مانشستر يونايتد يفقد مدافعه هاري ماغواير بسبب الإصابة    استقالة جماعية للإدارة الوطنية للتحكيم    رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية يهنئ رئيس الدولة بمناسبة إعادة انتخابه رئيسا للجمهورية    "حزب الله" يمطر شمال حيفا ب100 صاروخ    إلى غاية 12 أكتوبر : تونس تشارك في 'مخيم العدالة المناخية من أجل مستقبل مستدام للمنطقة' المنعقد بتنزانيا    الاقتصاد الإسرائيلي يتعرض ل"هزّات" صعبة للغاية    كأس الكاف: النادي الصفاقسي يخوض منافسات دور المجموعات خارج ميدانه    ثلاثة أفلام تونسية ضمن الدورة 46 من مهرجان مونبلييه السينمائي للبحر المتوسط    وزارة التربية تنشر رزنامة اختبارات الامتحانات الوطنية دورة2025    لقاء حول "تقاطع الفنون" مساء الجمعة 11 أكتوبر بمجمع "بيت الحكمة"    إنييستا لاعب إسبانيا وبرشلونة السابق يعلن اعتزاله بعمر 40 عاما    كأس العالم للبيزبول ب5 لاعبين:المنتخب التونسي يفوز على أستراليا.    صالون فرانكوتاك 2024: فوز الشركة التونسية الناشئة "أكواديب" بجائزة الابتكار    خلال يوم واحد: اندلاع عدة حرائق بهذه الولاية..وهذا هو السبب..    ترحيل نجل أسامة بن لادن من فرنسا ومنعه من العودة    عاجل/ هذه حقيقة مقتل الفنان راغب علامة في غارة اسرائيلية..    وفاة راغب علامة في القصف في لبنان...إشاعة    توزر: مديونية فلاحي الجريد تقدر بحوالي 40 مليون دينار (رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة)    زغوان: تواصل العمل من أجل الحد من انتشار الحشرة القرمزية    وزير السياحة يدعو المؤثرين وصانعي المحتوي لإنشاء برامج ترويجية على وسائل التواصل الاجتماعي    سبع مسرحيات تونسية تشارك في مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي    القصرين: أم تبيع رضيعها ب 3 ألاف دينار    عاجل/ نشرة استثنائية: أمطار غزيرة بهذه الولايات بعد الظهر..    عاجل: هذا موعد التصريح بالحكم في قضايا العياشي زمال..    اليوم: العاصمة تشهد امطارا...هذا توقيتها    6 جرحى في حادث اصطدام بين سيارة وتاكسي جماعي..    سفارة ألمانيا بتونس تعلن رسميّا عن انطلاق مشروع ''بروسول الاك الاقتصادي''    عاجل/ بشرى سارة بخصوص صابة الزيتون وسعر الزيت لهذه السنة..    المنتخب الوطني: تواصل التحضيرات .. وثلاثي يلتحق اليوم بالمجموعة    إصدار طابع بريدي حول موضوع"الذكرى 150 لتأسيس الإتحاد البريدي العالمي    سليانة: دخول مشروع البئر العميقة "السوالم "7 بمعتمدية مكثر حيز الاستغلال    فتح باب الترشح للمشاركة في دورة تكوينية لإنتاج فيلم تحريكي موجه للطفل    تسجيل اضطرابات في التزود بالماء الصالح للشرب ببعض المناطق من مدينة زغوان الثلاثاء    عاجل/ تحجير السفر على 40 شخصا من قيادات واعضاء النهضة..    مناوشات خلال تأمين مسيرة بشارع الحبيب بورقيبة/ الداخلية تكشف..    عاجل/ إيران تحذر الاحتلال الصهيوني من أي هجوم وتتوعد برد أقوى..    تصفيات كاس افريقيا للأمم 2025 - منتخب الطوغو في تربص بتونس استعدادا للقاء الجزائر    برشلونة يأمل العودة إلى ملعب "كامب نو" بحلول نهاية العام    52 حريق خلال يوم واحد..    