اليوم انطلاق تحيين السجل الانتخابي    في مسيرة لمواطنين ونواب ونشطاء .. دعم لسعيّد ... ورفض للتدخل الأجنبي    "دبور الجحيم"..ما مواصفات المروحية التي كانت تقل رئيس إيران؟    الحرس الثوري الإيراني: تلقينا إشارة من طائرة الرئيس المفقودة    العداء الشاب محمد أمين الجينهاوي يتأهل رسميا لدورة الألعاب الأولمبية باريس 2024    انخفاض في أسعار الدجاج والبيض    الخارجية الإيرانية: جهود الوصول إلى مكان مروحية الرئيس متواصلة    يوميات المقاومة .. ملاحم جباليا ورفح تدفع بالأمريكان والصهاينة الى الاعتراف بالفشل...الاحتلال يجرّ أذيال الهزيمة    ردود أفعال دولية على حادث تحطم طائرة الرئيس الإيراني..    ماذا يحدث في حال وفاة الرئيس الإيراني وشغور منصبه..؟    البينين تشرع في إجلاء طوعي    انفعال سيف الجزيري بعد منع زوجته من دخول الملعب بعد تتويج الزمالك بالكونفدرالية (فيديو)    أولا وأخيرا .. «صف الياجور»    لَوَّحَ بيده مبتسماً.. آخر صور للرئيس الإيراني قبل سقوط مروحيته    قفصة: مداهمة منزل يتم استغلاله لصنع مادة الڨرابة المسكرة    حوادث.. وفاة 12 شخصا وإصابة 455 آخرين خلال 24 ساعة..    4 تتويجات تونسية ضمن جوائز النقاد للأفلام العربية 2024    الزارات -قابس: وفاة طفل غرقا بشاطئ المعمورة    جندوبة: تحت شعار "طفل ومتحف" أطفالنا بين روائع مدينة شمتو    تراجع توقعات الإنتاج العالمي من الحبوب مقابل ارتفاع في الاستهلاك العالمي    يوفر مؤشرات التخطيط الاقتصادي: اعطاء إشارة انطلاق المرحلة التمهيدية لتعداد السكان والسكنى    يوسف العوادني الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس يتعرّض الى وعكة صحية إستوجبت تدخل جراحي    القيروان: الملتقي الجهوي السادس للابداع الطفولي في الكورال والموسيقى ببوحجلة (فيديو)    عاجل/ الرصد الجوي يحذر من حالة الطقس ليوم غد..    بعد "دخلة" جماهير الترجي…الهيئة العامة لاستاد القاهرة تفرض قرارات صارمة على مشجعي الأهلي و الزمالك في إياب نهائي رابطة الأبطال الإفريقية و كأس الكاف    الأهلي المصري يعامل الترجي بالمثل    هام: انخفاض أسعار هذه المنتوجات..    عاجل : ايران تعلن عن تعرض مروحية تقل رئيسها الى حادث    سفيرة الامارات في زيارة لصالون الفلاحة والصناعات الغذائية بصفاقس    لماذا كرمت جمعية معرض صفاقس الدولي المخلوفي رئيس "سي آس اي"؟    السيارات الإدارية : ارتفاع في المخالفات و هذه التفاصيل    اليوم : انقطاع التيار الكهربائي بهذه المناطق    نابل: اختتام شهر التراث بقرية القرشين تحت شعار "القرشين تاريخ وهوية" (صور+فيديو)    طقس اليوم ...امطار مع تساقط البرد    أخبار النادي الإفريقي .. البنزرتي «يثور» على اللاعبين واتّهامات للتحكيم    في عيده ال84.. صور عادل إمام تتصدر مواقع التواصل    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    بوكثير يؤكد ضرورة سن قوانين تهدف الى استغلال التراث الثقافي وتنظيم المتاحف    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    المنستير: القبض على 5 أشخاص اقتحموا متحف الحبيب بورقيبة بسقانص    تفكيك شبكة لترويج الأقراص المخدرة وحجز 900 قرص مخدر    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صون المقدسات لا يكون إلا بنشر الحرية وتحقيق التنمية الشاملة
نشر في الشروق يوم 08 - 10 - 2012

لم يكن صاحبي عبوسا ولا منشرح القسمات حين بدأ يحدثني في جد لامزيد عليه عن قطع متناثرة من ماضيه.قال :» ليس أضر على من ادعى بالشأن الفكري وصلا من ان يعاوده الاحساس انه دائما او في الغالب على حق 'اذ قد ينزع به ذلك الى نسيان الحكمة القاضية بان منتهى مع ما للانسان من فضيلة العلم ان ينذر للعلم على الدوام فقرا. ولعل ما يزيد هذا الوضع حرجا ان تعاودك اليوم هواجس الامس البعيد وكأن الزمن لم يتغير او كأنما هو استدار على نفسه في ما يشبه ضربا من العود الابدي. »

قلت :» قد يكون الامر كذلك. ولكن الاكيد أن أمورا لا تحصى كيفا وكما تغيرت منذ صبانا. ولعلي اشاطرك الرأي في بطوء التغير لا في حدوثه فالحركة البطيئة لاتدرك الا في الزمن الطويل كحركة الظل او تبدل مواقع النجوم. وكثيرا ما نخلط بين الزمن الذاتي والزمن الموضوعي 'بين مدة حياة الفرد وامتداد حياة المجتمع.وقد يكون ذلك البطوء وذلك الفرق من اسباب الاحساس بان شيئا لم يتغير. » قال:»لااميل الى النظريات العامة بل يكفي ان اقص عليك ما عشته شخصيا في طفولتي من مصاعب حتى تدرك في غير عناء ان أوضاعنا لم تتحسن كثيرا على مدى ما يقارب نصف قرن.»

