عرفته، شابا يافعا يرتاد مجالس الحديث والمناظرة، يحب الحوار، والعناد واللجاجة أحيانا..، وكبر صديقي وأصبح كهلا، ومرت عليه سنوات القحط والتصحر، فدخل بيته وأغلق بابه ونادى عاليا البيوت أمان والكهوف أمان والدهاليز أمان... وذات يوم غاب ساعي البريد، وطرقت الثورة الباب، واستيقظ المارد من سباته وأصبح السكون تململا، والانسحاب بركانا، والخروج ثورة، وأصبح صديقي من الثوار... قال : هناك التونسي الأشقر والتونسي الأسمر والتونسي الذي لا لون له ولا رائحة! قلت : ترتيبات خِلْقية... قال : هناك التونسي الثائر والتونسي الصامت، والتونسي الذي لم يثر ولم يصمت ويبحث عن مكان تحت الشمس بأقل مصروف وبأكثر دهاء، شعاره 14 جانفي سبقت 13 جانفي لأن 13 جانفي لم يكن، بعضهم كان مداحا مناشدا داعية، فلما سقطت الصورة، نزع قميصه وقد قُدَّ من قبل ومن دبر وأصبح من المبشرين.. قلت : ترتيبات أخلاقية قال : هناك التونسي السياسي والتونسي السياسي والتونسي السياسي، فالكل يأكل سياسة ويشرب سياسة ويتحدث سياسة ويصمت سياسة، يصحو سياسة وينام سياسة...الكل أصبح محللا أو مرشدا أو عارضا بضاعته في الأسواق.. قلت : ترتيبات ثورية قال : هناك التونسيون الذين ينادون بإسقاط الحكومة، وهناك تونسيون يبحثون عن حكومة، وهناك تونسيون ينادون بتنحية أي حكومة، رضاء الناس غاية لا تدرك، خاصة إذا تشبث الحكام بمواقفهم وأعلنوا عصيانهم ضد الشارع، وأفلحوا في كسب المربعات الرمادية وراهنوا على "الفوضى الخلاقة"... قلت : ترتيبات سياسوية قال : هناك تونسيون يسرعون الخطى، بعضهم إيمان وبعضهم فضول، وآخرون يتباطئون، بعضهم كسل وبعضهم حسابات، وآخرون مقعدون، يراهنون على الانتظار، أو على الموت... قلت : ترتيبات بشرية قال : هناك من التونسيين من رفض الانحناء وعاش في المهجر منفيا، أو في السجن مرميا، أو في الوطن مكويا، ومن التونسيين من عاش حاني الظهر ومات حاني الظهر ولعله يبعث منحنيا، ومن التونسيين من صمت وتقوقع شعاره "الله ينصر من اصبح" و "الدنيا مع الواقف"، قالوا له السلطان يريد تاجا، قال اعطوه تاجين، قالوا له السلطان هرب، قال اسكنوه غيابات الجب، ولا تتهموا الذئب. قلت : ترتيبات أمنية. قال : هناك الداخل والخارج، هناك المهجر والوطن، هناك من يعيش بالدولار أو الأورو، وهناك من يجري وراء "الدورو" قلت : ترتيبات تبريرية هذه تونس العزيزة بملاءتها وفسيفسائها، بشياطينها وملائكتها، تتمايل بين فجر وغروب، تبحث لسفينتها عن مرسى السلامة، تدفعها ثقافات وأعراف وعقليات وحسابات، ومنها ثقافة الاقصاء، ثقافة أصلها ثابت في عقليات تكونت على وقع خطوات الاستبداد، فجارت وبغت، وفرعها ثمرات ملقية على الأرصفة تشير على الجميع بالاستكانة إلى رأي الفرد الواحد الأوحد، فكان السقوط الأخلاقي والانهيار القيمي... المهجر والداخل وطن، وجغرافيا التونسيين وتاريخهم واحد، أمسهم جماعة وحاضرهم جماعة ومستقبلهم جماعة، التونسي للتونسي رحمة سواء شرّقت أو غرّبت سفينته، وسواء خيّر الإرساء في أو ميناء أو عزم على الإبحار في الأعماق. مارس 2011