يوم 23 فبراير يوم عالمي من أجل السجين السياسي بتونس ، تواصل استهداف الرابطة عبرمنع مؤتمرها من الانعقاد ، عودة التعذيب بقوة ...ما أشبة اليوم بالبارحة. كل شيء يتحرك في هذا العالم -حتى في الاتجاه السيئ - إلا في بلدنا حيث لا نزال ندور في نفس الحلقة المفرغة منذ قرابة عقدين، ولا بصيص أمل في الخروج من هذا الكابوس لأسباب يعرفها الكل. ورغم هذا اليأس الذي لا نستطيع له دفعا في بعض الحالات فإنه من الواجب للقلة القليلة المصرة على الدفاع عن شرف تونس والتونسيين أن تتجند مرة أخرى في أصعب الظروف وأقساها أمام عودة الأفعى أي التعذيب. في آخر مكالمة تلفونية مع محامي الحرية عبد الرءوف العيادي حكى لي قصة أب ذهب لزيارة ابنه في السجن فلما أتوا له به نزع " كبوسه" وبدأ يندب، وقصة الشباب الذين يحملونهم للتحقيق حملا لعجزهم عن المشي وكم من قصة أخرى يقشعر لها البدن. كثيرا ما سمعت من يعيب عليّ شدة اللهجة والتشخيص " المفرط " واستهدافي للدكتاتور مباشرة، وهو الأمر غير الدبلوماسي الذي ينم عن " جهل" بالسياسة " الحصيفة " التي تفرض على الذي يعرف من أين تؤكل الكتف أن ينقد النظام والسياسة وحتى البلد أما أن يتوجه للمسئول الأول قاطعا معه كل الجسور ومستفزا رجلا همه ذاته قبل كل شيء آخر فالدليل القاطع على البدائية في فن السياسة. بالطبع ضربت دوما عرض الحائط بهذه الترهات لأن الدكتاتور هو حجر الزاوية في النظام الدكتاتوري، فقد ذهبت النازية مع هتلر والفاشية مع موسوليني . لكنني لا أنكر أن لي حفيظة شخصية ضد الرجل والسبب هو.... التعذيب. وهذه حادثة وقعت بحذافيرها وهيكلت بقية تصرفاتي لأنها علمتني بكثير من العمق والاختصار طبيعة الرجل والنظام ولم يأت شيء طوال خمسة عشر سنة يكذب أو ينسّب ما استنتجته منها . والقصة أن الدكتاتور دعاني -على ما أذكر في فبراير أو مارس 91- لحضور جلسة مصغرة في قصر قرطاج للحديث في أوضاع حقوق الإنسان وحضر الجلسة من جانب الحكومة عبد الله القلال كوزير للداخلية ومستشاره آنذاك ل" حقوق الإنسان" المدعو الصادق شعبان ومن جانب المجتمع المدني حسيب بن عمار والهاشمي جغام عن أمنستي ورشيد ادريس عن مجلس حقوق الإنسان وكاتب هذه السطور كرئيس الرابطة. ويومها كان النظام يحاول المحافظة على القناع الذي لبسه بعد الانقلاب الطبي رغم أن بيانات الرابطة بخصوص الانتهاكات الجسيمة كانت شديدة اللهجة ، وكان الدكتاتور ما زال يحاول استمالتها وتحييدها في معركته ضد النهضة. وبالطبع فؤجئنا داخل الهيئة المديرة بالدعوة ورأي فيها جماعة " نبارك هذه المبادرة الايجابية- سبق الخير - وصل السارق لباب الدار" - دليلا على صحة موقفهم وحاولوا تلقيني ما يجب أن أقوله" للسيد الرئيس ". ذهبت للاجتماع يتقاسمني شكّ دفين (وقد بدأت أرصد مظاهر الخبث والخديعة والخطاب المزدوج عند الرجل ) ونوع من الرجاء في أن يكون هذا الاجتماع بداية تغيّر يفرج كربة البلاد والعباد. وعند بدية الاجتماع، وكان باردا ومؤدبا في نفس الوقت، بادرني الرجل بقوله أن بيانات الرابطة عن التعذيب توحي وكأن البلد أصبح شيلي وأن هذا يضر بصورة تونس . كنت أتوقع الهجوم لهذا أعددت ملفاتي بصفة دقيقة وأذكر خاصة أنني أسهبت في الحديث عن ملف عبد الرءوف العريبي وكيف توجهت الرابطة برسائل يوم كذا وكذا لوزير الداخلية تستفسر عن ظروف اختفائه ثم دفنه ومطالبتها المتكررة برفع كل الشبهات حول إمكانية وفاته تحت التعذيب. طيلة الوقت كان الدكتاتور يدخن بعصبية واضحة. فجأة انفجر في وجهي عبد الله القلال مهددا بمتابعتي أمام المحاكم فافتعل تهدئته ليتركني أتكلم . والحق يقال أنني حاولت أن أكون أيضا دبلوماسيا لا لشيء إلا لأنني أمثل هيئة كانت أغلبية فيها تترصدني بالسكاكين وهي التي ستقدمني قربانا للسلطة في المؤتمر