قلت :» هات نستفد.. وان كنت اقدر سلفا ان ظهور تناقض بين النظرية والتجربة لايمكن ان يعزى اليا الى فساد في النظرية كما يدل على ذلك تاريخ الميكانيكا الموجية مع لويس دي بروقلي او الميكانيكا النسبية مع انشتاين. فالتوقعات النظرية كانت صحيحة ولكن التجارب التي وقع القيام بها كانت في اول الامر سيئة.»
قال صاحبي متحسرا :» نحن نطالب اليوم بالحداثة اي بالعلم والعقلانية والتنوير من ناحية والحرية والديمقراطية من ناحية اخرى باعتبارهما الركنين الوثيقين اللذين انبنت عليهما قيم العصر الحديث وباعتبارهما كما تزعم انت منذ ما لايقل عن ثلاثين سنة من شروط امكان تقدم الامم باكتساب القوة اللازمة لمغالبة اعداء الانسانية الثلاث الجهل والمرض والفقر».

قلت: «هو عندي كذلك فعلا ولا اخال الثورة التونسية ألا امعانا جديدا في مطلب الحداثة الذي جدت فيه الدولة الوطنية الناشئة وعلينا نحن اليوم المحافظة على المكاسب و مواصلة تعميق المسيرة حتى نجعل من الدولة الوطنية دولة وطنية ديمقراطية.»

قال صاحبي:» وهذا –تدقيقا – ما يحملني اليوم على الشك ويدفعني الى التساؤل عن سلامة تمشينا الوطني وعن حقيقة ما ندعي تحقيقه من التقدم لاسيما بمناسبة ما يسميه البعض «الدفاع عن المقدسات» او «حماية الرسول». فأنت تعلم اني تعرضت في صباي الى الطرد من التعليم مرتين بسب هذه القيم التي تذكرها ولا سيما الحرية والعلم دون ان اعرف عنها شيئا يذكر ودون أن أعي حقائقها.

كان اول تهديد لي بالطرد من المدرسة الابتدائية يوم عاقبني معلمي «سي صالح.. .» لاني لم احصل على المعدل في سؤال شفاهي عن درس يعلم اني تغيبت عنه بسبب المرض. مددت يدي لاول مرة في حياتي في ادب وضربني بغل أنساني اوجاعي. عدت الى مكاني وجمعت أدباشي وخرجت من القسم دون ان اعير الى صياح معلمي اهمية. ولم اعد الى المدرسة إلا بعد ان عوقب «المعلم – المدير « بنقلة مستعجلة لان جميع التلاميذ دخلوا –رغم سخط الاولياء - في اضراب تضامنا مع شخصي المتواضع.كان الاستاذ احمد اللغماني متفقد المدارس الابتدائية بولاية نابل باشر القضية بمجرد ان اعلمته بالأمر في رسالة مضمونة الوصول بما هو واقع في مدرستنا الريفية الجميلة. وقد اكد لي «سيدي احمد»الشاعر الوجداني، بعد سنوات طويلة –وقد التقينا صدفة- انه لم ينس ذلك الاضراب الذي كان- والعهدة عليه اطال الله بقاءه في الخير- الاول في تاريخ المدرسة التونسية عامة و مدرسة الجمهورية خاصة.

... أما التهديد الثاني فكان على يدي احد اعز اساتذتي بالمرحلة الاولى من التعليم الثانوي يوم اعربت في براءة الاطفال في القسم عن اني لا اطمئن الى كل ما يقول البخاري عن النبي ولا اقول بصحة كل ما جاء فيه .

اذكر اني قرأت في» الصحيح» اشياء كانت اخلاقي تأبى حتى التحدث فيها فضلا عن تصديق انها يمكن ان تصدرعن نبي او عن «الحميرة» ام المؤمنين.وكان يخيل الي انه كان علي – انتصارا لمثلي الاعلى ' خاتم الانبياء والمرسلين -ان احفظ صورته نقية في وجداني وان اضحي-عند الضرورة ‹ ببعض ما قد يكون تورط فيه البخاري أو غير البخاري -عن حسن نية او عن سوء اضمار «شعوبي»- من اقوال وأفعال نسبت الى الرسول الكريم مثل هذا الذي نسمعه اليوم من لغط وخلط في بعض انحاء الدنيا تسيء ولا ريب لنبينا العربي الكريم . ولعل ما نلمسه اليوم من ادعاء صون المقدسات كان يمكن ان يلغي حيرتي بإلغاء شخصي.