معرض الصحف التونسية لليوم الثلاثاء 8 أكتوبر 2024    اللواء الدويري: خطاب أبو عبيدة يدشن لمرحلة جديدة من المقاومة    رئيس فنزويلا: اسرائيل اغتالت نصر الله وهنية لتعطيل اتفاقات وقف اطلاق النار    7 كسوفات كلية للشمس ستشهدها الأرض على مدار العقد المقبل    ترامب: المهاجرون غير الشرعيين يجلبون جينات سيئة لأمريكا    عاجل: هيئة الانتخابات: كل اتهام مجاني بتدليس أو تزوير النتائج ستتم إحالته للنيابة العمومية    تعزيز التعاون في قطاع النقل محور لقاء وزاري مع البنك الأوروبي للاستثمار    أولا وأخيرا .. لا وعظ ولا إرشاد    وزارة الصحة تحذّر من الاستعمال المفرط للشاشات الالكترونية لدى الأطفال    تونس توصي بمجابهة الاستعمال المفرط للشاشات الالكترونية لدى الأطفال    تكريم الفنانة الراحلة ريم الحمروني في افتتاح المهرجان السينمائي "بعيونهن"    تفكيك شبكة تنشط في مجال ترويج المخدرات في العاصمة    طقس الاثنين: الحرارة في ارتفاع طفيف    داعية سعودي يفتي في حكم الجزء اليسير من الكحول شرعا    ولايات الوسط الغربي الأكثر تضرّرا .. 527 مدرسة بلا ماء و«البوصفير» يهدّد التلاميذ!    عاجل/ لجنة مجابهة الكوارث تتدخّل لشفط مياه الأمطار من المنازل بهذه الولاية..    سيدي بوزيد: افتتاح مركز الصحة الأساسية بالرقاب    مفتي الجمهورية: يوم الجمعة (4 أكتوبر الجاري) مفتتح شهر ربيع الثاني 1446 ه    عاجل : الأرض تشهد كسوفا حلقيا للشمس اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الديموقراطية بين الدمار وإعادة الإعمار:جيريمي ميرسييه
نشر في الفجر نيوز يوم 30 - 01 - 2008


الديموقراطية بين الدمار وإعادة الإعمار
جيريمي ميرسييه
في حين أضحت المرجعية المفترضة للخطابات والممارسات السياسية، يمكن القول إن الديموقراطية في أزمة. فقد انبعثت مجدّداً التصرفات الأوليغارشية معتمدةً على العولمة الاقتصادية: من إملاءات المؤسسات المالية الدولية إلى السياسات المُلزِمة للاتحاد الأوروبي، إلخ. وفي فرنسا تعمل المؤسسات السياسية منكفِئة على نفسها. فإلى متى ننتظر مؤسسات ديموقراطية تنقذ المواطنين؟ إنما أيضاً إلى متى ننتظر مواطنين أحرار ينقذون الديموقراطية؟
ودومينيك روسو، أستاذ القانون الدستوري في مونبولييه، في كتابه "الجمهوريّة الخامسة تموت، فلتعِش الديموقراطية!"، يتناول تحديداً المؤسّسات الفرنسية بالنقد! وفي الواقع تتعلّق الميزة الأولى للأزمة الحالية بالصعوبة الرهيبة لإيصال رغبات الشعب إلى زعمائه. وهذا ما تُمكن تسميته الانقطاع المؤسساتي. إذ يحلّل المؤلّف اهتراء نظامٍ سياسيّ ليس فيه أيّ قوة توازُن مقابل السلطة الحاكمة، التي لا تخضع لأي رقابة ولا تحسّ بأنّها مسؤولةٌ أمام الشعب السيّد الحرّ. وتتناسى هذه السلطة كلّياً اهتمامات المواطنين الذين باتوا هم بدورهم غرباء أكثر فأكثر عن مؤسساتهم.
فمنذ ثلاثين سنة مضت [1]، والسياسيون يرفضون مساءلتهم عن خياراتهم. ومن بين الأمثلة الكثيرة التي يسوقها روسو على ذلك: "عندما يطلب الرئيس من الشعب أن يوافق على سياسته الأوروبية، وعندما يخسر الرئيس الاستفتاء ولا يستقيل إثر ذلك (عام 2005)، فهذا يعني أنّ المؤسسات لا تؤمّن الترابط، الأساسي في النظام الديموقراطي، بين القرار والمسؤولية"(ص 11). ويؤكّد عدم إخضاع المعاهدة الأوروبية الجديدة، الموقّعة في لشبونة في 13 كانون الأوّل/ديسمبر عام 2007، للاستفتاء، هذا الرفض لتأدية الحساب أمام الشعب.
