لا أعرف عبدالباري عطوان شخصيا ولست من أصدقائه ولا حتّى من معارفه أو المتكاتبين معه، فقد حاولت أكثر من مرّة الاقتراب من أعمدة صحيفته لنشر ما يخطّ قلمي الذي لم أره – دون غرور؛ أقلّ شأن من الأقلام الناشطة على "القدس العربي" - دون جدوى، غير أنّي اليوم أقف بجانبه وإلى جانبه متفهّما مظلمته مناصرا له، اعترافا له منّي بدوره الرّائد في هذه الأمّة إعلاما وتحليلا ودفاعا عن المكتسبات وتصويبا للتوجّهات وغيرة على الأعراض وتنبيها إلى الإخلالات... وقد نبّه عبدالباري إلى عدم ارتياحه لوجود شخصيّة فرنسية يهوديّة صهيونية سمّاها (هو: برنار ليفي)، في بنغازي معقل الثوّار كما يسمّيها الإعلام الغربي. وقد ربط عدم ارتياحه ذلك بما عرف عن هذا ال"برنار ليفي" من مواقف عنصرية وصهيونية وصلت حدّ مناصرة الكيان الصهيوني في حربه المبيدة على قطاع غزّة حيث استعمل فيها الفسفور الأبيض؛ ما نتج عنه حرق أكثر من 1400 مواطن عربي مسلم وتدمير أكثر من ستّين ألف مسكن وتشريد أهله كما وثّق عبدالباري نفسه. وممّا نمّى عدم الارتياح لديه هو تسرّب أخبار تفيد بنقله رسالة من قيادة الثوّار (المجلس الوطني الانتقالي الليبي) إلى قادة الكيان الصهيوني تُطمئنهم على مستقبل العلاقات بينهم... فلمّا كذّبت قيادة المجلس المذكور الخبر دعا عبدالباري إلى إشفاع التكذيب لتفعيله بطرد وإبعاد هذا "الصديق" الملاصق (برنار ليفي) مؤكّدا أنّ مثله لا يأتي بخير!...
أقول: أنّه كان يمكن التعامل مع هذا الأمر بحكمة ونضج وبُعد نظر ومراعاة للمسلمين الذين لم يملّوا من رفع أيديهم بالدّعاء سائلين الله سبحانه وتعالى لإخوانهم التمكين والنصر على الأعداء في ليبيا واليمن وسوريا وغيرها من البلاد... فالمسلمون العاديون وإن بعدوا عن مواقع القرار وإن بدت عليهم مسايرة قرارات مَن تحمّلوا عبء النطق بأسمائهم، يعلمون جيّدا أنّ هذه الهيئات الدوليّة بدءً بعصبة الأمم وانتهاء بآخر هيأة منحت نفسها صلاحيّة العمل في ديارنا لمراقبة خياراتنا وانتفاضاتنا والتأثير ب"النصح" على توجّهاتنا، قد اتّفقت كلّها على عدم القبول بكلّ ما ينبع من ذواتنا لا سيّما إذا كان ذلك خادما لقيم ذواتنا... وعليه فإنّ أيّا من هذه الهيآت لن يكون شديد التحمّس إلى رؤية بلداننا تنعم بالحرّيات العامّة والخاصّة وبالاستقرار والهدوء أو تتوخّى آليات حكم رشيد وديمقراطيّ... ذلك أنّ هذه العوامل إذا ما توفّرت لنا قد تسيئ إلى صورهم أو قد تحدّ من تواجدهم بيننا وسطوتهم وسيطرتهم علينا... وإذن فإنّ حلف الناتو لا يتدخّل حقّا إنسانيّا في ليبيا ولكنّه يفعل ذلك "إنسانيّا"... وقد لا يغفل وهو يتصرّف ب"إنسانيّة" – قد تكون عالية إذا اشتدّ الوطء على الثوار – أن يدعو المجلس الوطني الانتقالي الليبي إلى استضافة هذه الشخصية أو تلك لا سيّما إذا نجحت تلكم الشخصيات في حيازة ثقة "مفروضة" أوجبتها وضعية الأيادي، كما في حال برنار ليفي الفرنسي أصيل أوّل بلد اعترف بالمجلس؛ اقتصاصا – ربّما - من عقيد قد يكون ارتكب معهم ذات يوم موقفا أساء إلى كبريائهم، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دائما وإذ قال: "اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنىً، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ"... فعبدالباري عطوان قد نطق بما ننطق به نحن في أنفسنا دون اطّلاع الآخر على ما في أنفسنا... وقد كان يمكن – وانطلاقا من معرفة مواقف عبدالباري المشرّفة ودفاعه المستميت عن العرب والمسلمين ولا سيّما منهم الثوريين – أن يُسمع له ويُؤخذ بنصيحته، بدل أن تميل الكفّة لصالح الصهاينة بإفراحهم برؤيتنا متدابرين متنابزين نابشين في دنيا الرّذيلة باحثين عن تهمة نريد بها كسر الظهر والقامة والأنف، كتلك الخبيثة التي رُمِي بها ظلما عبدالباري وهو منها كما أكّد وأرى بريء براءة صدق وتنزيه!...
وإنّي إذ علّقت ذات يوم - تحمّسا – في أحد المواقع على كلام شيخ أحسبه قد جافى الواقع لمّا اتّهم الثوّار بالتهالك والاستسلام إلى الغرب، وعاتبته على ذلك مبيّنا أن لو استجاب المسلمون لنصرة إخوانهم في ليبيا لما أكرهوا على "الارتماء" في أحضان غيرهم... فإنّي اليوم بالاستمرار على ذات الموقف أنبّه إلى المخاطر التي قد تتناوش قادة الثوّار على غفلة من أنفسهم أو إعجاب بها يورّثها العُجب... ولعلّ الغفلة تبدأ بحالة الاشتباه أو الالتباس التي تقرّب البعيد وتبعّد القريب وتخذله وتحقّره كما في حالة الصهيوني (برنار ليفي) والمسلم النّصوح عبدالباري عطوان عند قادة المجلس... فالله أسأل أن يحفظ الثورة الليبية وغيرها من الثورات في تونس ومصر واليمن وسوريا من شرّ العاملين على إفشالها بالتخذيل أو بالتآمر والفتنة... وما أفلح قوم رأوا في عبدالباري وغيره من المثقّفين الرّساليين المعروفين بمواقفهم النّبيلة لدى العامّة والخاصّة أدوات هدم أو حاويات ارتشاء!...
عبدالحميد العدّاسي الدنمارك في 10 يونيو / جوان 2011