الرابع. إذا، قلت ما مفاده أن الرابطة ليست حزبا سياسيا ، ولا تريد شرا بالنظام وليست طرفا في الصراع السياسي وتبحث عن المصلحة العامة لذلك هي لا تدين إلا بعد استنفاذ كل وسائل الاتصال. لكن - وهنا أعتقد أن صوتي ارتفع نبرة- فإن منظمة كالرابطة لا ولن تسكت عن ظروف التوقيف المشينة والمحاكمات الظالمة وخاصة عن التعذيب . استمع إلي الدكتاتور صامتا ثم أحال الكلمة لبقية الحاضرين وختم اللقاء متوجها إلي ّ ومشيرا للصادق شعبان: من هنا فصاعدا أرجو أن تتصل بسي الصادق في كل المواضيع وأن تحل معه كل المشاكل الإنسانية من أجل المحافظة على صورة البلاد .ثم وقف وسلم على الحاضرين معلنا انتهاء الاجتماع وأشار لمستشاره بالبقاء لحظة في حين اتجهنا نحن المدعويين إلى الباب. الحق يقال أنني كدت أطير من الفرحة عندما سمعت الرجل يقول بوضوح ما قاله على رأس الملأ. تخيلوا سعادتي العارمة وقد تبخرت الشكوك والريبة وسوء الظن وتراءت لي ملامح فترة سيمكن فيها الحديث مع السلطة وحل المشاكل الأليمة التي كانت الرابطة تسجل منها مئات الحالات. ولاستعجالية الأمور قررت انتظار الصادق شعبان فبقيت واقفا عند الباب إلى أن خرج وبادرته بطلب موعد حتى نبدأ في بحث القضايا العالقة وما أكثرها. واجهني الرجل ببرود لم أفسره وقتها قائلا تعال متى تريد . قلت له أريد الآن . قال لا تعال غدا. ومن الغد كنت في مكتبه على الساعة التاسعة كما حدد لذلك. أذكر أنني كنت أحمل ملفاتي بحرص كبير وأن بعضها بللها المطر لأن سيارتي ( ال R9 البيضاء المتهالكة التي خربها البوليس السياسي لأموت فيها محترقا والتي سرقها سنة 2000 ) تعطلت كالعادة فوصلت بتاكسي بشق الأنفس للموعد لكن بفرح كبير وآمال عريضة. استقبلني الكاتب متجهما وتركني أنتظر ساعة فلم انزعج لتعودي على مواعيد التوانسة. ثم أعلمني حوالي الحادية عشر أن سي الصادق لن يأتي اليوم . قلت له مصرا على غبائي إذن متى سيأتي . قال تفقده غدا . خرجت بملفاتي وبي بداية شك كنت أرفض الاستسلام له. هذا رئيس دولة قال على راس الملأ لمستشاره باستقبالي ...يا رجل كف عن سوء الظن والريبة . رئيس دولة أمر وبوضوح وأمام شهود...الخ . من الغد عدت بملفاتي فبادرني الكاتب أن السيد شعبان مريض. تلك اللحظة فهمت أن الاجتماع كان للاستهلاك الإعلامي ...أن الرجل أعطى تعليماته الحقيقية بعد خروجنا ، أنه ربما قال لدميته:" ابعثو يشيط "، وربما كلمة أخرى من قاموسه الحافل على ما يبدو بالبلاغة تحت الحزامية. آنذاك ترسخت لدي القناعة أن الرجل سفيه وكذاب و بالتالى لا يرجى منه خير وإنما عليّ توقع كل الشر منه للرابطة ، لتونس وبالطبع لي شخصيا. هذا ما تم فعلا وما أثبتته الأحداث للأسف الشديد ولسوء طالع تونس والتونسيين. كانت قناعتي ولا تزال أن رجل بلا قيم رجل بلا قيمة وهذا الرجل الذي يبحث عن قيمة خارج القيم سيترك اسمه مقرونا في تاريخ تونس بالفساد والتزييف والقمع وخاصة بهذا الشر المطلق والعهر المطلق والجريمة التي لا تغتفر: التعذيب. وها هو يعود إليه الآن بكل قوة بعد الموجة الأولى لبداية التسعينات علما وأن الجريمة الكبرى لم تختف يوما من بلادنا. سنة 1999 نشر المجلس الوطني قائمة أولية بالجلادين آن الأوان لتحديثها ، لا بإضافة أسماء المنفذين فقط وإنما بوضع أسماء المسئولين الحقيقيين أي الدكتاتور على رأس القائمة و وزير الداخلية ومدير الأمن وكبار الضباط في سلك الجهاز القمعي. هؤلاء هم المجرمون الكبار الذين يجب على الذاكرة الجماعية ألا تنسى أبدا ما ارتكبوه في حق الوطن والإنسان حتى تتمتع عائلتان فاسدتان مفسدتان بحق النهب المباح والسلطة إلى الممات ومعاملة التونسيين كقطيع من البقر في مزرعة السيد الوالد ودفع شبابهم للعنف والانتحار والجريمة و" الحرقان" بعد أن سدوا أمامهم كل الأبواب.