ويسترجع المؤلّف جذور أزمة الثقة بين الحكّام والمحكومين. إذ تكمُن هذه الأزمة في مؤسّسات الجمهورية الخامسة التي تكسر العلاقات السياسية. ويستمرّ دستور العام 1958 حتى اليوم في إنهاك الديموقراطية. فليس من شأن هذا النظام المؤسّساتي، الذي نشأ من حركة تمرّد عسكرية [2] إلاّ أن يقيم المواجهة بين فرنسا "من تحت"، المتمرّدة لكن المهمَلة، وبين الهيمنة الرئاسية التي كرّسها إصلاح العام 1962 [3]، حتى "يصل الأمر بالتتويج الشعبي إلى لعب دور التتويج الملكي (على شاكلة تتويج الملوك في مدينة رانس في العهود القديمة)!"(ص 172). وإذا كان الطموح الديغولي قد هدف إلى تزويد فرنسا أخيراً "بمؤسساتٍ كانت تنقصها منذ العام 1789" فإن الجمهورية الخامسة قد طوّرت مبادئ مناقِضة لفكر عصر الأنوار، بتجرّؤها على مبدأ فصل السلطات على الأخصّ. ذاك أن الرئيس، الذي لا يُمكن أن يكون بالنسبة إلى الشعب "حاكماً مأسوراً" [4]، يستفيد من تمركز السلطات ويمكنه الاستغناء عن شرعية الجماعة، فالمسؤولية السياسية تتلاشى عندما يبقى رئيس الدولة في موقعه بالرغم من حالات الفشل الانتخابية أو التشريعية أو الاستفتائية [5].
فمن نصوص المواد 38 و49-3 إلى التقليص المنتظم لدور البرلمان، الذي لم يعُد يتحكّم حتى بجدول أعمال جلساته، مروراً بشخصنة النقاشات عبر لعبة الانتخابات الرئاسية، كلّ هذا أو تقريباً، وضمناً أولويّة القانون الأوروبي على القانون الوطني، يضيّق مجرى شرايين الديموقراطية. ومنذ ثمانينات القرن الماضي، لا فرانسوا ميتران ولا جاك شيراك ولا حتّى نيكولا ساركوزي، الذي يحاول أن يحكم عبر استطلاعات الرأي، قد عمل على فكّ هذه العقدة. ودومينيك روسو، إذ يحدّد بعض المعالم ل"دستور المواطنين"، يربط بين تفكيك النظام المؤسساتي ونتائجه: تفكيك النظام الاجتماعي والانكفاء على ما هو مجتمعيّ.
"إن ما يصنع الديموقراطية الحقيقية ليس الاعتراف بتساوي الناس، إنّما بتحقيق ذلك بينهم".
وبحسب المؤلّف إن المؤسسات وأشكال التمثيل السياسية المتأزّمة تؤذي مباشرةً حياة كلّ مواطنٍ بحرمانه وضعه ك"بالغ دستورياًmajeur constitutionnel "(ص 324). وعندها يحلّ مكان الناس المتساوين في الحقوق أفرادٌ منفصلون بفوارق الجنس والعمر والأصل والمحفظة المالية... والحال أنّه "وفي استعارة من سيمون دو بوفوار، لا يولد المرء مواطناً، بل هو يصبح كذلك و(...) لكي يصبح مواطناً يحتاج المرء إلى المؤسسات التمثيلية"(ص 318). وتصبح المهمّة صعبة عندما يحلّ الجزائي مكان الاجتماعي، وحين يتمّ إفراغ الفصل بين السلطات من معناه. أساساً ومنذ القرن التاسع عشر، أطلق ليون غامبيتا (1838-1882) صرخته في مجلس النواب: "إن ما يصنع الديموقراطية الحقيقية ليس الاعتراف بتساوي الناس، إنّما بتحقيق ذلك بينهم".
