وزير الشؤون الخارجية يؤكد: هناك حاجة ملحة لسد فجوة التمويل لتحقيق التعافي    وزير الخارجية: قلق شديد إزاء عجز المجتمع الدّوليّ والمنتظم الأممي عن وضع حد لنزيف الأرواح    وزير الشّؤون الخارجيّة يلتقي نظيرته الفنلندية    أريانة: جولة دعائية للمترشح قيس سعيد في أريانة المدينة    سياحة ...إطلاق مشروع «تانيت» للسياحة المستدامة في تونس    شهداء وجرحى اثر غارات جوية استهدفت حارة حريك في الضاحية الجنوبية    ميلان يفوز على ليتشي في الدوري الإيطالي    كيف سيكون طقس السّبت 28 سبتمبر 2024؟    لمعلوماتك الشخصية .. قصة القهوة !    بين قابس والعاصمة ...الكشف عن شبكة لتهريب الأدوية    مع الشروق .. المخطّط الصهيوني أخطر من اجتثاث المقاومة من غزّة ولبنان!    بريطانيا تدعو مواطنيها إلى مغادرة لبنان فورا    النسيج القفصي :معرض جماعي للنسيج الفني "السدوة والنيّرة" من 3 الى 17 اكتوبر 2024 بالمرسى    المكنين: الاحتفاظ بنفر من أجل محاولة القتل العمد    زغوان: انطلاق الدورة 34 للمهرجان الجهوي لنوادي المسرح بدور الثقافة ودور الشباب والمؤسسات الجامعية    رئاسة الحكومة تدعو كل الجمعيات إلى التقيد بهذه الإجراءات: التفاصيل    البرلمان يصادق على تنقيح بعض أحكام القانون الانتخابي    القبض على 15 عنصرا تكفيريا محل مناشير تفتيش في مختلف ولايات الجمهورية    ليل الجمعة.. سحب بأغلب الجهات تكون محليا كثيفة بالمناطق الغربية    مكتب الرابطة يسلط عقوبات مالية على 3 فرق    سيدي بوزيد : حجز كمية من الحليب غير صالح للاستهلاك    نتنياهو امام الامم المتحدة: "لا مكان في إيران لن تطوله أيدينا.. ولن تملكوا النووي"    قابس : الاحتفال باليوم العالمي للسياحة    كيف أعرف لون عيون طفلي    الحمامات: الاحتفاظ ب 3 أشخاص من أجل تعاطي الرهان الرياضي    عاجل : مونديال الأندية 2025 مهدد بالإلغاء    عاجل : الحرس الوطني يعلن عن إحباط عمليات التهريب تقدر ب400 ألف دينار    تصفيات الكان: تغيير ملعب مباراة تونس وجزر القمر    عالم السحرة يفقد أسطورة التمثيل ماغي سميث    الرابطة الأولى: النادي الصفاقسي يستعيد خدمات أبرز ركائزه في مواجهة شبيبة العمران    النادي البنزرتي: تنقيحات بالجملة في القانون الأساسي    ماهي القنوات الناقلة لمباراة الأهلي والزمالك في كأس السوبر الإفريقي ؟    كاتب الدولة للخارجية يلتقي السفير الامريكي    لأول مرة بمستشفى مدنين.. استعمال حقنة "توكسين بوتوليك" لفائدة مريض بشلل نصفي    تحفيزا للنمو: الصين تسعى لدعم السيولة النقدية    في أوّل مجلس وطني منذ نشأته: اتحاد الكتاب التونسيين يقرر استراتيجية عمل جديدة    لجنة المالية تقرّر الاستماع إلى وزيرة المالية    تكريم المسرحي السعودي ابراهيم العسيري في المهرجان الدولي للمسرح وفنون الخشبة بالمغرب    الكاف: اتحاد الفلاحة يطالب المزوّدين بتوفير مستلزمات الموسم    مدنين: لقاء حول "درع جربة" ضمن مشروع "ماكلتي تونسية"    معاناة إنسانية كارثية في قطاع غزة    مهرجان الإسكندرية المسرحي : تتويج مسرحية تونسية    الحماية المدنية 471 تدخل منها إطفاء 40 حريق    