ورد في الحديث الصحيح أنه قال عليه الصلاة والسلام : „ الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة “. أي : أن الناس يحتاجون إلى راحلة ( قائد) بمثل ما تحتاج الإبل الكثيرة ( مائة) إلى راحلة يعلوها صاحبها يقود بها إبله من أمام أو يسوقها بها من خلف. يؤكد هذا الحديث من لدنه عليه الصلاة والسلام سنة إجتماعية وقانونا من قوانين النهضة بسبب أن البشرية بحاجة دوما إلى قيادات وزعامات وهو السبب ذاته الذي بعث الله به الرسل والأنبياء والكتب والدين يتلون عليهم الآيات ويزكونهم ويعلمونهم الكتاب والحكمة وهو السبب ذاته الذي جعل المرسلين يحرصون على تأهيل نخبة من أتباعهم ( الحواريون والصحابة) يورثونهم من العلم والإدارة ما يتسع له وادي كل واحد منهم ( فسالت أودية بقدرها).. ليس في ذلك تهوين من شأن الإنسان ولا بخس له ولكن فيه تأكيد لمدنية الإنسان بمثل ما قال العلامة إبن خلدون ( الإنسان مدني بطبعه) وهي مدنية تجعل الإنسان بعضه لبعض خدم كما قال الشاعر .. يؤكد الحديث بعد تأكيده حاجة البشرية إلى قيادات وزعامات مدنية الإنسان وحاجته إلى الإجتماع والتعاون وذلك بسبب أن من لم يكن قائدا في جماعته في أي حقل فإنه يقوم على ثغرات حيوية من حاجات الجماعة.. غير أن مؤهلات الإدارة لا يؤتاها كل من هب ودب والناس دون إدارة قيادية سرعان ما يشغب عليهم الخلط والفوضى فتذهب الأعمال الكبيرة سدى.. إبراز الرواحل : من نجاح الراحلة. قبل الحديث عن إبراز الرواحل لا بد من الحديث عن صنع الرواحل. من يعيش مع سنة الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام وسيرته يدرك بيسر أن منهجه التربوي الجامع ساهم بأقدار كبيرة جدا في صنع قيادات الصحابة. أقول : بأقدار كبيرة بسبب أن الإنسان يولد مزودا بموروثات فطرية وغريزية وجبلية من جهة وبعضها سليل آبائه وأجداده وأخواله وبمثل ذلك تصنع منه البيئة الأولى جزءا مقدرا ثم تترك بعد كل ذلك مساحة كافية لما سماه الناس الإكتساب غير أن الإنسان يظل في مختلف مراحل حياته قابلا للتعلم والإكتساب والتأثر بل قابلا لأن تصاغ حياته من جديد بصفة كلية تقريبا وهو الأمر الذي كان عليه كثير من الصحابة سيما ممن أسلم في سن متقدمة أو من أفلح في جعل الإسلام حياة جديدة له من مثل الفاروق عمر عليه الرضوان.. من مظاهر المنهاج التربوي الذي سلكه الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام فصنع به الصحابة أو قياداتهم صنعا جديدا .. أنه يجيب إجابات مختلفة عن السؤال الواحد. خذ إليك مثل السائلين عن الساعة : قال لأحدهم ( ماذا أعددت لها ) وقال للآخر ( ساعتك يوم موتك) وقال لثالث : ( إذا ضيعت الأمانة فأنتظر الساعة ) إلى آخر ذلك .. بل خذ إليك مثال السائلين وصية منه عليه الصلاة والسلام.. يوصي كل واحد منهم بما يناسبه .. بل يكون في أحيان سالكا بعض الشدة والقوة مع صحابي يريد منه الإرتفاع إلى مصاف القيادة فلا يقبل منه غير ذلك بينما يرضى من غيره دون ذلك .. صناعة الرواحل وعامل الزمان والمعافسة. يقوم المنهاج التربوي المحمدي على الجمع بين القول والعمل. بل يقوم على جعل الميدان العملي مسرحا للتربية والتأهيل والإعداد على نحو تحتل فيه التربية القولية مساحة قليلة جدا ثم سرعان ما يمتحن الناس إمتحانا عمليا وليس أدل على ذلك من الشهيد سمية أول شهيد في الإسلام. ذلك الشهيد الذي لم يسمع من القرآن الكريم غير آيات معدودات في مكة ولكنه أسلم نفسه بطواعية لأسمى غاية أي الشهادة في سبيل الله سبحانه في وقت مبكر جدا.. وبمثل ذلك وقع للصحابي بلال وبالجملة كان المعيار الميداني حتى في أعنف الأحوال هو المحك. فمن ثبت على ذلك وصبر وصابر وجالد كان يسيرا عليه بعد ذلك أن يتلقى المعارف والعلوم ويتقلد المناصب الإدارية والقيادية.. ثم جاء الوقت المناسب لإعلان الرواحل. قال عليه الصلاة والسلام : 1 أرفق أمتي بأمتي أبوبكر. 