والحق ان ما شجعني يومها على ان اذهب هذا المذهب –دون أن ارى فيه مسا بالمقدسات بل حفظا لها -اني قرأت احمد امين بايعاز من مدرس التاريخ استاذي الكريم «سي»عز الدين الغربي. وخيل الي اني فهمت بعض الشيء من تاريخ الاسلام من «فجره «الى « ضحاه». ولا ريب اني كنت واهما. ولكن الذي ارقني يومئذ كثرة كذب المسلمين على نبيهم وانتحال الحديث خدمة لأغراض سياسية او عرقية ولسنا اليوم في مأمن من هذه المنازع الفاسدة بل ربما زادتها وسائل الاتصال الحديثة انتشارا . وكم حزنت لسوء اخلاق الكثير من» خلفاء» المسلمين ولاسيما اولئك الذين اهانوا العربي في عقر داره ارضاء لهراش الاتراك تارة أو لنهم الفرس تارة اخرى أو غير الاتراك والفرس من الاقوام الذين جعلوا الارض العربية مهادا لكل واطئ ومزقت الكيان العربي بعون عربي على غرار ما نلمسه في سيرة المعتصم او المتوكل أو غيرهما كثير خاصة اولئك الذين ولدوا من ارحام غير عربية هن في الاصل سبايا او اماء اصبحن «امهات أولاد» . ففي تراثنا التاريخي -على عظمته- من الدسائس او الحماقات الشخصية ما يخجل منه الكريم وما يمكن ان يستغله اعداء الامة او مجرد الباحث عن الشهرة الرخيصة السهلة لتشويه الانسان العربي والعقيدة الاسلامية..
كان الاثم عظيما على قدر جرم «الطعن في الصحيحين» وكاد يكلفني الطرد من المعهد رغم ما كان بيني وبين استاذي -رحمه الله-من الود والاحترام ورغم ما أكن لذكراه حتى اليوم من المحبة والإجلال.. .وأذكر جيدا انه كاد يبكي من هول ما سمع مني. وكاد الامر يؤول الى الاسوأ لاسيما وقد رفضت طلب الصفح لاني كنت واثقا وثوق الابرياء اني لم ارتكب اثما ' لولا ما ابداه الاستاذ محمد فرج الشاذلي -مدير المعهد انذاك ووزير التربية لاحقا - من الحكمة في تجاوز الحادثة بسلام.
الحادثة الاولى لازمة عن احساس غامض لم يكن يقدر عن التعبير عن ذاته بان لا شيء فوق الكرامة ولا شيء تحتها.وما كنت أعلم يومئذ ان « الكرامة « هي الاسم الآخر للحرية « ذاتها. ولعلي بدأت استبين اليوم ان التربية الحق انما هي تربية الارادة الحرة اذ تحمل النفس على ما لا تستطيب في تلقائية السجية دون ان تكرهها على ما لم تتهيأ له بعد وجدانيا وفكريا وبدنيا.

والحادثة الثانية جعلتني اكتشف يومئذ –في غير قدرة على فهم حقيقة ما اكتشفت- ان متطلبات العلم لا تتماهى ضرورة مع اداب احترام «الكبير» ولا مع طقوس البر بالأوائل حتى التوثين ' او مع واجب احترام العقائد الذاتية حتى التفريط في الواجب نحو الحقيقة الموضوعية. ففرق بين ان تربّى على الاحساس بالكرامة وبين ان تربّى على الخوف من العقاب. وفرق بين ان تحترم ثقافة قوم ودينهم وعقائدهم وبين ان تدرس الثقافات والأديان والعقائد بما يلزم به الدرس من المساءلة والشك والنقد والمقارنة والتحليل البنيوي والإلمام بمعارف العصر ومهاراته وبما يقتضيه من رصد للتحولات التاريخية 'واستكشاف المغارس الانطروبولوجية و فهم الابعاد النفسانية والاجتماعية والاقتصادية في تفاعلها مع « نحلة القوم الى المعاش». فهل تعلمنا نحن التمييز بين هذه الاشياء حتى نزبد ونرعد ونطالب بسن قوانين زجرية في موضوعات لا نفع للزجر فيها..

قلت :» وما علاقة ذلك بما يجد اليوم من احداث غضب لها الناس ودعاهم الغضب الى ما لا خير فيه ؟»
قال صاحبي : « شبه كبير بين ما ساءني كثيرا امس البعيد على مستوى شخصي وما اشاهده اليوم في مستوى وطني وربما عالمي.. لقد كانت ردود فعل ابناء بلدي سطحية محزنة تذكرني برد فعل الديك الرومي اذ كنا نريه قميصا احمر فيأخذ في الغليان والمطادرة وناخذ نحن لاهين في جري امامه وضحك منه. وكثيرا ما كان في الاثناء يخسر اكلته من الشعير والقطانيا مع بقية الدجاج.ووجه الشبه بيننا وبين الديك الرومي اننا ننساق بفعل مستحث خفي يتخذ من المقدس تكأة الى غوغائية يموت فيها ابناء الوطن ويجرحون وتتلف ممتلكات كثيرة ويعتدى على الضيوف ويضيع العمل وتسفل الاخلاق. فأي عدو-حتى ايام الكفاح الوطني ضد المستعمر المباشر - يستطيع ان يفعل بنا كل هذا دون ان يكلفه ادنى الخسارة ؟ اليس ذلك كله لان ضربا من ثقافة الحقد المتسترة بالمقدس قد نشرت بيننا وامتلأت بها صدور ابنائنا؟الم يقف اجنبي جاهل فاسد المزاج في احد مساجدنا التي بنيناها بعرق جبيننا ليقول لنا نحن معشر التونسيين بتشجيع سخي من تونسيين اخرين :موتوا بغيضكم ؟ ثقافة الحقد تعمي البصائر ولا يمكن ابدا توقع ضحيتها المقبلة وان كانت العادة تقضي في مثل هذه الاحوال بان» من جعل الضرغام صيدا لبازه //تصيده الضرغام في ما تصيدا».