قابس: تقدير صابة الزيتون لهذا الموسم ب70 ألف طن    في السعودية: وزارة الصحة تقدّم تلقيح ''القريب'' في المنازل    الرابطة الأولى: برنامج وحكام الجولة الثالثة    عاجل : صاحب أغنية ''كأس العالم 2010 '' الشهيرة متهم بالاعتداء الجنسي    تفاصيل : الشركة التونسية للشحن والترصيف تتسلم معدات جديدة    مجلس الوزراء يوافق على عدد من مشاريع المراسيم والقوانين والاوامر    تونس تعاني نقصا في أدوية السرطان    رغم الانتقادات اللاذعة.. تنفيذ ثاني إعدام بالنيتروجين في تاريخ الولايات المتحدة    وزير خارجية لبنان يدعو لتطبيق المقترح الأمريكي الأوروبي لوقف إطلاق النار بشكل فوري    هذا موعد انطلاق حملة التلقيح ضد 'القريب'    اسألوني    مدينة مساكن .. أجيال أسسوا تاريخها وشيدوا حاضرها    خطبة الجمعة...المسؤولية أمانة عظمى    في ديوان الإفتاء: إمرأة أوروبية تُعلن إسلامها    الارض تشهد كسوفا حلقيا للشمس يوم الأربعاء 2 أكتوبر 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



احترام إرادة الأمة (2-2) د. محمد عبد الرحمن المرسي


عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين
توضيحات فقهية
إن رسالة الإسلام لها ثوابت وأصول متفق عليها، تشكل إجماع الأمة والسلف الصالح،وبالتالى ليست فهماً عند فصيل، يتغير عند فصيل آخر، وإذا دعا بها أحد فهو ليس يدعو بفهم يختلف معه فيه، وإنما يدعو للإسلام وثوابته – فشمولية الإسلام لتنظيم أمور الحياة، وأنه دين ودولة، وحرصه على وحدة الأمة الإسلامية، وضرورة تطبيق أحكامه وشريعته، وأنه الرسالة الخاتمة من الله للبشرية جمعاء، وأن كتاب الله القرآن الكريم نتعبد به ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. الخ هى ثوابت لكل مسلم وكل فصيل إسلامى.
والمرجعية الأساسية للشريعة الإسلامية، بإجماع فقهاء المسلمين قاصرة على مصدريها الأصليين وهما القرآن الكريم ، والسنة النبوية الصحيحة الثابتة عن رسول الله – قولية وفعلية – وهى مبينة للقرآن ومفصلة لأحكامه.
وباستقراء نصوص القرآن والسنة النبوية يتأكد أن الشريعة الإٍسلامية شريعة شاملة تتناول بالتنظيم والتوجيه أمور الدين وأمور الدنيا معاً.
وهى بحسب المسائل التى تنظمها أشار العلماء أنها تتنوع إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: نصوص تنظم أموراً ثابتة لا تتأثر باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات، فجاءت مفصلة تفصيلاً دقيقاً، وهى الأمور الخاصة بالعقائد والشعائر والعبادات، وهى تطبق كما وردت بلا اجتهاد ولا زيادة، ولا نقصان.
النوع الثاني: نصوص تنظم أموراً تتأثر بالمتغيرات تأثراً قليلاً، فجاءت قواعده جامعة بين المبادئ العامة والتفاصيل الضرورية كمسائل الأحوال الشخصية والأسس الاجتماعية والأخلاقية، والقواعد التى يقوم عليها بناء المجتمع المسلم، ولا قيام له بدونها، وإذا فقدها فقد صبغته المميزة كمجتمع إسلامى.
النوع الثالث: نصوص تنظم العلاقات المدنية الحياتية الدنيوية بكل أنواعها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بين الأفراد وبعضهم وبينهم وبين الدولة .. الخ.
