كان كاتبنا من خيرة الأقلام التي يركن إليها القارئ الباحث عن الكلمة الرّشيقة الرّسالية والجملة الطيّبة الآسرة، ثمّ حدث أن مرّت بباب نفسه مؤثّرات – حذّرتُه من بعضها مرّاتٍ ناصحا - ظلّت عاملة جاهدة فيها (في نفسه) حتّى هدمت كلّ أو أغلب ما كان فيها من قيم مركوزة، فأمسى بعد ذلك إمّا مواطنا أروبيّا يهدّد أمن من لجأ مستضعفا إلى أروبا وإمّا مسلما ديمقراطيّا ليبراليّا، وإمّا متعاليا هازئا بكلّ ما هو إسلاميّ غير أروبيّ غير ديمقراطيّ غير ليبراليّ... انتقد التجربة السودانية والإيرانيّة والأفغانيّة والفلسطينية متمثّلة في حكومة حماس بغزّة الحبيسة، فكلّها كانت تجارب إسلاميّة، وربط نجاح التجربة التركيّة بنشوئها وترعرعها في بيئة علمانيّة غير إسلاميّة... فالإسلاميون عنده – وقد كان منهم (ولا يحتجّ أحد ب"وشهد شاهد من أهلها"، فقد علّمنا المجتمع المديني المدني الأوّل أنّ الكثير وإن شهدوا ليسوا من أهلها) – عاجزون على النفع عاجزون عن الإصلاح عاجزون عن نكران ذواتهم والتفرّغ لمصلحة بلدانهم!... وقد أغراني اليوم مقال له بعنوان "هل أتى زمن الإسلاميين؟" نُشر على اليوميّة التونسية "الصباح" بتاريخ 01 جوان 2011، فوجدت الكاتب فيه مخلصا لخطّه الذي حفظه وتعلّمه منذ أيّام صندوق 26/26...، فلا الثورة طوّرت فكره ولا تعامُل النّاس مع الإسلاميين النّابتين من السجون والمنافي ومن بين أنياب الذين أكلوهم زمن التغيير المبارك ساعده على الاقتراب منهم وفهم حقيقة ما يجري في حقول عملهم الشفّاف. بل على نقيض ذلك، فقد وجدّته – كعادته – يجيد الدسّ وخلط السمّ بالعسل شأنه شأن بعض أقرانه وخلاّنه ممّن عملوا أيّام حامي حمى الدّين والوطن بالدّاخل، ممّن داستهم الأقدام الشريفة الثائرة حتّى ما عدتَ تسمعُ لهم ركزا!...
فقد خوّف الدكتور خالد شوكات في مقاله المذكور النّاس من الدكتور الصادق شورو، لكلمات قالها بمناسبة تكريمه وثلّة من الشرفاء الذين منهم الأستاذ العيّادي والأستاذ النوري والأستاذة النصراوي والسيّد حمّة الهمّامي من طرف الشباب ضحايا قانون الإرهاب البغيض... وشوكات إذ يفعل ذلك يُرَى كثيرَ الاقتداء برئيسه المخلوع الذي شهد له من قبلُ بالحكمة في قيادة البلاد وإنصاف العباد، فقد أرجع الطاغية الغبيّ الدكتور شورو إلى السجن عشيّة عيدٍ كان يرغب في تقضيته مع أهله بعد غياب عقدين من الزمن عقابا له على كلمات قالها لمواطنيه عن الحرّية والكرامة عبر قناة الحوار اللندنيّة، ولكنّ الذي أزعج الدكتور هنا هو حديث الدكتور عن الحديبية!... ثورة في السنة 1432 تذكّر بحديبية في السنة السادسة، إنّ هذا لشيء عجاب!... وليس حديثه عن الدكتور المنصف بن سالم الذي أضناه مرض الإتلاف والاستهزاء بقيمته إلاّ نوعا من التأسّي بفاقدي القيمة في البلاد، ممّن لا يرضون للصالحين البروز ولا للعلماء النّجاعة والترقّي... فهو يريد تكبيله بكلمة وأسره في موقف كي لا تجني البلاد من الإسلاميين ومن إمكانياتهم خيرا!... وأمّا الطريقة الخبيثة المتحدّثة عن الغبن النّاتج عن الدّيمقراطيّة فليس إلاّ تشكيكا يرقى عنده إلى درجة الشكّ (اليقين) في عدم استعداد الإسلاميين إلى الأخذ باللعبة الديمقراطيّة... فهو - كالخصوم الاستئصاليين للإسلاميين – حريص على وصف كلّ ما ينتج عن الإسلاميين بالمراوغة، حريص على ربط الفردي بالجماعي والمؤسّساتي بالشخصي... ناسيا أنّ للفرد رأيه وللمؤسّسة التزاماتها وقراراتها وبرامجها التي سوف تحاسب عليها...