وفي هذا المجال يأتي كتاب القاضيين "جيل سايناتي" و"أولريخ شالشلي" مفيداً جدّاً. ففي كتابهما "الانحطاط الأمني (La Décadence sécuritaire)" يبيّنان انكفاء المؤسسة القضائية التي باتت مغلقةً وصمّاء، بالنسبة إلى ما هو أساسيّ، إزاء الدواعي الديموقراطية والاجتماعية. وفي حين أن هذه المؤسّسة هي من الأكثر فقراً في الدول الغربية، فإنّ كبار المسؤولين في الدولة قد أضعفوها أكثر فأكثر وذلك بإخضاعها، كما في حال سائر الدوائر الرسمية، لدواعي الربح وهوس المردودية [6]. وتدريجياً تلقّت السلطة القضائية بذلك هيمنة الانشغالات الأمنية المستوردة من الولايات المتحدة.
هذا الانحراف، والذي يمكن أن يكون شعاره الرمزي "من يسرق بيضة يسرق بقرة"، أحلّ خشية الآخر ومطاردة العدو الداخلي (ص 21) مكان الحوار الاجتماعي وتحديد الحيّز المشترك. ويلفت المؤلّفان إلى أن لا شيء أكثر غرابةً من ذلك إذا ما تذكّرنا أن الحقّ في الأمان قد قال به ثوريو العام 1789 ك"ضمانة للأفراد في وجه تعسّف السلطة وعملائها"... فعندما يقطع "الأمن" رأس العدالة باسم "عدم التساهل المطلق" ويحلّ مشاكل التقصير الاجتماعي بالردّ عليها بما هو جزائي (ص 38)، يصبح القاضي مجرّد كاتب عدل بين يديّ المدعي العام (ص 43). وفي ظلّ هذه الظروف هل يبقى هناك مكانٌ لوجود سلطة رسمية شرعية؟
كيف يمكن تقدير الصفة التمثيليّة لفاعليات المجتمع المدني ؟
وفي أساس العدالة كان هناك الإنصاف، والإنسانية في قاعة المحكمة، وحقّ الدفاع أو افتراض البراءة. أمّا اليوم فقد اختارت النُخَب الحاكمة الرقم وإفقار مؤسّسة العدالة. ويكشف سايناتي وشالشلي، وهما عضوان في نقابة القضاة، الغطاء عن آليات القمع من مختلف الأنواع ضدّ "الأوباش" وتوتاليتاريّة الفعاليّة والتعصّب الاجتماعي والتعسّف البوليسي (ص 101). وإذا لم تكن دولة القانون أبداً كافيةً لإقامة الديموقراطية فإنّ الإلحاح على العقاب والتعطّش إلى مراقبة الجماهير لا تني تقضي على الأخلاقيات. فهل يجب الانصياع لمصادرة هذا الحيّز العام من جانب تقنيين إداريين للآلية الانتاجية؟
كلا، وذاك لأنّه، وفي رأي الصحافيَيْن وعالمَيْ الاجتماع "آن دوكوا ومارك هاتزفيلد"، "بمعزلٍ عن الدقائق العادية في الحياة اليومية، فإنّ الجماعة لم تتوانَ أبداً عن استعادة السلطة السياسية". كلٌّ يحاول أن يمنح الديموقراطية لوناً جديداً عبر سلسلة من التجرّؤات التشاركيّة. وما همّ إن صودرت المؤسّسات وأُعيقت عملية الفصل بين السلطات واستنفذت عملية التمثيل السياسي وانهار النظام الاجتماعي؟ إذ إنّ إرادة المواطنين السياسية تبقى عصيّةً على الإدارة المنهكة للسلطة؛ حتىّ أنّ هذه الإرادة توازن الانحرافات المؤسساتية وتعوّضها بديناميات جديدة في الأحياء والبلدات والتربية الشعبية وبإحياء أشكال التضامن ما وراء الحدود.