وهذه المسائل هى التى تتأثر بظروف الزمان، وفى هذا النوع اكتفت الشريعة بوضع المقاصد العامة والأصول الكلية والمبادئ والأهداف المرنة التى تستجيب عند التطبيق للمتغيرات، وتركت الكثير من التفاصيل للاجتهاد البشرى فى نطاق المبادئ العامة والأصول الكلية، وذلك لمن تتوافر فيه شروط الاجتهاد مع الالتزام بوسائله الأصولية والفقهية.
ومن حيث النصوص، فهى تتنوع إلى :
أ‌- نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وهذه لا مجال للاجتهاد فيها .
ب‌- ونصوص ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة. ( وتشمل داخلها أيضاً قطعية الثبوت ظنية الدلالة). وهى التى تحتمل وجوهاً عدة وهى المجال الأوسع للاجتهاد وتعدد الآراء الفقهية فيها.
وظنّى الثبوت يكون فى الأحاديث النبوية،حسب قوة السند وترجيح حديث على آخر،وكذلك فى ظنى الدلالة،تُفهم الأحاديث والآيات فى إطار قواعد اللغة العربية وفى الإطار العام لرسالة الإسلام،حيث يختلف الفهم والتفسير لمدلول بعض الآيات والأحاديث من عالم لآخر،وتكون هنا مساحة الاختلاف الفقهى والاجتهاد البشرى وفق قواعد وأصول الاجتهاد.
وقد يحدث مصاحباً لذلك القيام بالتحقيق العملى ومناقشة الأدلة للآراء المختلفة وترجيح رأى على آخر أو الخروج بالرأى الفقهى الراجح وفق تلك القواعد.
وهناك كذلك مساحة أيضاً للاجتهاد وذلك فى المسائل التى لم يرد فيها دليل شرعى معتبر الدلالة، فيكون الاجتهاد البشرى الفقهى ، لمواجهة المستجدات واستحداث القواعد والإرشادات والوسائل التى تخدم المقاصد الأساسية للشريعة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وكذلك من الاستفادة مما لدى الآخرين من حكمة فى مجال تنظيم أمور الحياة بحيث يستخلصها ويصبغها بالصبغة الإسلامية وتكون خادمة ومعينة لتحقيق هذه المقاصد وفى الإطار العام لرسالة الإسلام وصبغته للمجتمع.
وعن قيمة العقل والنظر البشرى وحدود عمله يقول الإمام البنا فى الأصل الثامن عشر والتاسع عشر من أصول الفهم فى رسالة التعاليم:
" الإسلام يحرر العقل ويحث على النظر فى الكون ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح والنافع من كل شيء والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها".
" والشرع مقدم على العقل مطلقاً كما أنه لا يصطدم معه فى الحقائق العلمية أبداً،وقد يتناول كل من النظر الشرعى،والنظر العقلى مالا يدخل فى دائرة الآخر، ولكنهما لا يختلفان فى القطعى، فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة، بقاعدة شرعية ثابتة، ويؤول الظنى منهما ليتفق مع القطعى، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعى أولى بالاتباع حتى يثبت العقلى أو ينهار ".
ويقول أيضاً حول الخلاف الفقهى فى الآراء: " والخلاف الفقهى فى الفروع لا يكون سبباً للتفرق فى الدين، ولا يؤدى إلى خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمى النزيه فى مسائل الخلاف فى ظل الحب فى الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب" ( الأصل الثامن من أصول ركن الفهم ) .
وتبين لنا من مطالعة آراء الفقهاء فى توضيح أحكام الشريعة أن هناك هذه المساحة المتنوعة :
1. مساحة اتفق عليها الفقهاء بالإجماع، وهى الخاصة بثوابت الإسلام ومبادئه.
2. مساحة من الرأى الفقهى الشرعى اتفق عليها غالب العلماء، أو أن التحقيق العلمى بضوابط رجّح رأياً بصورة قاطعة مثلما كان مذهب أهل السنة والجماعة فى أمور العقيدة والعبادة، وكذلك مسألة وجوب نصب الحاكم أو الإمام، حيث اتفق عليها علماء الأمة من السلف والخلف، ولم يشذ عن ذلك إلا فرقة صغيرة من فرق الخوارج ليس معها دليل شرعى أو أصل علمى.
