لست وحدي من يتطيّر من العسكر عندما يصبح الاستيلاء على السلطة هدفهم الأول، ولا أعني هنا أولئك العسكريين الذين لا هدف لهم إلا الدفاع عن كرامة الوطن وحماية حدوده من أي اعتداء أجنبي. كان لنا نشيد في المدرسة الابتدائية نردّده إكراما لهؤلاء الذين تجنّدوا في المهنة الأصعب والأكثر تعبا وشقاء «العسكرية» بدءا من المجند البسيط الذي يقاد رغما عنه لأن سحبة مواليده حلّت وهو لا يشغل موقعا وظيفيا ولا في الدراسة، وكان هناك نوعان من التجنيد «الإجباري» وهو المفروض عليه ثم «الاختياري» أي التطوع بناء على رغبة شخصية، ومازلت أتذكر مطلع هذا النشيد: «الجيش سور للوطن يحميه أيام المحن»
كان يوم تأسيس الجيش العراقي في 6 جانفي (كانون الثاني) عيدا وطنيا، تكرّس له الصحف التحقيقات ومقالات الرأي وتنشر صور قادته ومؤسسيه إذ أن هذا الجيش أسس في سنة تأسيس المملكة العراقية عام 1921.
هذا الجيش الذي لم يتوان عن أداء المهمات الوطنية والقومية من حرب فلسطين 1948 الى حرب تشرين (أكتوبر)1973 حيث كان الطيارون العراقيون يشاركون اخوتهم الطيارين المصريين في ضرب العدو الصهيوني بالجبهة المصرية في حين كانت الدبابات والمدرعات العراقية قد دخلت سوريا لتقاتل الى جانب جيشها للدفاع عن أرض الشام العربية حيث قامت امبراطورية عربية اسلامية هي الدولة الأموية.
ويوم قام الجيش العراقي بثورته المستندة لإرادة الشعب في 14 تموز (جويلية) 1958 كان عدد المؤيدين لهذه الثورة قرابة الثمانين بالمائة من الشعب. وكان سبب التأييد ثقة منهم بالجيش، لكن المشكلة كانت أن بعض الضباط الكبار طاب لهم ما هم فيه إذ أن مفاصل السياسة والاقتصاد بل والاعلام صارت بيد «العسكر»، ما أكثر الوزراء من العسكر، ما أكثر السفراء وما أكثر المحافظين (الولاة) والمدراء الذين جاءتهم مناصبهم هبات.
كان العسكري الكبير إذا ما زَعل أو زُعل منه يحول الى سفير أو محافظ!
وذات يوم بعد وفاة المرحوم عبد السلام عارف رئيس الجمهورية في حادث طائرة الهليوكوبتر حصل صراع حاد بين العسكر والمدنيين وضيّع العراقيون فرصة أن يكون لهم رئيس جمهورية هو أستاذ في القانون وأعني به المرحوم د. عبد الرحمان البزاز أحد أهم رجال القانون في العراق وكان الرجل وقتذاك رئيسا للوزراء ولكن مساحة تحرّكه ليست مفتوحة ليرسي في العراق قواعد الدولة الديمقراطية التي كان يعمل من أجل أن تتحقّق فالعراقيون جديرون بالديمقراطية.
لكن د. البزاز لم يصبح رئيسا للجمهورية بل عبد الرحمان عارف شقيق عبد السلام وهو ضابط محترم ظلّ في موقعه العسكري حتى بعد إقالة أخيه عبد السلام للخلاف الحاد بينه وبين عبد الكريم قاسم قائد ثورة 1958 إذ كان عبد السلام الرجل الثاني في هذه الثورة، وهو من أذاع بصوته بيانها الأول من راديو بغداد حصل هذا رغم أن البزاز كان الحاصل على أغلبية الأصوات ولكنه خضع لتهديد كبار العسكريين في الدولة من أجل أن يسحب ترشيحه وهذا ما فعله لصالح الرئيس العسكري إذ رجل القانون لا يمكنه أن يجابه الدبابة.
وظلّ حضور العسكر في الحياة السياسية العراقية ممتدا حتى بعد إسقاط نظام عد الرحمان عارف عام 1968 حيث أصبح أحمد حسن البكر رئيسا للجمهورية وهو عسكري أيضا.
كما أن عملية إسقاط نظام عبد الرحمان عارف ما كان لها أن تتمّ لو لم يتدخل العسكر فحمادي شهاب آمر الفوج الذي كان يحمي مبنى الاذاعة والتلفزة جرى كسبه والاتفاق معه على فتح أبواب الاذاعة ليذاع البيان الأول وذكر أن هذا مقابل أن يصبح وزيرا للدفاع وهذا ما تمّ فعلا، كما اتفق مع آمر الحرس الجمهوري سعدون غيدان يفتح هو الآخر أبواب القصر الجمهوري من أجل السيطرة عليه واعتقال رئيس الجمهورية عبد الرحمان عارف والمقابل حصوله على وزارة الداخلية وهذا ما كان فعلا. كانت هناك مقايضات، لكن هناك أمرا هاما هو أن المدنيين من المنتمين الى الحزب الذي سيمسك بالسلطة ارتدوا بدلات عسكرية ومنحوا رتبا عالية حتى يصبح تحرّكهم سهلا.
من المؤكد أن سيطرة العسكر على الدولة قد خفّت إن لم أقل انعدمت وبقي منصب وزير الدفاع لا يمنح إلا لعسكري، وذلك لأن الحزب الذي حكم حتى احتلال العراق كان حزبا مدنيا.
لكن رئيس الجمهورية وهو مدني قد أصبح يحمل أعلى رتبة عسكرية، وصار يرتدي هذه البدلة طوال سنوات الحرب مع إيران كما فرض على القيادة الحزبية والوزراء وكبار الموظفين ارتداء الملابس «الخاكيّة» فكانت هيآتهم تحمل مفارقات طريفة وتلك مسألة أخرى.
أي أن من لم يكن عسكريا تمّ تحويله ولو باللباس الى عسكري وربما كان هذا اخر ما فكّر فيه!
والحالة في مصر ليست بعيدة عن العراق فهي شبيهة بها تماما وربما كانت «العسكرة» أكثر رسوخا في النظام السياسي المصري حتى أن مبارك عندما «خلع» من حكم مصر ترك سلطاته للمجلس العسكري وليس الى جهة قضائية.
والعسكر اليوم حتى بعد انتخاب رئيس مدني مازالوا يمسكون بالسلطة التشريعية بعد حل مجلس النواب. وقد سمعنا تصريحات رئيس الوزراء الذي اختاره د. محمد مرسي يمتثل فيها لإدارة العسكر بأن اختيار وزير الدفاع سيكون للمجلس العسكري، وهذا يعني بشكل أو آخر عودا على بدء. ليت عساكر العرب تنجب أكثر من عبد الرحمان سوار الذهب!