يبرهن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على امتلاكه لفن الدبلوماسية وعلى قدرته في استغلال الفرص التي تتاح لفرض نفسه لاعبا رئيسيا على المسرح الدولي رغم صغر سنه وحداثة وصوله إلى قصر الإليزيه. فبعد اللقاء «الرجولي» بينه وبين الرئيس الأميركي دونالد ترامب في بروكسل على هامش قمة الحلف الأطلسي، واستقباله الرئيس الروسي نهاية ماي في قصر فرساي بمناسبة تدشين معرض عن القيصر بطرس الأكبر، ها هو يستفيد من الاحتفال بذكرى الثورة الفرنسية «14 جويلية»، ليستضيف الرئيس ترامب بمناسبة العرض العسكري في جادة الشانزليزيه. وسيطرح مقترح أن الصيغة الفيدرالية هي الأنسب بالنسبة لسوريا، وأن العمل بها يحتاج لدعم من الأطراف الإقليمية والدولية على السواء. وحجة ماكرون أن احتفالات هذا العام تصادف الذكرى المائة لدخول القوات الأميركية الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء وعلى الجبهة الفرنسية. وقبل ذلك، سيكون ماكرون قد جمع الاثنين المقبل مجلسي النواب والشيوخ في جلسة استثنائية في قصر فرساي، لتوجيه خطاب يفترض أن يتضمن توجهات عهده وأولوياته في الداخل والخارج. وبالطبع سيكون الملف السوري من بين الموضوعات التي سيتناولها. في 28 ماي، اعتبر ماكرون وإلى جانبه الرئيس بوتين أن معاودة استخدام السلاح الكيماوي في سوريا هو «خط أحمر»، وأن فرنسا مستعدة للقصاص من الجهة التي قد تستخدمه حتى وإن كان عليها التدخل «منفردة». وبعد أن حذر البيت الأبيض من التحضيرات التي أكد أن النظام السوري يقوم بها في مطار الشعيرات لتوجيه ضربة كيماوية جديدة، سارع ماكرون ل«التنسيق» مع ترامب من خلال اتصال هاتفي مطول. وجاء في بيان صادر عن قصر الإليزيه، أن الرئيسين «اتفقا على الحاجة للتنسيق من أجل رد موحد» على تطور خطير كهذا، ما اعتبر في العاصمة الفرنسية أنه «عملية ردع» مسبقة موجهة للنظام السوري، ولكن أيضا لحلفائه. وجاء كلام وزير الدفاع جيمس ماتيس أمس حيث أكد أن النظام «فهم» الرسالة ليبين أن واشنطنوباريس نجحتا في عمليتهما وأن ما حصل في خان شيخون في 4 أفريل «لن يتكرر». حقيقة الأمر أن كثيرا من المحللين السياسيين والعسكريين أبدوا «تحفظات» قوية لجهة قدرة باريس على القصاص منفردة من الجهة التي قد تلجأ مجددا إلى السلاح الكيماوي، مذكرين بالتجربة المُرة التي عاشها الرئيس السابق فرنسوا هولاند أواخر أوت 2013، عندما تراجع الرئيس أوباما عن تنفيذ تهديده بمعاقبة النظام في حال اجتاز «الخط الأحمر»، «الكيماوي». وعندها وجدت باريس نفسها وحدها في الساحة فتراجعت عن استعداداتها بعد أن كانت الخطط قد جهزت وطائرات الرافال تنتظر الأوامر. لذا، فإن ماكرون سارع للتنسيق مع الرئيس الأميركي حتى لا تجد باريس نفسها مجددا في وضع حرج. بيد أن الأهم هو أن لقاء ماكرون - ترامب سيشكل فرصة جديدة للطرفين للنظر في الملف السوري وفي السيناريوهات المختلفة لمرحلة ما بعد «داعش»، واستعادة الرقة وتقليص رقعة سيطرته على جزء من الأراضي السورية. تقول المصادر الفرنسية التي تحدثت إليها «الشرق الأوسط» اللندنية، إن باريس «تأمل» في أن يأتي إليها ترامب وهو يحمل «تصورا» متكاملا عما تريده واشنطن في سوريا، وعن مقاربتها ليس للعمليات العسكرية، بل خصوصا للجوانب السياسية ولمستقبل سوريا. والجدير بالذكر أن باريس تعمل على بلورة «خطة تحرك» لأنها تعتبر أن ما يحصل في جنيف كما في آستانة «غير كاف»، وليس له القدرة على التوصل إلى الحل السياسي الشامل الذي من دونه «لن تنتهي الحرب في سوريا». وبحسب هذه المصادر، فإن «الاستدارة» التي قام بها ماكرون عندما اعتبر في مقابلة لمجموعة من الصحف الأوروبية صدرت قبل أسبوع تماما، أن بلاده لم تعد تجعل من تنحي الأسد «شرطا لكل شيء» وأن أحدا «لم يقدم له خليفة شرعيا للأسد»، جاءت بمثابة «هدية» للرئيس بوتين للتقارب معه وللعودة إلى الملف السوري الذي هُمشت باريس فيه. وتضيف هذه المصادر أن ماكرون يريد من خلال السير خطوات باتجاه الرئيس الروسي أن يصل إلى مرحلة يتمكن معها من «التأثير» عليه. وبذلك يكون ماكرون قد أعاد تموضع فرنسا «بين روسيا وأميركا» ما سيمكنه من أن يقدم مقترحاته للحل في سوريا. ويذكر أن ماكرون أرسل وزير خارجيته جان إيف لوديان إلى موسكو نهاية الأسبوع الماضي، حيث أجرى سلسلة لقاءات وصفت ب«المعمقة»، مع نظيره لافروف ومع وزير الدفاع شويغي. ترى باريس أن الحقيقة الجديدة التي ستدخل على المشهد السوري هي إقامة مناطق «خفض التوتر» التي يراد لها، مع الوقت، أن تصبح مناطق «بلا توتر»، خصوصا إذا تم التوافق على تعيين حدودها وتوفرت لها قوات مراقبة دولية. وهذان الموضوعان سيكونان أساسيين في اجتماعات آستانة القادمة، وخلال قمة العشرين التي ستستضيفها مدينة هامبورغ الألمانية بعد ثمانية أيام. وبحسب النظرة الفرنسية، فإن المهم اليوم هو النظر في كيفية عمل هذه المناطق والتداخل فيما بينها ومع المركز. بيد أن السؤال الأبرز يتناول كيفية الانتقال من هذا الواقع إلى مشروع مصالحة وطنية يحافظ على الدولة السورية. وجواب باريس هو أن تطورا من هذا النوع يحتاج إلى «دينامية سياسية جديدة» وإلى وضع دولي يتيح عمليا ولوج هذه العتبة. وفي أي حال، فإن باريس كما تقول مصادر فيها، تعتبر أن الصيغة الفيدرالية هي الأنسب بالنسبة لسوريا، والعمل بها يحتاج لدعم من الأطراف الإقليمية والدولية على السواء. وفائدة هذا الطرح أنه، من جهة، يبعد خيار التقسيم الذي سيطرح بقوة في حال انفصل إقليم كردستان العراق عقب الاستفتاء المقرر في 25 سبتمبر المقبل، ومن جهة ثانية، فإنه يوفر صيغة ل«تعايش» كافة الأقاليم السورية، فضلا عن أنه «يحل» مشكلة مصير رئيس النظام السوري الذي ستتلاشى صلاحياته مع قيام نظام كهذا.