ومما يغذي ثقافة الحقد هذه تجهيل يؤخذ مأخذ الذود عن الهوية العربية الاسلامية في حين ان الامر يدور على معنى موؤود هو حرية الفكر شرطا من شروط موضوعية الدرس ' من ذلك أننا لم نتصرف بعد مع تاريخنا ومع بعض ما في حضارتنا تصرفا يحتاج الى جرعات كبيرة من العقلانية والإحساس الحق بالكرامة بدل الغوص في تهريج لاخير فيه والتيه في منطق انفعالي ضرره أظهر من ان يخفى ؟ ألا ترى معي ان مشاكل صباي هي الى اليوم مشاكل امتي ؟هل هو العود الابدي ام ويلات سيزيف ؟

قلت :» لا هذا ولا ذاك وانما انت كبقية عباد الله خلقت «من عجل» يدفع بطبعه الى عم التمييز بين الزمن الفردي الذاتي والزمن الاجتماعي الموضوعي. فنصف قرن من عمر الانسان كثير ولكنه في تاريخ المجتمعات شيء يسير. ثم انت كبقية جميع التونسيين باستثناء ضحايا «تلفزات البيترودولار» لا يرضيك ابدا ما تحقق. انت تتشوف الى المستقبل وتراه دائما بعيدا' وتلك فضيلة سياسية وأخلاقية قد نشقى بها على مستوى ذاتي لان الشجرة تحجب عنا الغابة كما يقال.لقد انجزت دولة الاستقلال الكثير ولكن ما علينا انجازه اكثر واخطر.فأنت تونسي حتى النخاع سواء بما عانيت في صباك او بما يضيق من اجله صدرك اليوم. اليس تاريخ تونس منذ قرن ونصف القرن على الاقل نضالا مستميتا من اجل الحرية والعقلانية ؟ما ذا تسمي بادرة تحرير الرق في اواسط القرن التاسع عشر ؟ الم تعتبر وقتها ضربا من الاعتداء على ما أحل الله؟ . وماذا تسمي دستور عهد الامان الذي حاول واضعوه محو الرعية لتنشا المواطنة ربما في مجرى ما كان بشر ه سلطان الاستانة عبد المجيد بوضع ما سمي «تنظيمات « 3 نوفمبر 1839؟ و ما ذا تسمي مجلة الاحوال الشخصية لسنة 1956 التى لم تزل تلقى من الحقد ما تلقى لانها سوت بين المرأة والرجل وقالت بصريح العبارة والفعل الناجز ما كان يجب ان يقال منذ قرون «النساء شقائق الرجال» لهن مثل ماعليهم بمعروف ؟ وما هو دستور 1959 ان لم يكن اعلاء المواطنة بانشاء الجمهورية ؟'اليست كلها اجتهادات متلاحقة مظفرة نسبيا من اجل خلق المواطن الحر الكريم يسيرا يسيرا. وما ذا تسمي انشاء المدرسة الحربية بباردو في الاربعينات من القرن التاسع عشر والصادقية والخلدونية واصلاح التعليم الزيتوني ثم قانون انشاء مدرسة الجمهورية وتوحيد النظام التربوي سنة 1958؟ اليست كلها مراحل من اجل تنوير العقول ؟ وهل اجدى من الارادة الحرة والعقل المستنير لتحقيق التنمية والتقدم الشامل ؟وليس لتواضع نتائج المسيرة الوطنية في مواضع كثيرة اقبح نتائجها التهميش سواء بفعل تراكم العوائق تارة والإجرام الممنهج تارة اخرى.. ليس له ان ينسينا فضل من تقدمنا ولو كان بسيطا ولا ان يجعلنا نزهد في اختياراتنا الوطنية ولو ترددت احيانا. وهل للمقدس الديني والوطني والإنساني ان يحفظ في اوضاع لا يكون فيها الانسان انسانا؟

ردود فعل صباك ياصاحبي كانت صدى» الضمير الجمعي «في قرارة ضميرك الفردي كما يقول دوركايم ولا فضل لك فيها شخصيا.. كانت تحملك أكتافا جبارة دون شعور منك. الم تقل ان تلاميذ مدرستك ساندوك ؟اليس في تلك المساندة البريئة ما يشير الى روح مشتركة تشتاق في غير وعي الى الحرية والكرامة ؟اليست ثورة اليوم علامة على اخلاص لمثل وطنية متعالية لم نزل نحرص نحن معشر التونسيين –رغم مصاعب المسيرة›- على انجازها في واقعنا المعيش حتى ولو سقط الشهداء من اجلها مجددا ؟

قال صاحبي :يبدو ان الامر كذلك ويقيني انه ما لم نقبل على دراسة تاريخنا الوطني والعربي والاسلامي الدراسة العلمية الرصينة فستبقى علاقتنا به علاقة غير سليمة، ولن نستطيع التمييز بين العقيدة المقدسة تطمئن لها الافئدة والبحث العلمي حيرة تعاودنا كل يوم وتساؤلا يخلخل اليقين الموروث. فنحن نكل امرنا الفكري والقيمي الى موروثنا الحضاري تماما كما نرد خصائصنا الجسدية الى ارثنا البيولوجيفي اطار هوية محنطة.