وبالتالى يكون من شذّ عن ذلك كان رأيه مرجوحاً خاطئاً مخالفاً لرأى الأمة وإن كان لا يخرجه من دائرة الإسلام.
3. ثم هناك مساحة من الاختلاف الفقهى فى فرعيات المسائل، أو فى كيفية تطبيق بعض الأمور الواجبة، أو فى إسقاط الحكم الثابت على واقع موجود.
وتتعدد بذلك آراء الفقهاء حسب اجتهادهم البشرى فى استنباط الأحكام كما أشرنا إلى ذلك.
ولا يعتبر رأى أى شخص كأنه رأياً فقهياً أو مذهباً معتبراً يضاف لوعاء الاجتهاد الفقهى إلا وفق قواعد وأصول فى استنباط الأحكام ووفق توفر شروط الاجتهاد لمن يقوم بذلك.
كما أنه لكل فرد أو تجمع ما، أن يتبنى مذهباً أو اختياراً فقهياً من هذه الاختيارات والآراء الفقهية، فهو يلتزم بالاختيار الفقهى الذى رجح لديه هو، ولا يشترط أو يكون فى فهمه أن يلغى رأى الفقهاء الآخرين، أو أن يتخلى عن اختياره الفقهى طالما أنه معتبر بدليل شرعى لديه، لأن هناك من اختار رأياً آخر.
يقول الإمام البنا مستكملاً توضيح هذا الجانب:"وكل مسلم لم يبلغ درجة النظر فى أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماماً من أئمة الدين ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع فى تعرف أدلة إمامه وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صدق من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمى إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر"( ).
ويبقى الأمر كذلك فى هذه المسائل الفرعية إلى أن يكون هناك توافق بقيام التحقيق العلمى من العلماء للترجيح بين الأقوال الفقهية وفق قواعد الاجتهاد وأصول التحقيق العلمى للخروج بالرأى الراجح، وبالتالى تكون الآراء الأخرى مرجوحة ولكنها غير ملغاة، أو غير معتبره فقهيا.
وكذلك للإمام – أى الحاكم – المعتبر شرعاً والحائز على القدرة على النظر الشرعى فى المسائل الفقهية (أو من خلال المؤسسة المؤهلة لذلك فى المجتمع) أن يأخذ اختياراً فقهياً ويلزم المجتمع به وذلك فى أمور عملية يلزم فيها الاجتماع، منعاً للاختلاف وتحقيقاً لوحدة الأمة، لكن مع بقاء باقى الآراء الفقهية الأخرى ضمن الرؤية والطرح، ويكون هذا اختيارًا فقهيًا وليس إلغاءً لباقى الآراء.
أما فى باقى الأمور التى لا يلزم فيها اجتماع الأمة فى ممارستها، فلكل أن يأخذ بالرأى الفقهى المعتبر شرعاً مع اجتهاده فى التعرف على الدليل الشرعى له إذا كان هذا ممكناً عنده، فهذا حق شخصى له.
وقد منع الإمام مالك، الخليفة أبو جعفر المنصور عندما أراد أن يفرض مذهب الإمام مالك على الأمة كلها.
قد يحدث أن يخلط الإنسان فى فهمه بين ربانية الدعوة، وجهده البشرى ويسحب ذلك على نفسه كبشر يصيب ويخطئ.
فالربانية بالدعوة فى المنطلق والغاية ، وفى الأصول والقواعد، وفى رعاية الله لها وتأييده للدعوة، أما الإنسان الذى يحمل الدعوة فهو يجتهد فى أن يتمثل هذه القواعد والمبادئ ويسعى لتحقيق الهدف والغاية الربانية.
وهذا الاجتهاد ليس له قداسة، فهو اجتهاد بشرى قابل للخطأ، وقابل للمراجعة والتعديل والتطوير ويحتاج إلى النصيحة فيه دائماً.