يتكلّم الدكتور شوكات عن الإسلاميين فيراهم جامدين غير متحرّكين ولا متطوّرين، فيصف تجمّعاتهم بنزوعها إلى الاستعراض لإرهاب أعداء الله، دون أن يبيّن في أيّ صفّ يقف هو؛ أمعهم أم مع أعداء الله (وليس من التونسيين أعداء لله إلاّ من أصرّ أو أبى)! ويجتهد في تخيّر الألفاظ التي تُظهرهم مختلفين عن النّسيج التونسي ليسوا جزءً منه، معطّلا فكرهم وحرّية تصرّفاتهم... فيراهم مجرّد أتباع أو مريدين وقفوا بباب "الشيخ" ينتظرون منه جزاء ثباتهم على العهد معه... والجزاء عندهم حسب رؤيته نصر في الدارين، أو قال حكم في الدّنيا وجنّة في الآخرة – كما يؤمنون ربّما – شكّك حتّى في إيمانهم!...
وعندما يتكلّم عن الشيخ لا ينسى وصفه ب"الجليل" تعظيما لعبودية المريدين له واستهزاء منه هو به – وهو وغيره ممّن قلّ أدبهم سابقا وحاضرا قد تهجّموا على الشيخ الجليل (والوصف من عندي هذه المرّة) كثيرا، بل لقد أكلوا بعِرضه الخبز الأسود حتّى شالت بطونهم – ولا يقصّر في بيان ارتباطه بملفّ قد طوته الثورة ورجونا ألّا نعود لتناوله أبدا، ولكنّه وقد ذكر ذلك فلا أحسب أنّه قد نسي أنّه كان من أهمّ حمّالي الحطب الخبيث لإذكاء نار الفتنة بين المتحابّين في الله... فلا أقلّ بعد ذلك من استعمال ما بقي لديه من إيمان أو حياء والحياء شعبة من الإيمان لعدم التفتين بين الإخوة أو بين التونسيين بإثارة (مُنتة) كادت لولا رحمة الله وفضله أن تأتي على الأخضر واليابس... فالحمد لله الذي جعل السفينة قادرة رغم أنف الكارهين على النّجاة بكلّ التونسيين، والحديث اليوم لا بدّ أن يكون توفيقيا صادقا باحثا عن مصلحة تونس والتونسين جميعا، بدل أن يظلّ الدكاترة يبحثون عن آثار جذوة نار خامدة، تتغبّر وجوههم وأعينهم لكثرة نفخهم في الرّماد دون جدوى!...
وختم الدكتور خالد مقالته بسؤال مهمّ وصفه بأنّه موجز لكلّ ما سبق: "هل نحن أمام دورة استبدادية جديدة بشعار إسلامي هذه المرة، أم بمقدورنا كسر القاعدة والاستثناء والحلم بأنظمة ديمقراطية يتداول فيها الناس على السلطة؟"... ولعلّه إن تخلّص هو وأمثاله من عقدهم المستحكمة نظروا بما ينظر به غيرهم من التونسيين الأسوياء فقالوا كلمة داعمة للتوافق التونسي الذي لا بدّ أن يقوم ويثبت، استطعنا القطع مع الاستبداد والدكتاتورية التي كان قد شجّع عليها المنافقون والملمّعون للظلم الذي لم يسلم هو نفسه من تلميعه (ومكتبة الفضاء الافتراضي شاهدة على ذلك لم يُتلف منها حرف واحد)، إلى الأبد. وأمّا أن نظلّ نشكّك في النوايا وننزع عن كبارنا الاحترام باتّباع سياسة التتفيه التي استمرّ عليها النّظام النوفمبري الذي قضى التونسيون الأسوياء بفساده وتعدّيه على الحرمات، فإنّ الاستبداد سيظلّ مرابطا بالقرب من دورنا ينتظر إسرافنا في الغفلة أو في المجاملة!...