ان احترام الثقافات والأديان من احترام أهل تلك الثقافات والأديان 'وهو ضرورة اجتماعية تمليها متطلبات عيش المعية وترتقي الى مرتبة الواجب الاخلاقي بحكم اتصالها بالإنسان من جهة ما هو كائن «قيمي» أو على الاقل الى مرتبة اداب المعاشرة التي ادنى درجاتها «أن ارضهم ما دمت في أرضهم.. .».

لذلك كان القول باحترام «الثقافات» دينا ولغة وعادات ومناقب انما يقال على جهة التورية المشيرة الى احترام الانسان من حيث هو انسان لأنه لا وجود لإنسان دون ثقافة. وقد كان كلود ليفي ستروس يقول :»ان الهمجي من اعتقد بوجود الهمجية» وهو يعني بذلك ما كانت غرقت فيه الانطروبولوجيا الناشئة من حماقات مزهوة بها كالتقابل بين «المتحضر « والبدائي» او «الهمجي» و»المثقف» و»غير المثقف» و»المتقدم «و»المتخلف»و»الذهنية المنطقية» و»الذهنية قبل المنطقية». وفي هذا السياق العام ينبغي تنزيل «اساءة المغمورين « لسيد الانام رسوا السلام. والحق اني لست ادري من أساء للرسول الكريم او من كان تدقيقا اكثر اساءة لصورته ؟ هل هاته الاقزام النكرات ام الذين حولوهم الى مشاهير عبر التشهيرالسياسوي حتى لكأن حقيقة قصة المس من المقدسات وتمثيلية «نصرة الرسول» لاتعدوا أن تكون بعضا من ارادة تجييش الشارع حفظا لزعامة «حامي الحمى والدين» حتى ينادى «واسلاماه.. وا معتصماه ؟

خذ لك على سبيل المثال ما فعل ذاك الذي كان وزيرا مبجلا مكرما عند خلفاء بني امية بدمشق والذي يسميه اخواننا العرب النصارى اختصارا يحي الدمشقي بدل اسمه الحقيقي منصور التغلبي(توفي سنة 749م) ؟. لقد تنازل عن الوزارة وترهب وقال في الاسلام ونبي الاسلام ما لم يقله مالك في الخمر وما لم يزد عليه الناعقون بعده شيئا.. فلم بقي مغمورا عند عامة المسلمين حتى اليوم ؟ ولم لم يلجا السلطان السياسي يومئذ الى استثارة الحمية الدينية ضده ؟ كان واجب العلماء الرد عليه لامحالة ولكن دون هرج ومرج كما كان يحسن ببعض هواة السينما عندنا ان يتكفلوا بالرد على من اساء لنا بمثل ماساء به الينا دون ان نحرج الاوروبيين او الامريكان ونحن نعلم ان لا سلطان لهم على احد من هؤلاء لان حرية التفكير والتعبير مطلقة عندهم.. . ومن بعض مساويها انه تنتج من حين الى اخر بعض النابتة تخز النفس وبعض الحسك يدمي البدن مثل صاحب الشريط المسيء لنا.. .

ولكن اليس في الاستعاضة عن رد الفعل الفني الملائم بالاستثارة الوجدانية حتى الهستيريا الجماعية ارادة سياسية من وسائل عملها الاساسية استغلال الانفعالات الجماعية لتجعل منها رصيدا انتخابيا ليوم الحاجة؟ اليس من متاع هؤلاء تغذية سوء التفاهم بين الحضارات والأديان ونشر ثقافة الحقد ليقتطعوا لأنفسهم في الوجدان الجمعي مكانة «صلاح الدين» في مواجهة «الصليبية الجديدة» ناسين ان «الحروب الصليبية» لم تكن حروبا دينية بل «حروب ملوك» كما يقول جيبون مؤرخ الامبراطورية الرومانية ؟ هل المقصود هو سيد المرسلين ام المقصود رهط هم عار على دين سيد المرسلين ليزدادو تخلفا على تخلفهم وهم يحسبون انهم يزدادون ايمانا على ايمانهم ؟

.ولذلك كانت الدعوة الى «حوار الثقافات» وحوار»الاديان» دعوة الى حوار بين الشعوب والأمم تماما مثلما ان القول بصدام الحضارت والثقافات والأديان دعوة ضمنية او صريحة الى ضرب من ضروب الفتنة بين الشعوب والأمم.. . ودعاة الصدام من ابناء امتنا ممن انتجهم «تليفزيون البترودولار»خاصة ومن ابناء الشعوب الاخرى الذين هم ضحايا الجهل بحقيقة حضارتنا او المأجورون في الاثم واحد.وبهذا التقدير يمكن القول ان خرافة الاساءة الى الرسول الكريم بعض من تقنيات التلهية عن معارك ثورة «الشغل والحرية والكرامة الوطنية» ولعلها من تدبير مشترك بين محتالي الداخل وذراري الخارج المأجورين.