وبمقدار التزامه بهذه الأصول وبتلك الدعوة الربانية وحمله لها بمقدار تحقيقه لرضى الله وتوفيقه له، طمعاً ورجاءً فى ثوابه وخوفاً من عقابه.
وكل المسلمين - وليس هو فقط – مطالب بهذا الأمر وهذا يفرض عليه أن يكون على مستوى عالى من السمو فى الأخلاق والسلوك بما يتناسب مع سمو الدعوة وربانيتها.
وهذا الأصل فى الدعوة يستمد إطاره من كتاب الله وسنة رسوله r وليس من أفكار ورؤية أحد ، فالمفروض أن الجميع ينتسب إليها ويسعى لحملها وتطبيقها فى نفسه وأسرته ومجتمعه وأمته.
ثم هناك مساحة أخرى تمثل اجتهاد الجماعة واختيارها الفقهى الراجح لديها وفق الأدلة والأسانيد فى كيفية حمل هذه الدعوة والطريق الذى تسلكه وفقاً لما رجح لديها - بعد التمحيص والدراسة من هدى رسول الله - وهو بهذا يمثل ثوابتها وصفة لازمة للجماعة التى تحمل الدعوة، وهى تخص به نفسها ولا تلزم الآخرين به وتعتبره من ثوابتها ورؤيتها وقناعتها بصوابه، ولها بهذا أن تدعوا الآخرين إليه، وتناقشهم فمن استجاب عن فهم واقتناع كان معهم، ومن رفض فلكل الحق والحرية ان يختار ما يشاء من طرق ووسائل فى مجال الدعوة.
نختصر القول أن الاجتهاد البشري في هذا المجال يشمل: اجتهاد التطبيق للقواعد والأصول واجتهاد الاختيار الفقهي في الفروع واجتهاد الوسائل والبرامج في الحركة والمواقف.
وبالتالى نقول إن القواعد والأصول والأهداف والغايات ليست محل مراجعة فكرية فهى من ثوابت الدعوة، وكذلك أيضاً ثوابت الجماعة واختيارها لمنهجها وطريقها وفق ما قامت به من دراسة وتحقيق شرعى هو كذلك من الثوابت عندها ويشكل الإطار والمرجعية الحاكمة لديها ولا محل للمراجعة إلا إذا كانت تريد أن تتخلى عن منهجها وجماعتها، أو قدرت أن دراستها لم تكن كاملة، وتبقى المراجعة تختص بالوسائل والأمور الفرعية التى تواجه بها الواقع المتغير، وبمدى الجهد البشرى المبذول فى الالتزام بهذه الأصول وتلك الثوابت، وقد تأتى النصيحة فى هذا الشأن من داخل الجماعة أو من خارجها.
فنطالب الآخر بألا ينصح على شرط الإجابة ( كما قال ابن حزم ) وأن يكون موضوعياً فى نصيحته ونقده، ونطالب الجماعة أن تنظر فى النصيحة على أى وجه جاءتها فالحكمة ضالة المؤمن، طالما كانت فى إطار المساحة القابلة للاجتهاد والمراجعة وأما المراجعة الداخلية من الأفراد أو وحدات الجماعة فى الوسائل والفروع والخطط والمناهج..الخ، فهى قائمة ومستمرة وتشهد تطويراً وتحسيناً وتحدد لها الجماعة المسارات والمؤسسات والآلية المناسبة لإتمام ذلك، وهذا أمر لا يحتاج معه إلى وجود تحزب داخلى أو تيارات وأجنحة، فهم كصف الصلاة كل فرد مسئول عن ردّ الإمام إذا تجاوز واخطأ ومسئول أيضاً عن استقامة الصف وعن نفسه كذلك، وتتم هذه النصيحة فى إطار الشورى والمؤسسية وآداب النصيحة وثوابت الجماعة ورسالتها.
