلة التي يطرحها الواقع اللبناني، لا سيما تطوير مفهومه الايديولوجي للدولة في كيان تعددي، وتطوير علاقته بالمسألة الديمقراطية، والقطع الحاسم بأنه "لون" سياسي عقيدي في بلد تعددي، وأنه جزء من مشروع لبناني عام، وأن ولاية الفقيه التي تربطه بعلاقة مركزية مع ايران لم تعد تشكل قيداً معيناً على تلبنن الحزب المنشود، لأن ما هو مطروح في لبنان وعلى الصعيد العربي هو تحقيق التجاوز الديالكتيكي للطائفية السياسية وبناء دولة الحق والقانون بالتلازم مع المجتمع المدني الحديث القائم على التعدد والاختلاف والتعارض. أرسل بواسطة الكاتب الى صحيفة الوسط التونسية.