ولأمر كهذا كان احترام الثقافات في عموم دلالتها يمنع المفاضلة بينها اذ لكل ثقافة منزلتها مثلما لكل فرد كرامته ولكل شعب أصالته وليس من احد سيدا بالذات على احد وليس من ثقافة هي بالذات المؤهلة دون سواها لكونية لاريب فيها فهل بلغنا نحن بعد هذه المرتبة ؟

.ثم كيف لنا ان نطالب الغير باحترامنا ونحن ندفع بأبنائنا الى سمك البحر ونكرهم على الوقوف صفوفا متراصة طويلة متثاقلة الخطى امام ابواب السفارات الاجنبية طمعا في الفوز بأسباب الهروب من الوطن؟ كيف نحض الاخر على احترامنا ونحن نقول برضاع الكبير ومفاخذة الرضيعة وخفض النساء ونسكت عن «جرائم الشرف» وندين المغتصبة ونعتبر ضرب المرا ة تكريما لها. .. ؟

ويترتب عن ذلك ضرورة ان الاعتداء على المقدس سواء من حيث هو عقيدة ذاتية امن بها الفرد أو من حيث هو تراث ثقافي جماعي يتسع معناه ليشمل كل اعتداء على الذات البشرية وفي مقدمتها نبي الأمة وقران الامة ورموز الامة.. . واحترام المقدس يشمل كل ما تعلق بالوطن كالعلم الوطني و النشيد الوطني و شعار الجمهورية و مدرسة الجمهورية.. ومعنى احترام المقدس يتسع ليشمل المواطنة حيثما كانت وكيفما كانت مثلها في ذلك مثل اخيها المواطن.. . انه يتسع ليشمل كل شبر من ارض الوطن..

ولئن كان الاعتداء على المقدس في خصوصيته الدينية اكثر حساسية فلأنه اقرب ما يكون من الاعتداء على الانسان، فردا وجماعة اي على الذات البشرية التي رفعت امرا ما الى مرتبة المقدس وليكن حجرا مثل «الحجر الاسود».فالمسلم يعلم انه حجر لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا' ولكنه –كما يؤثر عن الفاروق « رأى محمدا يقبله» فقبله اقتداء بإمامه الذي يصدر في مثل هذه الاشياء عن» وحي يوحى «. .. وهل من دين على وجه الارض لا يتقوم بمعتقدات مكينة في ضمائر اهلها وطقوس يقدسها القائلون بها وان لم تفهم او قل هي تصدق و تقدس– تحديدا- لأنها لاتفهم بالذات لا بالعرض ؟

كان تارتوليان وهو من قدماء التونسيين ومن عظماء مفكري المسيحية حتى اليوم على مذهب الفاروق قبل الفاروق فلم يكن يجد حرجا في ان يكتب متحديا العقلانية اليونانية المتعالية والوثنية الرومانية الاستعمارية «ان ابن الاله(وهو يعني السيد المسيح عليه السلام) قد مات وذاك امر حري بالتصديق لأنه غير معقول. ثم انه بعث بعد ان قبر ' وان ذلك عين اليقين لأنه المحال».. .
Et mortuus est Dei filius credibile est qui ineptum est ; et sepultus resurrexit ;certum est qui impossibile».

ويلزم عما سلف أن أي شكل من أشكال السخرية بأي دين كان انما هو ضرب من ضروب الحمق و»الحمق داء ماله دواء» 'وحتى ان وجد هذا الدواء فلن يكون التظاهر والتهريج السياسوي والتخريب والاعتداء على الامنين' مواطنين كانوا او ضيوفا 'مسلمين كانوا او معاهدين فارض الله كلها ارض سلام بمجرد الانخراط في منظومة الامم المتحدة باعتبارها-ولو على جهة مجرد القصد- منظومة معاهدة بين الدول والاممكما ذهب الى ذلك المرحوم صبحي الصالح على ما اذكر.
قلت :» لنعد الى البعد المعرفي في هذه المسائل باعتبار ان التهريج باسم صون المقدسات شمل انشطة كثيرة داخل الوطن وخارجه وحتى داخل «المجلس التاسيسي» الذي لم يؤسس شيئا يذكر حتى الان.. . نعم نحن على حق حين نغضب لديننا ولثقافتنا. ونحن على حق حين نطالب باحترام عقائدنا وشعائرنا ورموز حضارتنا.غير أن الحق –حتى حين يكون بينا بذاته- لابد له من وسائل ملائمة ليأخذ مجراه في حياة الناس. و لا ريب ان الحق لا ينصر إلا بالحق وما خلا ذلك فجريمة في حقه.ولا بد من مساءلة انفسنا –ولو مرة واحدة في حياتنا -لم اتخذنا البعض هزءا حتى «جرنا من خفة بنا النمل»؟ وهل يتعلق الامر بظاهرة مستحدثة او بإرث قديم اثم المسلم فيه لا يقل فداحة عن اثم الخصوم؟

الم يدك الحجاج ابن يوسف الثقفي عامل الامويين الكعبة بالمنجنيق؟ الم يبن عبد الملك ابن مروان قبة الصخرة ببت المقدس ليغري الناس بالحج اليها بدلا عن مكة حتى لا تتاح لهم فرصة اللقاء بخصمه عبد الله ابن الزبير ابن «ذات النطاقين»؟ الم يهجم يزيد ابن معاوية على اهل مدينة رسول الله بعد ان هزمهم في واقعة الحرة المشئومة؟الم يبح لجيشه» المنتصر»–كما يفعل الغزاة الهمجيون- استباحة اعراض نساء المدينة حتى ان المؤرخين تحدثوا عن افتضاض بكارة الف فتاة من القانتات العابدات وقتل 4500 مسلم في ثلاثة ايام ؟ الم يمزق الوليد المصحف على مرأى ومسمع من الناس ؟الم يكلف جاريته المفضلة بإمامة صلاة الصبح وهي جنب سكرى بدلا عنه لشدة ما لحقه من ارهاق السهر الماجن حتى مطلع الفجر ؟ الم تسفك الدماء في الحرم المكي سنة 1989 بعد قيام «الثورة الايرانة» فظهر «المهدي المنتظر» بقدرة قادر و « جاء يملا الدنيا عدلا» بدءا بسفك دماء ضيوف الرحمان في بيت الرحمان ؟ وغير ذلك كله من الاثام في حق مقدساتنا ما لا يضبط. فهل تضرر الاسلام من ذلك كله ؟اليس ما يحدث اليوم في سوريا وما حدث امس في العراق والسودان واليمن اخطر بكثير على مقدساتنا وأرواحنا من لعب الذراري في بعض الازقة المغمورة في بعض المدن الاوروبية او الامريكية.. .

