في البداية كان الشعب يسير معها- اي الثورة - فقد كانت صنيعة يديه والدم الذي يسري في عروقه ، وكان نبضها من نبض قلبه الذي ضاق بالظلم والقهر والفقر. لقد كان العزم استثنائيا فكان قدر الله اكبر من حسابات البشر ومنطق التاريخ . فر المخلوع وتداعت دولة الباطل .شيد الشعب ملحمته في ايام معدودة ليست من الزمن الذي نعلمه ،وسلم الشعب امر الثورة الى محترفي السياسة المناضلين المعارضين المضطهدين المغلوبين على امرهم ، وعوض ان يذوبوا في الثورة ويتولوا قيادتها استحضروا حساباتهم وخلافاتهم وتناقضاتهم فتنازعوا في امرهم ،وانشغلوا بترتيب دواخل احزابهم المنهكة المعدمة كي يستعدوا للفوز في السباق الديمقراطي الموشح بالمكيدة وقلة الثقة . عزموا فقط على القبول بالنصر لاحزابهم وعقائدهم ولا شيء غير النصر...لقد سيطر الخوف والأنانية على مسار الاحزاب وانصارهم. وطغت عقلية الغنيمة من ثورة لم ينتظرها احد ولم يقدها احد . لقد كانت هبة الله عبر هبة شعبية قالت لا للظلم والهوان. لقد اقترن هذا المسارالثوري بالفرص الضائعة التي عكست فقر النخبة السياسية وعدم رشدها، وعجزها عن الوعي بلحظة تاريخية فارقة تدخلهم في حركة التاريخ ، وتوفر لهم فرص البناء الحقيقي. وفي ما يلي نعرض بعض عناوين هذه الفرص المهدورة والتي لا تعدوا ان تكون الا جزءا يسيرا من عثرات المسيرة التي لم يحسم امرها بعد ،وما زال فيها امل التدارك قائما لو توفر الوعي الحقيقي لدى النخب السياسية التي لا تزال تائهة وتخبط خبط عشواء. ولعلنا نكون قد تعمدنا التركيز على الهنات والعثرات دون ذكر الكثير من المكاسب والامتيازات بغاية التصحيح والتعديل كاولوية مستعجلة وضرورية للانقاذ : 1 – الفرصة الاولى الضائعة حدثت قبل 14 جانفي عندما بدأت تتجلى بوضوح عجز عصابة بن علي عن مواجهة الانتفاضة الشعبية حيث تجلت بوادر النهاية ولاحت تباشير فجر جديد. في تلك الايام الحاسمة بدت مظاهر تفكك ائتلاف 18 اكتوبر الذي كان صرحا نضاليا نادرا توحدت خلاله المعارضة التونسية الحقيقية من اقصى اليمين الى اقصى اليسار. في تلك اللحظات الدقيقة ولى بعضهم الادبار وسعى الى قبول مبادرة بن علي في تشكيل حكومة وحدة وطنية ربما كانت ستكون بقيادة احمد نجيب الشابي وبذلك يتم انقاذ نظام بن علي. 2- ولعله من الاكيد انه من الدرر الضائعة فعلا عدم استغلال التنظم التلقائي الشعبي لحماية الثورة فقد هب الشباب والكهول لحماية الاحياء والمرافق العامة والخاصة بشكل رائع . وعوض ان يتم البناء على ركيزة هذه الروح الواعية المبدعة ، سعى الساسة والمتأدلجون الى الاستحواذ عليها فسرى صراع اديولوجي حزبي من اجل افتكاكها وتوظيفها . لقد كان بالامكان الانطلاق في تشييد نمط مسؤول للمشاركة المحلية الشعبية الثورية المواطنية. والانطلاق في التأسيس لثقافة المشاركة عبرالحكم المحلي الداعم لوحدة الصف والواقي من الانزلاقات والقاطع مع المركزية النمطية المكرسة لتمييزجهويات محدودة والمهمشة للمشاركة المحلية ،والمكرسة للمركز الوصي ومن ثمة التعويل عليه في قيادة الثورة والتكفل بحراسة المسار الانتقالي .