الديموقراطية التشاركيّة، التي تكافح الزوال التدريجي للرابط الاجتماعي، تغرُف من معين الفهم "الجوريسي" (نسبةً إلى جان جوريسJAURÈS ) للحياة المدنيّة المرتبط بمشاركة الشعب والتواصل المباشر معه [7]. ويمكنها بحسب ما يشدّد عليه الكاتبان أن "تعطي مجال الكلام لأولئك الذين لا حقّ لهم في التصويت (ص 126). كما يمكنها أن تطوّر التعاون بين الشعوب وتشجّع الإصلاحات السياسية والبيئية والاجتماعية والمصلحة العامة التي تعزّز كلّها حسّ الديموقراطية.
لكن إذا كانت حياة الجمعيات والمعارك التي تخاض من أجل الكرامة الإنسانية ضرورية بالنسبة إلى الديموقراطية، فإنّها تساهم أيضاً في بعض الضبابيّة السياسية التي يصل بها الأمر، كما في "النُزُل الإسباني"، إلى السماح بالشيء وضدّه. وهذا ما ينطبق على مفهوم "المجتمع المدني" كما شرّحته "جان بلانش". فهذا المجتمع الذي يلتقي فيه المواطنون طوعاً يضمّ خليطاً من المنظّمات غير الحكومية والجمعيات أو النقابات إضافة إلى الكنائس ووسائل الاعلام ومجموعات الضغط (اللوبيات) الاقتصادية، إلى جانب زوجة الرئيس والجوقات الموسيقيّة والقائد المساعد ماركوس (ص 35). وهكذا يمكن للمجتمع المدني أن يساهم في دمقرطة المؤسسات كما في القضاء عليها!
وإذا كان عمل الخبرة "المواطنيّ"، كذلك الذي تتمنّى جمعيات عديدة تطويره [8]، ينعِش الديموقراطية حُكماً، فإنّ شجرة استمزاج رأي المجتمع المدني يمكن أن تخفي وراءها غابة السياسات الأكثر رجعيةً. فمؤلّفة كتاب "المجتمع المدني، فاعلٌ تاريخي في الحاكمية" توضح ضبابيّة هذا المفهوم، الذي ليس هو فاضلاً حُكماً بطبيعته. فهل من المستغرب أن تصبح "هذه الضبابية ذات الحدود الغامضة" (ص 95) التي تحبّذ في أفضل الأحوال المصلحة العامة بدون تبصّر، وسيلةً يمسك بها البنك الدولي أو الاتحاد الأوروبي بغية الحلول بهدوء مكان السيادة الشعبية وتصويت المواطنين؟ ألم يُعتَمَد الدستور الأوروبي، الذي كان قد رفض عبر الاستفتاء في دولتين أوروبيتين، من جديد بعد استطلاع رأي "المجتمع المدني"؟ فكيف يمكن تقدير الصفة التمثيليّة لفاعليات المجتمع المدني المزعوم، التي غالباً ما تفرض نفسها على الساحة السياسية عبر موازين قوى صرف، ليست شرعية المطالِب فيها سوى معيار من بين معاييرٍ أخرى؟
ثمّ ألا يعني المجتمع المدني، باحتوائه لائحة لا نهاية لها احتمالاً من الفعاليات، الخضوع بكل بساطة لقوانين مرحلة ما بعد الحداثة الظافرة؟ وهو بذلك يُستعمل لمزيدٍ من تفكيك وحدة القواعد الديموقراطية والحيّز العام الملازم لقيامها. أفليس تدمير "الشعب demos" هو هدف عمالقة المال بذريعة "الحكم الصالح والرشيد"؟
تلك هي الفرضية التي يدافع عنها مؤلفو كتاب "الحاكمية: ديموقراطية بدون شعب؟". فهم يحلّلون في آنٍ معاً مفاهيم الحاكمية والمجتمع المدني. وهم بعد أن يلفتوا الانتباه إلى أنّ هذه "الصحن الطائر المفهوميّ" الذي يسمّى "المجتمع المدني" يحاول الانفتاح لكي ينجح في إغلاق الأشياء، يقولون بأنّه يُعزّز الليبرالية الاقتصادية. وفي الواقع إنه يندرج ضمن رؤية إلى العالم حيث المجتمع يمتصّ بطريقةٍ او بأخرى قصور دولة تتخلّى تدريجياً عن التزامها بأيّ مصلحة عامة، لتبقى ضامنةً فقط للاستقلالية الخاصّة بالأفراد. هكذا يعود المواطن تابعاً ولا يبقى السياسي مرجعيّة الديموقراطية بل المفاهيم الموهومة للاجتماعي الصرف. ولا تعود المشكلة في التساؤل عن أيّ حكومة يحتاجها المجتمع، بل بالأحرى في معرفة كيفية العمل دون حكومة (ص 96-142) [9].
