لا تنتمي صورة الإسلام والمسلمين في الصحافة والإعلام الغربيين المعاصرين إلى ثقافة الاستشراق على أي نحو من الأنحاء . فالاستشراق مجال علمي أكاديمي ازدهر في جامعات الغرب ومراكز الدراسات فيه، وتخصص في فهم وفي تحليل الإسلام: عقيدة وحضارة ومجتمعات وتراثاً ثقافياً، في حقبتين منه (الوسيطة والحديثة)، وتصدى لذلك جمهور من الباحثين المقتدرين: العارفين بتاريخ الإسلام: السياسي والثقافي والديني، والعارفين بألسنته الرئيس: العربية، والفارسية، والتركية، والهندية . . الخ . وهذا لم يكن حال كتّاب المقالات في الصحافة الغربية، ممن يجهلون كل شيء عن الإسلام: بدءاً من اللسان وانتهاء بعدد السكان . لعل الاستدراك هنا واجب بالقول إن الاستشراق ما كان دائماً علمياً وموضوعياً ونزيهاً، وإن كتّاب المقالات الصحافية ما كانوا دائماً من طينة واحدة ولا على الدرجة نفسها من الجهل بالإسلام . فنحن نعرف على الأقل أن بعض الاستشراق كان كولونيالياً أو نشأ في أحضان حركة الاستعمار: فمهد لها معرفياً أو صاحبها مصاحبة تسويغ، ونعرف أن بعضاً من المستشرقين خدم في إدارات الاحتلال الاستعماري في بلاد العرب والمسلمين، فبقي قسم منه على موقفه الكولونيالي حيث غيّر القسم الآخر رأيه فناصر حق شعوب هذه البلاد في التحرر الوطني والاستقلال . ثم نعرف أن بعضاً من كتّاب الرأي في الصحافة الغربية على قلته ليس جهولاً تماماً بتاريخ الإسلام، ولا معادياً للمسلمين بغير سبب . ومع ذلك كله، لا قيمة كبيرة للاستثناء في هذا الباب . والأهم من هذا أن النظر إلى الإسلام بعين الدارس الأكاديمي (المستشرق) غير النظر إليه بعين المدبّج رأياً إيديولوجياً في صحائف حددت موقفها منه (من الإسلام) سلفاً، وأفسحت مساحات منها للتعريض به وبأهله . لو حاولنا أن نقف على نوع “المعرفة” بالإسلام في الخطاب الإعلامي الغربي، على نحو ما يعرض به نفسه في الصحافة المكتوبة وفي الإعلام البصري، لتبينا الحقائق الثلاث التالية: * الحقيقة الأولى هي أن المتصدين للكتابة في الموضوع محكومون سلفاً بقبليات إيديولوجية تحجبهم عن رؤية ما يتناولونه، وترتب على مقاربتهم نتائج متقررة حكماً في المقدمات التي يصدرون عنها . من تلك القبليات مثلاً أن الإسلام عقيدة تدعو إلى “العنف” وتبجله، وتَعِد من يقدم عليه بالنعيم في الآخرة، ولأن هذه القبلية لا تفهم معنى الجهاد في اللسان العربي وفي النص القرآني، أو هي تقصد ألا تعرف ذلك المعنى، تنتهي إلى “الاستنتاج” بأن الإسلام دين يدعو معتنقيه إلى ممارسة فعل “الإرهاب” ضد من لا يشاطرهم الملة . هكذا تصل هذه المقاربة الإعلامية الإيديولوجية إلى المماهاة بين الإسلام وبين العنف و”الإرهاب” بعد أن انطلقت منها مسبقاً، أو قل بسبب كونها انطلقت منها مسبقاً . * والحقيقة الثانية هي أن تعاطي كتّاب المقالات أولاء مع الإسلام في ما يكتبون وينشرون ليس في حقيقة أمره تعاطياً مع حضارة الإسلام وثقافته وتاريخه الاجتماعي والسياسي، على ما يفترض، وإنما هو تعاط مع المسلمين اليوم، ومع الحركات الإسلامية المعاصرة على نحو خاص! فهما الموضوعان الأثيران على نفوس من يخوضون في الموضوع في الإعلام الغربي بل هما الموضوعان الوحيدان اللذان في حكم ما عليه يقدرون . فأما اهتمامهم بالمسلمين، فأمر مفهوم منهم بالنظر إلى ارتباط الإسلام في المخيال الجماعي الغربي بالنفط، والمهاجرين، ومعاداة “إسرائيل”، والتزايد السكاني، والسعي إلى حيازة القدرة الاستراتيجية الدفاعية . أما اهتمامهم بالحركات الإسلامية “الأصولية”، فمفهوم بالنظر إلى ما تبدو عليه قواها اليوم من جنوح متزايد إلى الصدام مع السياسات الغربيةالأمريكية بخاصة تجاه العالم الإسلامي . وفي الحالين، لا يكوّن الغربيون: الكاتبون في الصحافة آراء ضحلة، أية معرفة بالإسلام يعتد بها أو يحتج على سبيل القول إن لهم في ما أتوه مساهمة تسجل لهم، فهم حتى الآن لا يعرفون من الإسلام سوى العمال العرب والمسلمين المهاجرين إلى أوروبا وأمريكا، وجماعات “الصحوة” المنتشرة في ديارها و خاصة في ديار الغرب، وكم هو بئيس أن يقرأ الإسلام في صفحة مواطن مسلم مهاجر أو ناشط إسلامي ناقم . * أما الحقيقة الثالثة، ففي أن المتصدين للموضوع من كتّاب الرأي في الصحافة الغربية هم أبعد من يكون أهلية لطرقه في الأغلب الأعم منهم . ربما كان منهم متخصصون أكفاء، وإن كان أكثر هؤلاء من العارفين بالحركات “الأصولية” حصراً لكن الغالب على أكثريتهم الكاثرة هو الصلة السطحية بالإسلام وتاريخه ومجتمعاته، وهو ما ينعكس على نوع “المعرفة” التي ينتجون: وهي كناية عن انطباعات ذاتية غير علمية في أفضل الأحوال، وعن أحكام إيديولوجية عدوانية سافرة في أسوئها . من المؤسف جداً أن الجيل المتأخر من المستشرقين الكبار: جيل فون غرونباوم، وجاك بيرك، ومكسيم ردونسون، ولوي غاردي، وهنري كوربان، انسحب من المشهد العلمي، بالوفاة أو بالعجز البدني . ومن المؤسف أن جيل “المستشرقين الجدد”: جَيْل جِيْل كيبيل وآلان روسيون وآخرين ليس من المستوى العلمي بحيث يعوض عن غياب الجيل الأول أو يستأنف رسالته العلمية . لكن المؤسف أكثر وأكثر أن ينتهي أمر الحديث في الإسلام إلى جمهرة من الكتبة الأدعياء الذين يدخل بعضهم إيران في عداد الدول العربية . الخليج :الاثنين ,08/06/2009