لقد تم اخراج الشعب من اللعبة وتكريس مركزية تتعارض مع ابسط قواعد الديمقراطية المنشودة. 3- بمجرد فرار بن علي عاد كل حزب الى حانوته واسترجع مكامن خلافه مع الاخرين ، وتم الاعلان ضمنيا على وفاة جبهة 18 اكتوبرالمألفة لقلوب صفوة المغارضة حدث تعمد القطع مع التوافق في الوقت الذي كانت فيه البلاد في اشد الحاجة لاستمرارالتنسيق والالتقاء على نبل اهداف الثورة وصفائها والتي نطقت بها جماهير الشعب الغاضبة بصدق واجماع وثبات مستبعدين كل غطاء ديني او حزبي او اديولوجي او جهوي .في ذلك الظرف الدقيق ضرورة عاجلة تستوجب ان يكون التوافق الملجأ الوحيد لمواجهة فلول النظام وانيابه ومكائده بعد هروب بن علي وقد كانت سناريوهات انقاذ النظام قد اعدت بعناية فائقة ومكر ودهاء.ولكن حال احزاب المعارضة فقد كانت تبدو في الافق بوادر العودة الى المربع الاول خلال نهاية الثمانينات : تعزيز جبهة اليسار الراديكالي والقوى العلمانية الحداثية في مواجهة الاسلام السياسي . وقد تجسد ذلك في تأسيس جبهة 14 جانفي التي ضمت الاحزاب اليسارية والعلمانية والحداثية مستبعدة الاسلاميين والعروبيين وبذلك تكون قد قدمت اعلانا ضمنيا وصريحا ينهي امل العودة لجبهة 18 اكتوبر. في تلك الفترة التي اشتد فيها الاضطراب والخوف والهلع كانت البلاد في حاجة ماسة الى احزاب المعارضة مجتمعة موحدة لتواجه ارتدادات حرب بن علي لقمع الشعب . وقد كانت الثورة المضادة قوية مستنفرة تستعجل حلول الانقاذ التي تجنبها السقوط عبر المناورة بالاستمرار في الحكم وتبني الامر الواقع والرضوخ للثورة. لقد سرى الحديث عبثا وجزافا حول احترام الدستور والقانون بتعلة تجنب الفراغ والحرب الاهلية ولكنهم لم يقدروا خطر استمرار النظام القديم في مسك زمام البلاد كان اشد. 4- ان اكبر فرصة مهدورة قد حصلت مع النهاية الدستورية لرئاسة فؤاد المبزع فقد كان الدستور يقضي بتولي رئيس البرلمان الرئاسة المؤقتة مدة ثلاثة اشهر غير قابلة للتمديد .ان التمديد للمبزع غير مستند لأي قانون .وكان بمثابة اقرار من قبل النخب السياسية والحزبية خاصة بعجزها عن مسك زمام الامور بيدها ، وترتيب اسس المرحلة الانتقالية . كان الامر يتطلب بالاساس بعد ابطال العمل بالدستور، التوافق على مجلس رئاسي بقيادة شخصيات وطنية لا صلة لها بنظام بن علي عوضا عن الرضى باستمرار النظام واشرافه على ترتيب مرتكزات المصير. وقد مكن هذا الوضع من اتاحة الفرصة للسبسي ، ضمن مشروع تآمري على الثورة، ليقود البلاد عبر حكومة تجمعية تم تسويقها على انها حكومة تكنوقراط وقد تمكنوا من زرع الالغام عميقة الاثر على المستقبل فتمت تصفية الارشيف المتضمن لمكامن الفساد . كما استطاعت هذه الحكومة زرع عدد كبير من كوادر النظام المخلصين في مواقع حساسة شملت كل القطاعات وخاصة منها الداخلية والمالية والقضائية .