منذ انتصار الثورة الثاني يوم القصبة المشهود الذي أطاح بحكومة محمد الغنوشي، على اعتبار ان الانتصار الأول كان يوم 14 جانفي بهروب المخلوع، والتونسيون جميعهم يتحسسون انجازا ملموسا لانتصارهم ذاك فلا يجدون سوى السراب والأماني، وتتكاثر المخاوف تغذيها صراعات الأحزاب والجمعيات والمؤسسات والهيئات والشخصيات، من القادمين والقادمات من اوروبا وغيرها بمليارات المليمات...بينما نحن لم نعلم بعد مآل الأموال الأولى، هل عادت أم أعيدت سرقتها ..كما لم نعلم ما هو مصير قاتلي أبنائنا وإخوتنا، هل سجنوا أم هربوا أم أعيد إنتاجهم مسؤولين في مناصب أخرى غير معلومة..ومن حين لآخر تفاجئنا حكومة السبسي العظيم بتعيين لأحد رموز النظام وعملاء اليهود والامركان... وفي المقابل تطلق ثلة من المتأدلجين المتثاقفين الذين تربوا سنين طوال، زمن المخلوع، على ممارسة الدعارة السياسية والاقتصادية والثقافية، فاستبطنوا قدرا من البذاءة والرداءة لم يرى له مثيل في بلاد العرب ومن جاورهم...تطلق أيديهم وقبلها أفواههم وأجسادهم لاستفزاز التونسيين، المتحزبين منهم وغيرهم، فيتعرضون لرموز هويتهم ويسخرون من معتقداتهم.. بدعوى الإبداع وحرية التعبير بينما تصادر نفس الحرية من غيرهم ممن يدافعون عن المشترك الأكبر بين التونسيين ...كل ذلك وغيره من الهواجس الاقتصادية والاجتماعية، التي يضخمها الوزراء الأفاضل متى شاءوا فيطلقون علينا أرقاما مفزعة عن الخسائر الاقتصادية البالغة آلاف المليارات، ولا ندري من أين جاءت هذه الإحصائيات التي لا تتراجع أبدا.. أنتج لدى التونسيون جميعا قناعة أن السيناريو الأقرب لمستقبل تونس هو اغتراب جديد للشعب في فوضى التخويف الاقتصادي والسياسي يدفع التونسيين تدريجيا للاقتناع أن وضع البلاد والعباد لا يحتمل إلا القبول بالموجود ما دام يضمن المساعدة الخارجية ويحقق لنا رفاهة مضمونة عوضا عن المغامرة بالتمسك بالوطنية والهوية المسلوبة..سيما بعد إن تبينا أمام السينما وقصر العدالة ، وفي مسرحية أخرجها إعلام بن علي نفسه الذي عودنا على ذلك طويلا، أن مناصري الهوية العربية الإسلامية هم من جنس آخر يحملون السيوف والسياط يذبحون الناس ويشنقونهم في الساحات إنهم مخطئون فلا يتسامحون إذا تعرض أحد إلى عقائدهم بالسب والتجريح وإلى رموز دينهم بالسخرية جهرا وبالتلميح. وعليه فالسيناريو الأقرب لدى الكثيرين هو أن ينجح هؤلاء الثوريون الجدد بقايا وفضلات النظام البائد في استفزاز المجتمع وجره إلى دوامة من الصراعات والتجاذبات والعنف والعنف المضاد وهو ما يجعل التونسيون يقبلون بالتفاف جديد على إرادتهم بإعادة إنتاج عهد أكتوبري بدل النوفبري الراحل بخروج منقذ للبلاد وصانع لخريفها القادم ولا يهم عندئذ بمن ينفذ الانقلاب ببقايا الأمن أو العسكر أو بغيرهم. هذا هو الحل الممكن الأول الذي بدا يتبلور بعد انتصار الثورة الثاني وتشارك فيه للأسف أطراف اعتقد التونسيون بعد الثورة أنهم في صفهم على غرار أحزاب نالها ما نالها زمن بن علي وشخصيات اعتقدنا أنه ما زال في ذاكرتها شيء من صفائها القديم، أما اليسار الفرنسي وبقايا المليشيا فهؤلاء من فضلات النظام السابق ولا أحد يتوقع من فضلات شيء أن تكون أقل تعفنا ممن أخرجها خاصة بعد ان فقدت وجوههم بريق الصبغ الذي كانوا يضعونه فوق مسرح المعارضة التقدمية..