شكل خطاب الرئيس الفلسطيني يوم أمس في الأممالمتحدة محاكمة للمنتظم الأممي وللكيان الصهيوني وللضمير الإنساني في نفس الوقت. فقد عمدت الأممالمتحدة عام 1948 إلى زرع إسرائيل على أرض فلسطين وأعطتها شهادة الميلاد بقرارها 181. ومنذ ذلك التاريخ ظلت إسرائيل تتوسع لتعمق مأساة الشعب الفلسطيني وتخضع شطره إلى احتلال بغيض وتشتت شطره الآخر في المنافي.. كما اكتفى المنتظم الأممي بدور شاهد الزور الذي يصدر قراراته على استحياء ثم لا يلبث أن يركنها في رفوفه لتبقى مجرد حبر على ورق. ولم تفلح كل الجهود وكل المبادرات وكل المفاوضات وكل التنازلات في دفع إسرائيل وحليفها الاستراتيجي الولاياتالمتحدة إلى الانصياع لمنطق السلام ومنطق الحق ولمقتضيات الشرعية الدولية. وحتى اتفاق أوسلو الذي قضم ما قضم من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني والذي قبلته السلطة الفلسطينية في سياق سعيها إلى السلام، فقد عادت دبابات شارون لتدمره بالكامل ولتحول عمليات التفاوض إلى مسألة عبثية الغاية منها توفير الوقت والغطاء للاحتلال ليواصل فرض الأمر الواقع بغطرسة القوة وسياسة الميز العنصري ورسم ملامح حل على مقاس الأطماع الصهيونية.، وبعد 18 سنة من توقيع الاتفاق يجد الشعب الفلسطيني نفسه محشورا ومحاصرا داخل محميات بشرية (في شيء يشبه قطعة جبن فرنسية) تنهشها المستوطنات الصهيونية والطرق الالتفافية ليتحول حلم وحق الدولة إلى مجرّد سراب ووهم.. فهل كان يجب على القيادة الفلسطينية أن تواصل اللهث وراء هذا السراب وتواصل الركض وراء هذا الوهم؟ بالطبع لا.. وهو التحدي الكبير والخطير الذي دخلته السلطة الفلسطينية منذ شهور رغم الضغوط الأمريكية والتهديدات الاسرائيلية والمخاتلات الأوروبية والعجز العربي.. تحدّ عرف الرئيس الفلسطيني محمود عباس كيف يدير حلقاته ويصلب عناوينه ويحمله إلى أعلى منبر الأممالمتحدة في خطاب هز الضمير الانساني والأممي هزّا.. وشكل محاكمة قاسية للاحتلال الصهيوني وممارساته القمعية واستهتاره بقرارات الشرعية الدولية، كما شكل تعرية لهذا الاحتلال البغيض وللانحياز الأمريكي الأعمى ولتخاذل المجتمع الدولي عن تمكين هذا الشعب الصابر والمناضل من حقه المشروع في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. أجل الشعب الفلسطيني ليس شعبا زائدا على النصاب.. والاحتلال الصهيوني ليس فوق المساءلة وفوق القانون الدولي.. والانحياز الأمريكي والنفاق الأوروبي ليس قدرا على الشعب الفلسطيني الخضوع إليه إلى الأبد.. كفى.. كفى.. كفى.. كلمة كررها الرئيس الفلسطيني ثلاث مرات علها تسمع من بهم صمم في هذا المجتمع الدولي الذي أدخل ضميره في صيغة الضمير المستتر تحت وطأة وغطرسة الصهاينة وازدواجية مكاييل الولاياتالمتحدة.