اتجاهات التطور ومستوى الأداء أزمات إسرائيل الاقتصادية إسرائيل وإمكانات الخصخصة نظرة مستقبلية الاقتصاد السياسي هو أحد العلوم الاجتماعية التي تتناول بالدراسة حالة الإنسان في المجتمع, وتحلل في الوقت نفسه الظروف التي يعيش فيها. وقد عرفه الأستاذ تروشي في كتابه الاقتصاد السياسي بأنه دراسة لنشاط الإنسان في المجتمع بقدر ما له علاقة بحصوله على الأموال والخدمات. لكن الاقتصاد السياسي للمجتمع الصهيوني في فلسطينالمحتلة يعد نموذجا خاصا، حيث نشأ نشأة غير طبيعية، شأنه في ذلك شأن الكيان نفسه الذي أقيم على أنقاض الشعب الفلسطيني وأرضه في ظروف إقليمية ودولية استثنائية في 15 مايو/أيار 1948. وبالنسبة للكيان الصهيوني فإن الاقتصاد والسياسة موضوعان متلازمان، والحديث عن أي منهما لا ينفصل عن الآخر، فإن مفهوم القرار السياسي لكيان مثل "إسرائيل" وعلاقته بالاقتصاد يختلف عن المفهوم التقليدي، إذ إن القرار السياسي هو الأساس وبقية الأمور، خاصة الاقتصاد في خدمته، حيث يتبوأ القرار السياسي الدور المركزي الذي يحتله الاقتصاد، حسب المفهوم الشائع والطبيعي بين الاقتصاد والسياسة، أو حسب التعريف الذي يقول إن السياسة اقتصاد مكثف. وتبعا لذلك فإنه عند القيام بتحليل الأداء الكلي أو الجزئي للاقتصاد الإسرائيلي يجب الأخذ بعين الاعتبار مقدمات النشأة وظروف التطور، والأهم من ذلك الانطلاق من حقيقة أساسية تتمحور حول عناصر الإنتاج التي ارتكز عليها الاقتصاد الإسرائيلي، وفي المقدمة منها الأرض الفلسطينية التي اقتلع أهلها العرب الفلسطينيون منها بقوة المجازر الصهيونية ليصبحوا لاجئين في أكثر من سبعين دولة في العالم. اتجاهات التطور ومستوى الأداء قبل إظهار بعض المؤشرات والحقائق حول الأزمات الاقتصادية التي رافقت تطور الاقتصاد الإسرائيلي، لا بد من الإشارة إلى مراحل التطور، حيث مر الاقتصاد الإسرائيلي بمراحل عديدة، ففي البدايات تم الاهتمام بالقطاع الزراعي وامتدت تلك المرحلة حتى العام 1954، أما مرحلة النمو المرتفع فامتدت حتى العام 1972، وتميزت بدعم غربي كبير، تلت ذلك مرحلة الكساد التي امتدت في السنوات من العام 1973 حتى العام 1985، وبعد ذلك التاريخ وحتى بداية العام الحالي 2010 تمت عملية إصلاح وخصخصة لبعض القطاعات، لكنها لم تطل القطاعات الإستراتيجية مثل صناعة الأسلحة والصناعات الإستراتيجية الأخرى. أما عن مستوى الأداء الاقتصادي في السنوات الأخيرة على الأقل، فتشير الدراسات الاقتصادية بالاعتماد على المجموعات الإحصائية الإسرائيلية السنوية إلى أن تضافر القيم المضافة لكل القطاعات الاقتصادية في إسرائيل أدى إلى توليد قيمة من الناتج المحلي الإسرائيلي وصلت إلى 132 مليار دولار عام 2005، ارتفعت إلى 142 مليارا في العام 2007، لتصبح 150 مليارا في العام 2009. وتبعا للأرقام والناتج المحلي الإسرائيلي المحقق، وصل دخل الفرد في إسرائيل في العام 2009 إلى نحو 21 ألف دولار سنويا، مقابل 18540 دولارا في العام 2005. واختلفت مساهمة القطاعات الاقتصادية في الناتج المحلي، حيث أسهم قطاع الزراعة بنحو 3% من الناتج، أما قطاع الصناعة فقد أسهم بنحو 19%، وقطاع الخدمات 78% من إجمالي قيمة الناتج المحلي الإسرائيلي المتولد في السنوات الأخيرة. وكذلك هي الحال بالنسبة لاستحواذ القطاعات المذكورة على قوة العمل الإسرائيلية، حيث تشير