والمجتمع المدني، كما الحاكميّة، ينمّ عن "نوع من الريبة العميقة تجاه المبادئ التي تحكم السيادة (الوطنية كما الشعبية) وتجاه الدولة كونها الضامن إزاء التحالفات الممكنة دائماً بين الهيئات الحرفية المنكفئة إلى انطوائيتها النفعيّة" (ص 175). والحال أنّه عندما يتمّ إنكار الشأن العام ألا يصل الأمر إلى إنكار الحريات الجوهرية؟ ذاك أن ممارسة "الحاكمية" عبر تقديم المجتمع المدني وخليطه من سياداته المتعدّدة المتناقضة، يعني في نظر المؤلّفين الفلاسفة والقانونيين، تهميش الديموقراطية عبر تهميش المواطنين والنوّاب والسلطات العامّة. وفي حين أن العولمة لم تكن يوماً على هذه الدرجة من القوّة، فإن الخضوع "لليد الخفيّة" لم يكن يوماً مقصوداً إلى هذه الدرجة. ألا يوجد إذاً سوى "سياسة واحدة ممكنة"؟ وفي حين أن الديموقراطية مهدّدة بالانهيار، فإنّ الانكفاء على التدفّق المجتمعي و"الحاكمية الصالحة" هو نوعٌ من الهجوم المباشر على الطموحات المدنيّة لمشروع الجمهورية.
وإذا كان نظام العولمة الليبرالية قد لاءم تماماً دعوى الجمهورية الخامسة عبر إعادة صياغة الكلمات، وعبر التدافع بالمرافق لإزاحة الشعب خارج دوائر القرار، فإنّ هناك حلاً وحيداً موثوقاً: هو وضع دستورٍ جديد. البعض يرى أنّه لا يجب طرح هذه الفكرة أبداً. وهؤلاء هم من قوى المال التي تريد دولةً خاضعة للاقتصاد ولمؤسسات غير مرتبطة بالشعوب ومنقادة للطبقات المالكة. فيما يقول البعض الآخر أنّه ليس طرحها فقط ممكناً وحسب بل أنّه حيويّ اليوم، هؤلاء هم المتمسّكون بالحقوق الأساسية والرافضون للرؤى الحتمية. ذاك أنّه، وبحسب ما يعبّر عنه عددٌ من مؤلّفي الكتاب المشترك "أيّ جمهورية سادسة؟"، يجب أن يعود الشعب سيّد نفسه، أي مجتمعاً سياسياً حرّاً ينظّم شؤون مصيره بدون أن يتلقّى القانون الحديدي للوصفات الليبرالية. فالمصير المشترك هو ملكٌ له، وله وحده فقط. والمؤسسات التي توظّف إرادته يجب أن تضمن التمثيل الفعلي للجسم الاجتماعي.
إذن هل تسير الأمور في اتجاه تمرّدٍ شعبيّ أم نحو إعادة صياغة مؤسّساتية بعد تصادم الأفكار فيما بينها؟ يرفض الوزير الشيوعي السابق "آنيسيه لوبور"، في مساهمته في كتاب "أي جمهورية سادسة؟" هذه الفكرة البسيطة المضطربة حتى عن الجمهورية رقم كذا، التي لن تكون سوى صورةً عن الجمهورية الخامسة. وهو بذلك ينتقد مشروع النائب الاشتراكي "أرنو مونتوبور" المروّج لجمهوريةٍ سادسة. وفيما يدعو البعض إلى انتخاب مجلسٍ تأسيسي غايته تنظيم عملية تغيير جذرية للنظام [10] يقترح لوبور إجراء إصلاحات هادفة. وهو يقترح على الأخصّ، وعلى غرار المحامي "رولان وايل"، إصلاحاً لوضع رئيس الدولة (ص 130): انتخابٌ من قبل مجلسٍ وولاية واحدة غير قابلة للتجديد.