2 أقواهم في دين الله عمر. 3 أصدقهم حياء عثمان. 4 أصدقهم لهجة أبو ذر. 5 أقضاهم علي. ( نسبة إلى القضاء). 6 أفرضهم زيد. ( نسبة إلى الفرائض أي تقسيم تركات الهالكين أي الموتى). 7 أعلمكم بالحلال والحرام معاذ. 8 أعلمهم بكتاب الله أبي. 9 أبو عبيدة أمين هذه الأمة. 10 أبوهريرة وعاء من العلم. وإعلانات أخرى يضيق عنها المجال هنا.. ماهي مقاصد ذلك الإعلان. قد يظن بعض السذج أن ذلك يعرضهم إلى قطع الرقاب كما ورد في حديث آخر ينهى عن المديح والإطراء بحضرة الممدوح. لا يرد ذلك بسبب أن الفاعل هو المعصوم بوحي السماء. ولكن ذلك لا يحمل على القول بأن ذلك خاص به ولا وجه للخصوصية هنا التي يتوسع فيها بعضهم توسعا يجعل الدين وأحكامه خاصا بمحمد عليه الصلاة والسلام وليس دينا عاما لكل إنسان في كل زمان وكل مكان وفي عرف وحال.. النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام يعرف حق المعرفة بأن الممدوحين من أصحابه سيدركون ما قيل فيهم في أول فرصة ممكنة ولم يصرفه ذلك عن ذلك. بما يعني أن الأمر إما مصلحة كله أو رجحت مصلحته مفسدته.بل كان في بعض الأحيان يقلد الرجل السمعة والذكر في حضرته بمثل ما أمر الأنصار بأن يقوموا لأحد أسيادهم في الجاهلية فلما أسلم كان كذلك سيدهم وقال لهم بحضرته ( قوموا لسيدكم) ولكنه في مقابل ذلك نهى عن القيام إليه هو.. من مقاصد ذلك الإعلان. 1 ضرب من ضروب الجزاء العاجل والجزاء العاجل شريعة إسلامية ثابتة سماها الحديث الشريف ( عاجل بشرى المؤمن) وهو الذكر الحسن من الناس في حياة المذكور. ولكنه جزاء معجل لا يبخس المأجور أجره في الآخرة شيئا. 2 تشجيع أولئك الرواحل والقيادات وهو المنهاج التربوي الإسلامي القائم أبدا على الترغيب والترهيب. ومعلوم أن التشجيع في مكانه من أكبر الحوافز التربوية على إلتزام الجد والمثابرة. يستوي في ذلك الكبير والصغير والتقي والفاجر بسبب أن الجبلات فينا والغرائز هي هي إنما تتبع الآدمية والبشرية وليس سوى ذلك. 3 دعوة الناس إلى إتخاذ تلك الرواحل قدوات وأسوات في حقولهم المثني على آدائهم فيها وربما يكون ذلك هو المقصد الأسنى أو قل المقصد العملي الأكبر. أنظر دقة التعبير النبوي. عندما يقدم عليه الصلاة والسلام رجلا إنما يقدمه بكسبه وليس بكسب غيره ولا بكسوبه كلها جملة. من ذلك إختياره صفة الرحمة في أبي بكر رغم أن أبابكر له مناقب أخرى كثيرة ولكن خلة الرحمة فيه كانت بارزة والنبي الأكرم عليه الصلاة والسلام يريد أن يقتبس الناس منه ذلك. وبمثل ذلك قل عن قوة الفاروق في الحق وقضاء علي وعلم معاذ إلخ.. ذلك يؤشر بجلاء ووضوح إلى أنه عليه الصلاة والسلام إنما يريد الخلة الطيبة التي لا بد لأمته منها ولكن بما أن الخلة لا بد لها من رجل يتقمصها فإنه يذكر صاحبها بالتبعية والضرورة. المقصد الإجمالي العام. المقصد الإجمالي العام من ذلك هو : تعليمنا أن حسن الخلق في جماعه. عند فلان رحمة وعند علان قوة وعند فلانة علم وعند علانة إدارة إلخ .. وبذلك يتكون المجتمع الإسلامي جامعا لخلق الخير التي يحتاجها لقيامة ووجوده وتجدده .. لذلك نجده عليه الصلاة والسلام أخذ من كل صحابي كسبه الأثرى فإذا جمعت ذلك جمعت الخير من أطرافه. ولذلك لم يقصر حديثه عن خلق واحد ولا عن صحابي واحد. الدرس الأبلغ. بمثل ذلك نحتاج نحن اليوم إلى شيء من ذلك. إذ الخوف من الرياء كما قال أطباء القلوب هو الرياء ذاته. لا خوف على الرياء في مثل هذه الحالات إذا كانت مناسبة لخلقها ولأصحابها من جهة فإذا وقع شيء من ذلك فهو مغفور برحمة الجماعة من جهة أخرى لأن التوجيه هنا جماعي وليس فردي ولكن بشرط أن نلتزم خلقا آخر يعدل الكفة إسمه : نقول للمسيء أسأت بقدر ما نقول للمحسن أحسنت.. ذلك خلق في العرب شحيح ولكن تجده في الحضارة الأوربية المعاصرة خصبا ثريا.. فهلا إقتبسنا منهم ذلك وهلا إستننا بالحبيب محمد عليه الصلاة والسلام قبل ذلك.. والله أعلم.