المجموعات الإحصائية الإسرائيلية إلى أن 3% من قوة العمل الإسرائيلية تعمل في قطاع الزراعة، و78% في قطاع الخدمات الذي يضم كل القطاعات الأخرى دون الزراعة والصناعة، في حين استحوذ قطاع الصناعة الإسرائيلي على 19% من إجمالي قوة العمل في الاقتصاد الإسرائيلي في السنوات الأخيرة. وبعد الإطلالة على الأداء الاقتصادي الإسرائيلي، نحاول التطرق لمؤشرات التنمية البشرية التي تقاس بمقاييس عديدة، أهمها العمر المتوقع الذي وصل إلى 77 عاما في إسرائيل، فضلا عن دخل الفرد الذي بلغ 21 ألف دولار، في حين يعد معدل التعليم بين الكبار مؤشرا آخر، حيث وصل في إسرائيل في العام 2009 إلى 95%, وبذلك حققت إسرائيل تنمية بشرية مرتفعة تبعا لتقارير التنمية البشرية الصادرة في الفترة 1990-2008. ولهذا سجلت في المراتب الأولى، حيث لا تتعدى المرتبة ال25 من بين 173 دولة أتت عليها تقارير التنمية الصادرة عن برنامج الأممالمتحدة الإنمائي في الفترة المشار إليها، في حين حققت غالبية الدول العربية تنمية متوسطة ومنخفضة حسب المقاييس المذكورة، في مقابل ذلك حققت أربع دول عربية تنمية بشرية مرتفعة، هي: الكويت وقطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة. ويكمن السبب الرئيس في تحقيق مؤشرات تنمية مرتفعة في إسرائيل في تخصيص نسب كبيرة من بنود الإنفاق في الموازنات الإسرائيلية السنوية لقطاعات الصحة والتعليم والبحث العلمي. أزمات إسرائيل الاقتصادية من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن ثمة مشكلات وأزمات اقتصادية مستعصية واكبت ومازالت تواكب تطور الاقتصاد الإسرائيلي، وذلك رغم القفزات النوعية المحققة في مجالات الأداء الكلي للاقتصاد، ومن تلك المشكلات الديون الخارجية فضلا عن البطالة، والعجز التجاري وسوء توزيع الدخل بين فئات المجتمع الإسرائيلي. وتبعا لذلك فإن 16% من المجتمع الصهيوني يرزح تحت خط الفقر، وتتفاوت النسبة ممن هم دون خط الفقر بين اليهود والعرب داخل الخط الأخضر، فتصل إلى نحو 25% بين العرب مقارنة باليهود، بسبب التمييز في العمل والتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والضمان الاجتماعي، ما ينعكس على الخيارات المختلفة للمواطن العربي. لكن المؤسسات الإسرائيلية تحاول تخفيف انعكاسات الأزمات الاقتصادية على المجتمع الصهيوني، حيث تخصص حوالي 3% من إجمالي دخلها القومي للبحث العلمي من أجل دفع عملية التنمية والوصول إلى معدلات رفاه عالية لإبقاء عوامل الجذب لمهاجرين يهود محتملين. وقد أدى هذا الاهتمام إلى ارتفاع نسبة العلماء في إسرائيل لتصل إلى 45 عالما من كل 1000 مستوطن صهيوني، واللافت أن حوالي 33% من مجموع الطاقة البشرية الإسرائيلية تعمل في مجال البحث العلمي، ما يعزز إمكانيات تحسن الأداء بعد فترات انعدام الأمن. إسرائيل وإمكانات الخصخصة تحاول الحكومات الإسرائيلية تشجيع المبادرات الاقتصادية، ونجحت سياستها منذ تسعينيات القرن المنصرم في تقليص تدخلها المباشر في الاقتصاد، وعليه أطلقت الدولة حملة خصخصة كبرى تمثلت ببيع المئات من الشركات الحكومية فضلا عن إلغائها شبه المطلق لدعم أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية وتحديد أحقية المقصود من تشجيعهم للاستثمارات والصادرات الخارجية. في العقد الأول من تطبيق هذه السياسة خصخص العديد من مجمعات الشركات