لذلك كان علينا بدء ذي بدا ان نحترم انفسنا حتى يحترمنا الغير وان نعلي من شان ثقافتنا حتى يوقرها الغير.وهل اضر بثقافة شعب ان تنوب اللكمة عن الكلمة ؟ وان نصفي المسائل الفكرية الغامضة بالسواعد المتوحشة الغادرة ؟ألم يحن الاوان بعد الاوان لنفهم ان قصة المقدس ضحاياها كثير عندنا كما عند غيرنا من امم الدنيا ولا سيما في الملة الابراهيمية ؟وكيف سبيلنا الى احترام غيرنا لنا وبيننا من ينصر الحق بالباطل ويسعى الى حل.

الخلافات الفكرية بالأذرع المفتولة والحرق والاعتداء على الخلق ؟وهل عوج اخطر من ان نريد حل الخلافات الفكرية والاختيارات اللاهوتية عبر المحاكم ؟من يضمن ان رئيس المحكمة -كان شانه ما كان - اكثر علما من اي كان بطبيعة الملائكة 'او اقدر من اي كان على الحسم في مسالة ذكورتها او انوثتها ؟ وإذا كان الامر كذلك في شان الملائكة فكيف يكون في شان الالوهية؟ الم يمتنع ابن تيمية شيخ الحنابلة ومرجع الوهابية عن الوقوف امام القاضي في شكوى رفعت ضده بسبب نقده المذهب الاشعري في كتابه الموسوم «بالعقيدة الحموية «تقديرا منه ان القضاء لادخل له في مثل هذه المسائل النظرية والعقدية بل شانه الفصل في «الدعاوي» وحدها ؟فكبف يطالب اليوم وهابيو «اخر زمن» القضاء التونسي بالفصل في ما لم يكن امامهم يرضاه؟ أأظلم الناس ام امتد الظلام؟ الم يكن امامهم ضحية منطق محاكمة الفكر ؟ وقد كان ذلك يوم وضع الدوداري كتابا في نقد الحنابلة واتهم ابن تيمية بالمس من «الذات الالهية» بتجسيمها بالقول والحركة. فمما حكي ابن بطوطة(الرحلة ج 1 'طبعة دار الشرق العربي د.ن ص72) ان ابن تيمة كان يعظ الناس بجامع دمشق ويقول ان «الله ينزل الى السماء الدنيا كنزولي هذا ونزل درجة من درج المنبر» تماما كما تصرفت البنية في فيلم «مدينة فارس» فانكر عليه مالكي مذهبه» وتجسيمه للفعل الالهي. فقام اليه العوام حالا و»عزروه» أي ضربوه بالايادي والنعال ضربا كثيرا.. .وتظلمت الشافعية والمالكية الى صاحب الامر فحكم بان انهى الشيخ حياته سجينا.. . من أجل «تجسيم الذات الالهية «.والحق انه ابعد ما يكون من ذلك وارص ما يكون عن القول بالتعالي الالهي

اليس من العبث تكليف السواعد الباطشة بما لاتستطيع ؟يمكن ان يقتك الجاني بمن استطاع عليه عدوانا ويسفك دم من شاء كما» تعدو الذئاب على من لاكلاب له» ' ولكنه لن يمحو فكرة من الاذهان وستبقى جثة الشهيد شاهدة على فشل العدوان. اليس من العبث نقل خصومات فكرية قديمة قدم الانسانية الى محاكم ليس لها عليها نظر وليس لها من التشريعات ما يهيئها للفصل فيها؟اليس في ذلك ما يوشى بإرادة الزج في مؤسسات القضاء في متاهات تفقدها مصداقيتها بمجرد قبول النظر فيها؟ من سنحاكم ؟تاريخ البشرية كله؟ او في الادني تاريخ الملة الابراهيمية في صيغها التاريخية الثلاثة :البهودية والمسيحية والاسلام؟ فمتى خلت اليهودية او المسيحية او الاسلام من «التجسيم « او قل «التشبيهية»باعتبارها مقالة تعبر عن تلقائية الفكر البشري حين يجاهد في
بلوغ تصور الاله ذاك الاخر المطلق وان كان اقرب الينا من حبل الوريد؟
وهل لأي كان من مخلوقات الله ان يتصور الاله الا على شاكلته ؟