وبالنسبة إلى هؤلاء المؤلفين يجب الاختيار: إمّا البرلمان وإمّا الرئيس؛ إما إيكال السلطة إلى حاكمٍ معصومٍ شبه ملكيّ وإمّا نظامٌ برلمانيّ يعطي الأفضلية لمجلس مداولات لا يعمل إلا تحت رقابة المواطنين الدائمة. وقد كتب لوبور على الأخصّ ما يلي: "ليس من الممكن أن يقوم مصدران متنافسان للشرعية من أجل التمثيل الوطني والشعبي. والحال أنّه في فرنسا، ولأسبابٍ تاريخية ونتيجة لعبة السلطات الطبيعيّة تتفوّق دائماً شرعية الرئيس المنتخَب بالاقتراع العام على الشرعية التي يشترك فيها مئات النواب المنتخبين محلّياً وفقاً لنظام الأغلبيّة. يجب الاختيار إذن، إمّا البرلمان وإما الرئيس. فكيف يمكن التأكيد على أنّ هذا الإيكال الجماعي للسيادة التي يمثّلها انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام هو ملائمٌ لخطّ القوة التقليدي الذي أتي من عصر الأنوار؟ لذلك فالخيار المعتمد هنا يجب أن يكون خيار النظام البرلماني"(ص131).
وفي نظر المؤلفين إن الرئاسة السامية هي حتّى نقيض الديموقراطية. فهي تنخر حتى العصب النقاش السياسي وتشرّع تفكيك المؤسسات، التي لم تعد تترجم مطالب الشعب الفلسفية والاجتماعية.. وعلى كلٍّ هذه الرئاسة السامية هي التي تصورتها اللجنة الاستشارية التي رئسها في العام 2007، بناءً على طلب الرئيس ساركوزي، رئيس الوزراء السابق إدوار بالادور.
والعيش بحرّية، يعني ضمناً في الديموقراطية قوانين وقوى موازنة، وتوازن في السلطات وحكّامٌ هم، وفق كلمة كوندورسيه، ممثلون فعليّون للشعب. واليوم يجب التعلّم من جديد كيف تعاش الحريّة عبر الإطاحة بالوهم التكنوقراطي القائل بأنّ الديموقراطية هي مسارٌ طبيعي، كما المجتمع أو النظام الفيزيائيّ. وفي الواقع إن واضعي كتاب "أيّ جمهورية سادسة؟" يبرهنون أنّها تُبنى بإرادة الشعوب وأنها تتمأسس بوسائلٍ قانونية وسياسية عبر رفض التبعية، كما في زمن إعلان الجمهورية بعد "فالمي" في 22 أيلول/سبتمبر عام 1792 (ص 164). وفي نظرهم إنّ تصحيح وضع المؤسسات في إطار الدولة القومية "يبقى هو المستوى الأكثر ملاءمةً لتمفصل الخاص مع العام" (ص 138).
عولمة تشجّع التشنّجات في الهويّة والارتداد التراجعي إلى الجماعات الطائفيّة
دولة أمّة أم لا، فإنّ الفيلسوف ريجيس دوبريه يتخوّف (في كتابه "وهمٌ معاصر: حوار الحضارات") من نظام عولمةٍ يفاقم من التشنجات بين الجماعات. وهذه العولمة، بتطوّرها بواسطة التقانات والاقتصاد، ليس من شأنها إلاّ أن تشجّع حالات التقهقر الكياني في الهويّة. وهو في طريقه يندّد بأشكال التعصّب الديني وب"وزارة الإدماج والهوية الوطنية والهجرة" غير الفرنسية كثيراً بمفهومها. ويحلّل دوبريه، بخطوةٍ بارعةٍ كعالمٍ في مجال التواصل الإعلامي هذا "العالَم الأوحد" المعولم الذي "يتبيّن أنّه بلقنةً سياسيّة حضاريّة" تطبع "المجتمع المدني" بطابع الجماعات الطائفية أو الإتنية.