بعد هذا التوضيح لتلك الأسس والقواعد، يتساءل بعض الناس هل ما يطرحه الإخوان من دعوة ورسالة وأهداف هى فهمهم الخاص للإسلام، وبالتالى لأى فرد أو جماعة أخرى أن تفهم الإسلام بغير ذلك؟ أم أن هذا هو الإسلام وبالتالى لا يجوز الاختلاف عنه ؟
نقول : إن ما يطرحه الإخوان من رسالة وأهداف ومنهج لابد أن نعرضه على قواعد الإسلام حيث تشكل هذه القواعد المرجعية والميزان الضابط الحاكم، وبالتالى يتضح لنا أن هناك ثلاث مساحات فيما يعرضه الإخوان:
أ‌) مساحة الثوابت والأصول.
ب‌) مساحة الواجب والرأى الغالب المجمع عليه من أغلب الفقهاء .
ت‌) مساحة الاجتهاد البشرى فى الاختيار الفقهى والتطبيق البشرى.
إن ما تدعو إليه جماعة الإخوان من رسالة الإسلام العامة وأصوله المتفق عليها من وجوب تطبيق أحكام الإسلام ووحدة الأمة الإسلامية والاستقامة على شرع الله وأن الإسلام دين شامل يوجه مجالات الحياة المختلفة والأهداف الإسلامية الكبرى التى تعمل عليها بدءاً من تربية الفرد المسلم حتى تحقيق أستاذية العالم للأمة الإسلامية، وكذلك التزامها بمنهج أهل السنة والجماعة فى الاعتقاد كل هذا يمثل دعوة القرآن ورسالة الإسلام و ليس فهماً خاصا بالإخوان أو اختياراً فقهياً من الاختيارات.
ومن خالف ذلك الفهم وخرج عن هذه الأصول يكون رأيه مرجوحاً وشاذاً وخارجاً عن الأصول.
وفى هذا الإطار والمعنى نفهم قول الإمام البنا عن دعوة الإخوان: " .. نحن الإسلام أيها الناس، فمن فهمه على وجهه الصحيح فقد عرفنا " – أى حملة رسالة الإسلام ( ) .
"أجل دعوتنا "إسلامية" بكل ما تحتمل الكلمة من معان"( ).
"فإذا سألتهم عن أصول هذا المنهاج النظرية ما هى؟ فإنى أجيبك فى صراحة تامة:هى الأصول والقواعد التى جاء بها القرآن الكريم،فإذا قلت:وما وسائلهم وخطواتهم العملية؟ أقول لك فى صراحة كذلك: هى الوسائل والخطوات التى أثرت عن الرسول العظيم r ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها "( ) .
وبالنسبة للمساحة الثالثة فإن الإخوان فى دعوتها ورسالتها لا تتبنى رأياً أو مذهباً فقهياً معيناً، وإنما هى تتوجه للأصول والثوابت وما اتفق عليه غالب علماء الأمة فى جوانب الدعوة والإصلاح،وذلك لتكون عامل وحدة للمسلمين وتجمعهم على أصل الدعوة للإسلام وليس على الاختلاف فى فرعية من الفرعيات . يقول الإمام الشهيد مشيراً إلى ذلك:" فاعلم – فقهك الله – أولاً أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلى طائفة خاصة ولا تنحاز إلى رأى عُرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة، وهى تتوجه إلى صميم الدين ولبه"( ) .
وإذا كان للجماعة فى بعض المواقف أو الأمور أن تختار رأياً فقهياً من الآراء المطروحة وفق ميزان الترجيح عندها، فهى تلزم بذلك أفراد الجماعة، حيث يمثل ذلك تصورها، لكن لا تشترط إلزام الآخرين به أو إلغاء آرائهم أو عدم الاختلاف معها بشأنه.
وكذلك فى مساحة التصور العملى لخطوات الإصلاح والمنهج الذى تضعه لتحقيق الأهداف، فهذه كلها من واقع الاجتهاد البشرى الذى ينطلق عن فهمه لمبادئ الإسلام، وهو أمر يقبل التطوير فى البرامج والوسائل ( وليس الأهداف والمنطلقات)،ويجوز للآخرين الاختلاف معه،والجماعة تطور نفسها وتراجع خطواتها دوماً فى هذا الشأن وتستفيد من كل جديد، ولها الحق أن تختار لنفسها ما تراه مناسباً فى هذا الشأن.