ليس في ذلك مايمكن يقينا ان يعتبر مسا بالحقيقة الربانية.اليس يروى عن النبي العربي» ان الله خلق الانسان على صورته»؟الم يخصص لهذه المسالة الشيخ محي الدين ابن عربي في الفتوحات المكية والجويلقى في الانسان الكامل مافيه شفاء السائل؟ يكفي ان نقرا الشهرستاني. لنقف على غربة دعاة العدوان عن الامنين عن ثقافة الامة.. . وخروجهم عن حدود الحق.. نقرا الشهرستاني لنجد ان من المسلمين من قالوا «»ان معبودهم على صورة ذات اعضاء وابعاض//اي اجزاء//اما روحانية واما جسمانية ويجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن//اي الحلول في مكان//»»
هؤلاء المسلمون يسمون «المشبهة «».ويقول فيهم الاشعري انهم «»اجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة وان المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة.. . »//انظر الشهرستاني. المصدر المذكور.. فصل المشبهة//وهل يمكن ان يوجد في فلم «مدينة فارس « مثلا اكثر من ذلك؟ لنقرا الشهرستاني مرة اخرى وهو يورد اراء بعض علماء الاسلام من المشبهة فيقول :»ان معبوده جسم ولحم ودم وله و جوارح وأعضاء من يد ورجل وراس ولسان وعينين واذنين ومع ذلك جسم لا كالاجسام ولحم لا كاللحوم ودم لا كالدماء.. . هو اجوف من اعلاه الى صدره.. وان له وفرة سوداء وله شعر قطط.. »الست ترى في هذا التوصيف الاسلامي فلم //مدينة فارس//؟بل ان من المسلمين من ذهب- على مايروي الشهرستاني- الى ان نسب الى الرسول العربي انه قال :»لقيني ربي فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد انامله»//المصدر نفسه//..

ويطول الحديث في ذلك.. بما لانفع فيه اذ يدور الامر على اوليات اللاهوت اليهودي والاسلامي والمسيحي واوليا ت العلوم الانطروبولوجية والعلوم التربوية وعلم نفس الطفل الخ..

وليس لاي كان ان يدعي ان المشبهة على ضلال لان نقدها نقدا جذريا يفضي الى التعطيل والمعطلة ليست اقل عجزا فكريا ولا ابعد من تهمة «الكفر» من المشبهة ولنا في اثار ابز حزم الاندلسي صاحب الفصل ما ينير السبيل
ومها يكن من امر فان تجسيم الالوهية ليس حدثا طارئا في تاريخ الفكر الانساني عامة ولا في تاريخ الفكر الاسلامي خاصة.. .ويكفي ان تدفع بالمذهب الظاهري الى بعض حدوده القصوى لتقع على تشبيهية سنية هي اقرب ما تكون الى الذهنية. .. الصبيانية واقرب ما تكون الى عقلية الذراري في مراحل تكونهم الفكري كما بينها عالم النفس الشهير بيجيه.. .

ان القول بالتعالي الالهي لايسلس لطالبه الا بقدرة على التجريد العقلي وهي قدرة لاتتوفر للانسان الا في مراحل متقدمة من الدربة على استخدام العقل. فالطفل لايفهم معنى العدد 5 الا مقرونا بخمسة اعواد او كجات يباشر هو بنفسه المرار العديدة ترتيبها خطيا.. . اي ان الفكرة لاتستقيم عنده الا متجسمة. وفي مرحلة لاحقة يستغني عن الحامل المادي ولكن فكرة العدد تبقى مشدودة الى عدد مخصوص ولو كان كبيرا جدا وكأن العدد المخصوص حل محل الحامل المادي //الاعواد الملونة او الكجات // وفي مرحلة ثالثة يستعيض عن الحامل المادي والعدد المخصوص برمز مجرد صرف يعبر به عن فكرة العدد باطلاق وليكن ذلك الرمز الحرف س او. . الحرف ص الخ.. . وكذلك الشأن في الهندسة فالصبي لايحسن تصور الدائرة الا اذا صورها اي جسمها. ولا بد من «عقل درب على الصواب «»ليستغني عن الحامل الحسي //الصورة //ليستعيض عنها بالمعادلة الجبرية الملائمة كما يجلري عليه الامر في الهندسة الديكارتية..

ومن ايات نضج الفكر الانساني القول بالتعالي الرباني على معنى ان «ليس كمثله شيء»» وعلى معنى انه جماع القيم اي الحق المطلق والخير المطلق والجمال المطلق.. .واذا كان الامر كذلك هل ينال رضى الله من اعتدى على الانسان وهو يحسب ان رحمة ربي اصطفته دون خلق الله فغاصت عليه غوصا؟'واي سواعد يمكن ان تحمل الانسان على تعقل الالوهية حقا مطلقا وخيرا مطلقا وجمالا مطلقا ؟ واي محكمة سيكون لها فصل المقال في مابين التنوير والتظليم من الانفصال؟ ومن هؤلاء الذين يتصرفون وكأنما الله اسجد الكلام لكلامهم؟ وكيف نفسر سكوت بعض الايمة الخطباء عن مثل هذه الاشياء التي بعرفونها ؟كيف نفسر هدير بعض الايمة الاخرين بغير الحق التاريخي والمعرفي ؟ وكيف نفهم سكوت الاحزاب السياسية الدينية عما هو «معلوم من الشأن الديني بالضرورة»؟ اليس عقاب من علم علما وكتمه»لجام من نار» يوم القيامة علية في هذه سوء المنقلب؟ نعم قد تكون للباطل جولة.. ولكن انتصار الحرية والعقلانية غدا لاريب فيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.