ومن جهة اخرى حققت هذه الثورة المضادة ،المحروسة من احزاب الثورة ، ما ارادته في اضعاف فاعلية عديد المرافق العمومية مثل تعيين معتمدين من العاطلين وتركيز مجالس بلدية غير منسجمة وغير مقتدرة . كما ورطت الاقتصاد بزيادات في الاجور وانتدابات عشوائية. وابرمت اتفاقيات مع اتحاد الشغل لا تتناسب مع امكانيات الدولة . كما قامت حكومة السبسي بانهاك نفقات الدولة التي تقلصت مواردها. ان البهتة التي حصلت لاخزاب الثورة كانت بسبب غياب الثقة بينها وانشغالها بالاستعداد للانتخابات( الغنيمة ) واستعجالها لصراع داخلي لا يقوم على مبادئ الديمقراطية وانما يروج لنزعة استئصالية وتجاذب سياسي واديولوجي يتناقض مع اهداف الثورة واستحقاقاتها العاجلة . ويتعارض مع ابسط مبادئها . لقد ضيعت الاحزاب استحقاق مستوجب يحتم التعجيل في اقامة حكومة وحدة وطنية تقطع الطريق على النظام المتشبث بطبيعة الحال بالدفاع عن نفسه وهو ما زال يمتلك دواليب الدولة وآليات الامن ويسيطر على شرايين الاقتصاد ومؤهل للمناورة مع العدو الخارجي.في تلك الفترة الاستثنائية كان للشعب روح سامية غير معهودة، لم تستوعب المعارضة ابداع الشعب التونسي وقدرته على الانضباط والتضامن واستعداده لللتضحية.ولم تقدر حقيقة الادارة التونسية المهيكلة والمتضمنة لموارد بشرية مقتدرة واستعدادها لتأمين سير المرافق العامة باستقلال عن الحكومة والحراك السياسي. 3- رغم استمرارحكم نظام بن علي فان الشعب ظل يحرس خيار الثورة ويضغط لللدفع نحو انتقال حقيقي للسلطة. لقد ضيعت الاحزاب والنخب السياسية فرصة التأسيس التي اتاحتها مضطرة حكومة الباجي قائد السبسي متمثلة في الهيئة العليا للاصلاح وتحقيق اهداف الثورة فقد ارتضت لنفسها قسمة ظيزى تقوم على تهميش دور الاسلاميين وتمييل الكفة لصالح ما يعرف بالقوى الحداثية والتقدمية واليسارية .وقد كان لذلك انعكاس خطير في القضاء على ما تبقى في جرعة الثقة بين الاطراف السياسية مما كرس التجاذبات والاستقطاب الاديولوجي، ولوث الساحة الثورية بهامشيات وترهات قادت الى جدل عقيم مفتعل حول الدين والدولة والعلمانية واللائكية وحرية المرأة وممارسة التعبير الفني بدون قيود... وكأن الثورة قد وضعت اوزارها وحققت اهدافها ولم يبق الا الحديث عن ضروب الحرية الفنونية المهددة واستعراض الاعتداء على المقدس اثباتا لعطايا الحرية الجديدة. 4- لقد اتاح سير الانتخابات المتميزونجاحها فرصة جديدة لتدارك العثرات السابقة .وكان بامكان حركة النهضة الفائزة في الانتخابات ان تقدم تضحية حقيقية مدروسة تؤسس لمسار جديد من خلال تمسكها بحكومة وحدة وطنية تجمع كل الاطراف الفاعلة او حكومة تكنوكراط تجنبا لانقسام سياسي مدمرينذر بتعطيل المسار بمساندة خارجية . لكن رغبة حركة النهضة في الاستفادة من شرعية الصندوق وخوفها من غدر خصومها وتعطشها لتجريب الحكم طغى على خياراتها رغم المحاولات المحتشمة في التوافق . وقد ادى هذا الاستئثار المشروع الى تشرذم الساحة السياسية وبروز صراع تدميري غبي اقحم الشارع في مزايدات الاحزاب ومكن رموز نظام بن علي من اعادة ترتيب صفوفهم والتصدي لكل محاولات الاصلاح. وتسنى للمعارضة الفاشلة مدفوعة بسلبية الحكومة المرتبكة وغير الخبيرة ، استعراض قدرتها على الهدم وارباك الوضع ودفع اقتصاد البلاد الى الانهيار والوضع الامني الى الفوضى وتعطيل ممنهج للمرافق العامة. 