ودعوة الإخوان كما أشار الإمام الشهيد أن من خصائصها وسماتها أنها دعوة ربانية،وإنسانية، عالمية ( ).
فالربانية : تعنى أن منهجها وأهدافها ومبادئها مستمدة من دعوة الله رب العالمين ومن رسالة الإسلام الخالدة، وأن هذا هو المرجعية والأصل لها، مع دوام الصلة بالله، والأمل والرجاء فى تأييده لها، والسعى لنيل رضى الله.
والإنسانية: تشير إلى أنها جهد بشرى يجتهد للالتزام بتعاليم الإسلام وحمل دعوته للعالم كله، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر المجتهدين طالما التزم بالأصول والثوابت.
ونذكر هنا كمثال : بالنسبة لتوضيح رأى الجماعة فى مسألة الولاية العامة ورئاسة الدولة وعدم جوازها لغير المسلم أو للمرأة.
فإن إجماع علماء الأمة وسلفها اشترط الإسلام للإمامة والولاية العامة وكذلك شرط الذكورة.
والاختلاف هنا الذى استحدثه بعض العلماء المعاصرين ليس فى هذا الأصل، وإنما فى التطبيق على الواقع، هل الدولة القائمة بمفهومها العصرى الآن يمثل فيها رئيس الدولة الولاية العامة والإمامة المقصودة، حتى نطبق عليها هذا الشرط الرئيسى أم هى غير ذلك؟ وكذلك ذهب البعض القليل إلى قصر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منع ولاية المرأة على الإمامة الكبرى أى الخليفة فقط، وليس الولاية العامة .
والرأى الراجح عند الإخوان – وهذا حق لهم كاختيار فقهى ذهب إليه أغلب علماء الأمة – عدم جواز الولاية العامة – أى رئاسة الدولة – لغير المسلم أو للمرأة، وأن منصب رئيس الدولة فى الحكومة الإسلامية التى تقيم شرع الله، يمثل ولاية عامة وله نفس اختصاصات الإمام من السلطة، ومهمة حراسة الدين وسياسة الدنيا، وبالتالى ينطبق عليه هذا الحكم الفقهى.
وهو يمثل بذلك الرأى الراجح عندها والاختيار الفقهى الذى يلزم أفرادها، مع حرية كل من هو خارج الجماعة أن يقتنع بذلك، أو يتبنى رأياً فقهياً آخر حتى ولو كان مرجوحاً ومخالفاً لما تراه.
وبهذه المناسبة نشير أن الخليفة والإمام فى تاريخ الأمة الإسلامية ( الخلفاء الراشدون)،لم يكن ذا سلطة فردية مطلقة أو لا يوجد معه أى مؤسسة تحاسبه وتراقبه، فيحتج بذلك بعض العلماء الذين ذهبوا للرأى الآخر. إن واقع التاريخ يذكر أن الدولة فى الإسلام تقوم على مؤسسات فمؤسسة أهل الحل والعقد كانت قائمة بدورها طوال عهد الخلفاء الراشدين، وتكلم عنها الفقهاء بعد ذلك وحددوا اختصاصاتها وشروط عضويتها وتركوا للأمة الاجتهاد فى كيفية تشكيلها. والمؤسسة التنفيذية "أولى الأمر" فى الدولة ليست فرداً واحداً، وقد أشار لذلك القرآن بتعبير أولى الأمر بصيغة الجمع.
وكذلك آلية "الشورى” من أركان الحكم الإسلامى ولها ضوابطها وترك للأمة تحديد كيفية التنفيذ لهذا المبدأ.
هذه بعض الأمور دون الخوض فى التفصيل الفقهى أردنا أن نلفت النظر إليها حتى لا تختلط الضوابط والموازين، وتتضح الرؤية لبعض جوانب الدعوة ومواقفها.
والله الموفق وهو الهادى لسواء السبيل،،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.