يعرَف التوازن غير المستقر في الكيمياء بتلك الحالة التي تسبق تحول مركب كيماوي إلى مركب ثان يراد الوصول إليه. وتتميز هذه الحالة بوجود المركبين معا في حالة تفاعل غير مستقر، وغير دائم في الزمن إلا قليلا. ويحتاج التفاعل من هذا النوع دوما كي يكتمل إلى عامل إضافي، إما أن يكون عامل حث وحض يسرع التحول إلى المركب المنشود، أو عامل تثبيط وإعاقة يبطل التفاعل ويعيد المركب الأصلي إلى حالته الأولى. ولا شك أن الزائر لبلادنا يلاحظ ما لا تخطئه العين من انكفاء كامل وشامل لسلطة القهر والبغي التي كتمت أنفاس الشعب وأذلته طويلا، وتمتع الجميع بحرية تكاد أن تكون بلا حدود، إلا ما يفرضه تحضر الشعب ووعيه واحترامه لأسس العيش المشترك، وفي كل الأحوال لا تتجرأ أي سلطة حاليا على الحد مما افتكه الشعب بأغلى ثمن. وفي المقابل، فإن دعائم النظام التي تتحمل المسؤولية الأولى والأخيرة عما قاساه الشعب وثار من أجل الخلاص منه لم يمسسها سوء تقريبا، ولا تزال متحصنة بنفس مواقعها، ومتمتعة بنفس امتيازاتها، وكأن انكفاءها الظاهري إعادة انتشار في انتظار لحظة إعادة الهجوم: فلا القناصة حوكموا، ولا الجلادون قبض عليهم، ولا عتاة مجرمي التجمع ومن وصمهم الشعب بعصابة السراق منعوا من مواصلة نشاطهم التخريبي ولا هم تمت إحالتهم على القضاء الذي لما يحقق بعد ما يريده من استقلالية منشودة. واستماتت الحكومات المتتالية وآخرها حكومة السبسي في حماية أركان ودعائم النظام السابق من أية محاسبة جدية، عامدة إلى أساليب الإلهاء والتعتيم، ومحافظة من أجل ذلك على إعلام موجه وفاقد للمصداقية. هذان إذن هما طرفا المعادلة التونسية: بين شعب متحفز، غيور على ما افتكه من حرية وما حققه من عزة وكرامة، حريص على تحقيق أهداف ثورته من جهة، وبقايا الدكتاتورية المتمترسة في مواقعها، والرافضة للاعتراف بما اقترفته في حق شعبها والاعتذار له والنزول عند حكمه من جهة أخرى. ولسنا بحاجة إلى بذل جهد كبير لندرك أن ما تعيشه تونس اليوم لا يمكن أن يستمر لوقت طويل، وأنه لا مناص من أن ترجح كفة أحد الطرفين في النهاية.
وبينما استطاعت قوى الردة والجذب إلى الخلف أن تربح الوقت آنا بعد آن، من 15 مارس إلى 24 جويلية، إلى 18 ومن ثم 23 أكتوبر، مؤخرة قدر الإمكان ساعة الحسم، ومعولة على انطفاء جذوة الثورة وعلى إعادة بناء تحالفاتها الداخلية والخارجية على أساس التلاعب من جديد بالإرادة الشعبية، مطلقة الوعود تلو الوعود، ناكثة لها الواحد بعد الآخر، فإنه من المؤسف أن القوى السياسية والاجتماعية التي تريد استكمال أهداف الثورة قد وقعت إلى الآن ضحية حسابات خاطئة دفعت بها إلى انتهاج مسار يصب في صالح الردة من جديد. إذ لا شك أن العامل الوحيد القادر على حث المسار الذي افتتحته الثورة وحضه ودفعه هو الضغط الشعبي المتواصل والمتصاعد حتى تحقيق الهدف النهائي للثورة وهو إرجاع السلطة للشعب عبر انتخابات حرة غير مزورة، مرورا بتحقيق جملة أهداف حيوية أصبحت اليوم معلومة ولم يفتأ الشعب يطالب بها، على رأسها وضع حد نهائي للإفلات من العقوبة بخصوص الجلادين والقناصة وعصابة السراق، وتحقيق استقلالية القضاء وتحرير الإعلام... ولاشك أن التفريط بهذا العامل تحت أي ذريعة يترك المجال مفتوحا أمام العوامل المثبطة والساعية إلى العودة إلى وضع شبيه بالذي ثرنا عليه، مع بعض الرتوش والزينة. وهذا بالضبط ما نجحت فيه المناورات المتتالية لقوى الردة والرافضين للإرادة الشعبية الحرة. فقد انخرطت جميع مكونات المنتظم السياسي في معزوفة توفير" الاستقرار" التام واجتناب "توتير" الشارع بانتظار أن يفي ائتلاف الخائفين من الشعب بوعده بإرجاع السلطة إلى الشعب.... وقد أخل هذا الموقف إخلالا خطيرا بالتوازن القائم حاليا بين إرادة الشعب وإرادة قوى الردة، ويوشك إن هو تواصل أن يرجح كفة لا نود جميعا أن تقوم لأصحابها قائمة.