5-اما على المستوى الاعلامي والثقافي فقد اتاحت الثورة فرصة نادرة وغالية لاستثمار مناخ الحرية المتاحة للمبادرة في معاضدة المسار الثوري بنشر الوعي والسلوك الراشد المبني على قيم المواطنة الجديدة والمحافظة على الاملاك العامة والخاصة واحترام الراي المخالف والتأسيس لقيم التضحية والتآزر من اجل تحقيق اهداف الثورة وحمايتها من الانزلاقات ومواجهة الثورة المضادة.ولكن ، للاسف فان واقع الاعلاميين ومنتوجهم اتجه الى استغلال الحرية في الاثارة وشحن الراي العام ودفعه الى العنف باستعجاله البالغ فيه للمطالب الاجتماعية للفئات المحرومة ،وعدم رضاها المصطنع باية اجراءات لا تقضي على البطالة والفقر. وقد ذلك الى شحن التمرد ومحاولات العصيان المدني وخلخلة الامن العام في مناسبات متكررة. كما تلذذ الاعلاميون بصادية معلنة جلدهم للحاكم الجديد وتشويهه بضراوة من خلال التعدي على اشخاص الحكم وتشويه ساخر جارح للرئيس والوزراء وتهميش مؤسسة الرئاسة وهتك هيبة الدولة وحرمة الادارة والمرافق العامة. لقد اتيحت للاعلاميين فرصة حقيقية لتأسيس نواتات اعلامية جديدة تنفتح على الثورات العربية وتؤسس لقطب اعلامي دولي يجعل من تونس منارة لصناعة اعلامية تفرز جيلا جديدا من الاعلاميين يساهم في التطوير الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي وينمي الموارد البشرية النوعية.ويبشر بثقافة جديدة. اما جماعة الابداع والثقافة فعوض ان ينخرطوا في الاستفادة من هامش الحرية الذي حرموا منه سابقا ويشرعوا في انتاج ابداع بديل متنوع ومتجدد. اكتفوا بالنواح والعويل القائم على طلب الحرية متذرعين باحداث جلها مصطنع تضخم استهدافهم .وطلبوا من يعتدي عليهم عبر استفزازات مكثفة في الاعتداء على المقدس والاخلاق العامة فجعلوا من تجاوزات فردية معزولة شغلهم الشاغل ومدعاة لتضامنهم ومطية لاستنفار مفتعل يزيد في تغذية التجاذبات وتبادل التهم.ولم يخرجوا من قوالب الابتذال المبني على جرأة وقحة لا اخلاقية ليس لها هم سوى تصوير الحكومة في مقام الفاشل العاجز الابله وذلك عبر عبقريتهم في تكثيف الانتاج الدرامي التلفزيوني والمسرحي المعتمد على دعم الدولةالمالي واستغلال المرافق الاعلامية العامة. لقد جعلوا من الوضعية فرصة للتمعش والارتزاق والمحافظة على الامتيازات. صحيح ان عديد الفرص قد ضاعت وهي تهدد بضياع الثورة ولكن الوعي بالاخطاء مدعاة للعزم بجدية على تصحيح الوعي ولن يتسنى ذلك الا بتجاوز الصراع والسباق الحزبي والاعداد لحكومة وحدة وطنية تنطلق بعد اعداد الدستور وانتهاء مدة الحكومة الحالية ولا يلغي هذا الامر اجراء الانتخابات البرلمانية القادمة .ولكن لا شيء يمنع من الاتفاق على حماية الاقتصاد والامن وارساء مؤسسات حوار حول الديمقراطية المحلية واصلاح الادارة والتعليم والقضاء والثقافة دون التقيد بالمحصاصات الحزبية الضيقة في مسائل استراتيجية لا تكتمل الثورة بدونها. ان التونسيين لن يفرطوا في ثورتهم وهم وحدهم يعرفون متى وكيف يقولون كلمتهم.