لكن أليس أنّ المؤسسات الديموقراطية، وبتفاديها تحديداً أن تجعل "منّا" قيماً مُقلقة، تستبِق عودة هذه الشعلة المؤثّرة؟ أليست هي المؤهّلة أكثر من غيرها لكي تقول "كلاّ" لهذه المبالغة في المخاتلة التي تقطع كل حيّزٍ سياسي؟ وما يخشاه الكاتب هو ما يصفه عن حقّ بالمفعول الرجعي أو "بالركض الفردي" ويعني مواصلة الانحرافات الإمبراطورية التي تنزلق من خلالها أمّة من وضعها الفعّال بالانتخاب إلى وضعٍ إتني ومن المواطنية إلى أخوّة الدم.
وحدها المؤسسات التي تحمل الأصوات المتناقضة لمجموع المواطنين هي التي تحمي من انقلاب السياسة إلى مواجهات إتنية أو دينية. وقد باتت أزمة المؤسسات وأزمة التمثيل السياسي وأزمة الدلالات اللغوية وعودة الحالات الظلامية بقوّة تشكّل مختلف أشكال الانعكاسات التي تنزلها بالحيّز العام المأزوم جماعة العولمة التكنو-اقتصادية الأمّيون في اللغة الديموقراطية ظاهرياً.
لكن المواطنين، وبحسب ما يتبيّن من غزارة المؤلّفات المخصّصة لتجديد الديموقراطية، لا يبدون مستكينين. إذن إلى متى ننتظر "ديموقراطية المواطنين" وإلامَ انتظار الدستور الجديد؟
* باحث في مجال الفلسفة، شارك مع أندريه بيللون وإيناس فوكونييه وهنري بينا-رويز في تأليف:Memento du Républicain, Mille et une nuits, Paris, 2006
[1] أي منذ استقالة الجنرال ديغول في 28/4/1969 عند الدقيقة العاشرة بعد منتصف الليل، وبعد ساعاتٍ من ال"لا" التي قالها الشعب الفرنسي لإصلاح نظام مجلس الشيوخ كما اقترحه، وبعد أحد عشر عاماً من الحكم دون انقطاع.
[2] لقد رجع الجنرال ديغول إلى الحكم في العام 1958 في سياق أحداث الجزائر (الحرب الاستعمارية والتوترات بين المستعمرين المستوطنين والعاصمة).
[3] في العام 1962 تكرّس انتخاب رئيس الجمهورية بالانتخابات العامة المباشرة بعد عملية إصلاحٍ دستوريّ أقرّت في العام 1962 بواسطة الاستفتاء.
[4] بحسب كلمة اندريه تارديو في العام 1936.
[5] اقرأ: أندريه بيلون: "هل نغيّر الرئيس أم نغيّر الدستور؟"، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، آذار/مارس 2007، http://www.mondiploar.com/article87...
[6] القانون الأساسي الخاص بالأنظمة المالية الصادر في 1/8/2001، حدّد الإطار القانوني لأنظمة مالية الدولة عبر نشر منطقٍ تنافسي في القطاع العام بغية ضغط انفاقاته. راجع: http://www.performance-publique.gouv.fr/
[7] وكذلك جان جوريس والتعاونية الاجتماعية في خطابه في 30/7/1903.
[8] منها:Association pour la taxation des transactions financières (Attac), Fondation Copernic, Réseau des écoles de citoyens (Recit), etc.
[9] وهذا ما ينطبق أيضاً على تقرير "شيرتييه" الذي أوكل دومينيك دوفيلبان أمره في العام 2006 إلى المستشار الاجتماعي السابق للسيّد جان بيار رافاران، وفيه أنّ الدولة يمكنها أن تصادق في مجال الأنظمة على قرارات الشركاء الاجتماعيين دون المرور أبداً تقريباً بالنواب... المنتخبين وممثلي الشعب، وهكذا لا يبقى البرلمان وحده السلطة التشريعية...
[10] حول هذا النقاش راجع أيضاً نظرات جماعة "ريبوبليك!"(الجمهورية) على موقع: http://www.le-groupe-republique.fr/


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.