والله سبحانه الوحيد الذي يخرج الحي من الميت. الحل الثاني والذي يدخل دائرة الممكن بأكثر حظوظ للتحقق هو السيناريو الذي ظهر بعد انتصار الثورة الاول أي مباشرة إثر 14 جانفي لما قررت حكومة البقايا الذهاب إلى انتخابات رئاسية لكن الشعب رفض لأنه ما يزال حديث عهد بالانتصار و شاء الله أن يفتضح أمر رموز المعارضة زمن المخلوع الذين كانوا يزينون المشهد قبل الثورة وسرعان ما استبعدهم الانتصار الثاني بعد ان اكتشف الشعب أنهم للكراسي طالبين وعن مطالبه متنكرين ..فتحققت إرادة الله بالاستجابة لإرادة الشعب فرحل المتسابقون عن كرسي الرئاسة خائبين ولكنهم شرعوا منذ ذاك الخروج من الحكومة إلى المشاركة في تأبيد الانتقالي واستبعاد العودة إلى إرادة الشعب باستحداث صراعات وتجاذبات حول ضرورة المجلس التأسيسي وأهمية الاستفتاء على الدستور القديم، باعتبار أن المجلس التأسيسي ليس أفضل طريق وأن إمكانية إنتاج دكتاتورية جديدة منا قريب سيما أن المحتمل فوزه في الانتخابات لا يجب ان يكون ولو اختاره الشعب ..فشعبنا مايزال حسب رأيهم بالديمقراطية غير خليق ..ولا بد من حمايته ممن سيختارهم ولذلك فالطريق الأسهل والأضمن لحماية الحقوق والمكتسبات الاستفتاء بنفس الميكانيزمات ..وحتى لو نجح الخصوم في تهدئة الواقع وتجاوز الألغام المنتشرة هنا وهناك وفوتوا فرص السقوط في العنف فإن الرئيس المفدى وحاشيته القديمة المتجددة سوف يجد طريقا جديدا لإقصاء أعداء الجمهورية الثانية ومحاكمتهم بالخيانة العظمى. وبين هذا السيناريو وذاك يحاول التونسيون توقع الأخطر والأبعد وتشطح أذهان الكتاب والمسرحيين والمحللين في التفاصيل دون أن يتوقع أكثرهم تفاؤلا أن هناك احتمال ثالث أن تنتصر الثورة التونسية وتحقق أهدافها بالانتقال فعليا إلى الديمقراطية والتوافق على حياة سياسية تعددية يكون للجميع فيها موقع فلا تحكم تونس بدكتاتور جديد !!! الثالث الممكن ...هو النصر الثالث للشعب التونسي الذي سيرفض مجددا الالتفاف على مطالبه والعودة إلى الشارع ..السياسي والثقافي والشبابي...وبكل وسائل النضال تتحرك الأغلبية المغيبة من التونسيين الذين وإن رفضوا الدخول في صراعات حزبية فإنهم لن يطيلوا الصمت عن تهديد تاريخ البلاد وهويتها وانتماءاتها ..لن يقبلوا حتما بمصادرة حقهم في تقرير مصيرهم وهو حق انتزعوه بدماء أبنائهم..لن يقبلوا ان تكون ثورتهم مجرد حلم يغتصبه مناصري بن علي وعملاء الصهيونية وإن عادوا في صورة ثوار تقدميون ..حداثيون..متأسلمون. هذا الحل الثالث يتقدم بأكثر واقعية وصفاء لأنه لا يزايد على أحد بالنضال ولا بالتقدم ولا بالحرية بل يستمد شرعيته برفض الشرعيات المزعومة ويطالب بالعودة إلى شرعية الثورة والشعب ولذلك فهذا الحل الثالث الممكن والمطلوب لا يتمثل في طرف سياسي ولا تمثله شخصيات تحتاج إلى التثبت في صدقها وتاريخها ومساندتها ... إنه الحل الذي تحتاجه تونس وشعبها الذي خرج أيام الثورة رافضا الاستبداد والاستعباد الذي مورس بنفس الشعارات التقدمية والحداثة..فهل كنا نسمع زمن بن علي عن دولة أكثر تقدما وازدهارا في حوض المتوسط الجنوبي وفي العالم العربي أكثر من تونس؟..هل كان لتونس منافس واحد في حقوق المرأة وحرية التعبير والعناية بالشباب بشهادة اغلب أساتذة الجامعات التونسية وأساتذة القانون بمن فيهم رئيس الهيئة وشخصياته الوطنية؟...هل كان بالعالم الإسلامي من يلقب بحامي الحمى والدين غير بن علي فهو لعمري بمثابة خليفة المؤمنين؟.... ألم يكن الأجدر بنا إذن الحفاظ على هذا النظام المثالي في كل شيء؟ لقد فهم الشعب التونسي أن هذه الشعارات خاوية لا معنى لها سوى التعويض عن فقدان الشرعية الشعبية لأن النظام أو الحزب الذي يستمد شرعيته من الشعب لن يحتاج التبجح بالديمقراطية والتقدمية والتحديث...بل يمارسها عمليا ويستمد قوته من قوة الشعب .. محمد القرماسي