الصغرى، واكتسبت هذه العملية زخما في العامين الماضيين ما عاد بدخل مقداره ثلاثة مليارات دولار إثر بيع مشاريع كبرى مثل بعض المصارف وشركات "العال" (الخطوط الجوية الصهيونية) و"تسيم" للإبحار و"بيزك" للاتصالات وصناعة الزيوت مطروحة على الأجندة. كما تنوي الحكومة تحويل بعض الخدمات التي تقدمها إلى القطاع الخاص، وفي مقابل ذلك من الصعوبة بمكان أن تصل المؤسسات الصهيونية إلى درجة خصخصة بعض فروع قطاعاتها الاقتصادية الإسرائيلية الإستراتيجية، خاصة تلك المرتبطة بالصناعات الحربية وصادراتها على سبيل المثال لا الحصر. نظرة مستقبلية عامة ثمة أزمات واكبت تطور الاقتصاد الإسرائيلي، من أهمها البطالة التي وصلت في العام 2009 إلى نحو 9% من إجمالي قوة العمل. ومن الأزمات المستعصية أيضا العجز التجاري الذي وصل إلى نحو ثمانية مليارات دولار في العام المذكور، والنسبة الكبرى من العجز المذكور هي مع دول الاتحاد الأوروبي الذي يعد الشريك الأكبر ككتلة، في حين تعد الولاياتالمتحدة الأميركية الشريك الأول كدولة، والفائض التجاري هو عنوان العلاقات التجارية الإسرائيلية-الأميركية. إضافة إلى ذلك ثمة مؤشرات تضخم سريعة يعبر عنها في ارتفاع الأسعار الشهرية وانخفاض العملة الإسرائيلية الشيكل مقارنة بالدولار الأميركي، كما تعد الديون الإسرائيلية التي تعدت 60 مليار دولار من أهم الأزمات الاقتصادية التي عانى منها الاقتصاد الإسرائيلي على مدار العقود الستة الماضية. وبالنسبة لآفاق الأزمات الاقتصادية في إسرائيل، فكل الدراسات حول الاقتصاد الإسرائيلي تشير إلى بناء التركيب البنيوي للاقتصاد المذكور واتجاهات النمو السابقة إلى بقاء الأزمات الاقتصادية الإسرائيلية المشار إليها ملازمة للاقتصاد الإسرائيلي في المدى المنظور، رغم وجود الإمكانيات في الحد من حجم البطالة عبر فتح قنوات لاجتذاب مزيد من قوة العمل من خلال القدرة على الاستثمار في قطاعات اقتصادية مختلفة في إطار الاقتصاد الإسرائيلي. وقد تسعى الحكومات الإسرائيلية القادمة للإفادة من المساعدات الأميركية الاقتصادية التي تصل قيمتها إلى نحو 1.2 مليار دولار أميركي سنويا إلى الحد من بعض الأزمات الاقتصادية وخاصة التضخم، بيد أنه من الصعوبة بمكان تراجع قيمة العجز التجاري خاصة مع دول الاتحاد الأوروبي، نظرا لأن الحكومات الإسرائيلية ستحاول رفع قيمة الواردات من السلع والخدمات لإبقاء عوامل الجذب المحلية, واستمالة مزيد من يهود العالم ودفعهم للهجرة باتجاه الأراضي الفلسطينيةالمحتلة في السنوات القادمة. وفي الوقت نفسه ستعزز إسرائيل علاقاتها التجارية مع دول العالم ومحاولة زيادة صادراتها إلى بعض الدول في قارات أفريقيا وآسيا والكاريبي, وذلك بغية الحد من العجز التجاري مع دول الاتحاد الأوروبي. وتبقى الإشارة إلى أن أهمية دراسة الاقتصاد السياسي للمجتمع الصهيوني تكمن في ضرورة التمحيص الدقيق والدائم في مكامن القوة والضعف في الاقتصاد الإسرائيلي الذي يعد رأس المال البشري، أي المهاجر اليهودي أهم كثيرا من رأس المال المادي الذي يعد بدوره من أهم العناصر الجاذبة ليهود العالم باتجاه الأراضي العربية المحتلة، وذلك بغية استكمال المشروع الصهيوني بالاتكاء على العنصر البشري اليهودي، وهذا بحد ذاته سر استمرار الكيان الصهيوني. المصدر: الجزيرة الثلاثاء 16/3/1431 ه - الموافق2/3/2010 م