الرئيس الأمريكي جورج بوش قال منذ يومين ان واشنطن مستعدة لسحب قواتها من العراق إذا طلبت القيادة العراقية الجديدة التي ستفرزها انتخابات يوم الأحد المقبل ذلك. «كونداليزا رايس» وقبيل وقوفها أمام الكونغرس، قالت ان هناك أخطاء في سياسة أمريكا في العراق. أما دونالد رامسفيلد فقد آثر من جهته عدم الافصاح ولا التصريح بما قد يُسأل عنه من قبل العراقيين الذين يرفضون الاحتلال الأمريكي أو من قبل أية جهة تنكر على أمريكا احتلالها للعراق. هذا هو المشهد السياسي الأمريكي في تعاطيه مع الملف العراقي بعد أكثر من سنة ونصف من الاحتلال. لكن بالرجوع الى الوراء قليلا، نجد أن واشنطن تظاهرت أمام العالم، قبل غزوها العراق، بأنها تسعى الى تكوين تحالف دولي «حبّذا» لو ضمّ فرنساوألمانيا، ضدّ العراق، لكن الحقيقة، ولما ندقّق في تلك السياسة التي توختها واشنطن تجاه ملف العراق من حيث حجم التحالف ضد هذا البلد الصغير، نجد النتيجة عكس كل القراءات التي تتبادر الى الذهن: واشنطن لم تكن تسعى الى تكوين تحالف ضد العراق، أو على الأقل كانت ترفض أن يقاسمها طرف طموح مثل ألمانيا أو فرنسا في كعكة العراق. باختصار نقول ان الولاياتالمتحدة عملت على غزو العراق بمفردها حتى تكون الغنيمة من نصيبها وحدها. لكن لماذا هذه الخطة، وإلى أي استراتيجيا ترنو واشنطن من وراء ذلك؟ ثمّ ما الذي يدفع بالولاياتالمتحدةالأمريكية إلى التظاهر بأنها تريد أن تكون القوات العسكرية التي ستحارب العراق في 20 مارس 2003، متعددة الجنسيات في حين أنها تعمل في الباطن، على أساس أن تدخل العراق بمفردها؟ كثيرة هي التحاليل التي تقول ان الولاياتالمتحدة الآن في أزمة، أو أنها في مستنقع اسمه العراق، لكن أصحاب هذه الرؤية لا تدفعهم بعض الحقائق الماثلة، من قبيل أن واشنطن تخسر ما كانت قد تدرأ عنه الخسارة، وهي تصل الى نفس الهدف: أي السيطرة والهيمنة على ممرات وقدرات ومقدّرات العراق، لا تدفعهم إذن الى التعمّق في التساؤل والسؤال: ما سرّ تمسّك واشنطن بالتفرّد بالعراق، إذا كان هذا التفرّد سيعيد عليها سيناريو فيتنام أو إذا كان هذا التفرّد سيجعلها محلّ نقد وانتقاد ان من دول قوية نسبيا وتتشارك معها في منظومة الدول الأكثر تصنيعا وتقدما (G8) أو من منظمات المجتمع المدني العالمية، والتي نرصد عبر تاريخها «السّبعيني» و»الثمانيني» (هذه المنظمات نشطت بشدة فترات السبعينات والثمانينات) انها كانت مدعومة بصراحة وربما في بعض الأحيان «بوقاحة» من الولاياتالمتحدةالأمريكية؟ عندما نعود الى مداولات مجلس الأمن الدولي التي سبقت غزو العراق، وإلى موعد الانتخابات الألمانية التي سبقت الغزو وأسفرت عن فوز ثنائي لا يدين بالولاء الى واشنطن وهما المستشار «شرويدر» الاشتراكي ووزير الخارجية «فيشر» عن حزب الخضر، نجد أن لا مجلس الأمن ومداولاته السّاخنة والرافضة من باريس ومن برلين، لسياسة واشنطن غير المسندة على حق تجاه العراق، ولا نتائج الانتخابات الألمانية وقبلها الفرنسية التي دعّمت وصعّدت الديغوليين، قد أثرت في سياسة واشنطن، أو على الأقل في لهجة بوش الذي انزوى في خطابه الى ثقافة لاهوتية ماورائية ملفتة، وكذلك لم تؤثر تلك المداولات القانونية والسياسية وتلك الافرازات التي حدثت في سياسة ألمانياوفرنسا، في خطاب «رامسفيلد» الذي اكتفى على اعتماده اللسان «المقذع» في حق حليفين قديمين ومتجدّدين هما فرنساوألمانيا عندما نعتهما بلهجة انكارية بأنهما يمثلان أوروبا القديمة. إذن من خلال الربط بما مضى من التصرفات السياسية والتصريحات التي فيها «وخز» لهذه الجهة أو لتلك، نجد أن واشنطن، أرادت أن تطبق سياسة «تبشيرية» خرج بها على عالم البحوث والمعرفة وعلم السياسة، قادة الفكر في الولاياتالمتحدةالأمريكية، من قبيل «صمويل هنتغتون» في كتابه «صدام الحضارات» و»فوكوياما» في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، فيما عمل على تطبيقها ساسة أمريكيون ممّن ينعتون الآن بصقور البيت الأبيض من أمثال «بيرل» و»تشيني» و»وولفويتز» وغيرهم، هؤلاء هم الذين يظهرون خلال هذه الفترة الثانية من ولاية بوش وخلال الفترة الرئاسية المنصرمة، وكأنهم حُماة أو حاملي القرن الأمريكي، معتبرين، إن هم تعرّضوا الى انتقادات، بأن لا غنيمة ولا انتصارات أمريكية بلا أشواك وبلا جراح. هؤلاء، يسوّقون فكرة فيها الكثير من المواربة، تلك التي تقول إن ما يحدث لأمريكا في العراق من قتلى وجرحى بالآلاف، إنما ينذر بغد أمريكي أفضل، تكون فيه واشنطن «سيدة» العالم بشكل حقيقي، وهم كذلك يزعمون أن لا مقارنة بين فيتنام التي خسرت فيها أمريكا قواتها بالآلاف وبين ما يحصل في العراق، لأن المناخ الدولي مختلف. فكلّ خسارة في عهد الثنائية القطبية فترة حرب فيتنام في السبعينات، في عداد القوات الأمريكية هي انتصار للمعسكر الاشتراكي، فيما تعدّ الخسائر الأمريكية الآن والعالم يعيش ا لقرن الأمريكي، تراكما لحساب القوة والنفوذ الأمريكيان، وبالتالي، فإن هؤلاء الصقور يروجون الى عدم استعمال وحدة القياس للتشبيه بين صنفين من الحروب، يرى هؤلاء أنهما مختلفان: فيتنام والعراق! الرئيس الأمريكي جورج بوش، وخلال أدائه اليمين لولاية ثانية يوم 20 جانفي الحالي، أبدى ضعفا غير عادي في خطابه السياسي، فهو لم يسْع الى اعتماد أسلوب البرهنة ولا الحجة في خطابه، بل ركّز كثيرا على شعارات مثل الحرية والديمقراطية.. وهما مفهومان يخضعان الآن الى التمحيص في مشهد اسمه العراق المحتل.. الولايات المتحد ة الأمريكية التي اتبعت ولا تزال خطا أحادي القرار وأحادي المنهج، لم تستهله مع العراق سنة 2003، بل إن حرب يوغسلافيا كما انهيار «حلف فرصوفيا» وانضمام جلّ أعضائه الى حلف شمال الأطلسي اضافة الى الحرب على العراق وقبلها أفغانستان، بدت كلها تمارين للسياسة الأمريكية المرتكزة على الغزو العسكري المباشر وعلى الهيمنة الاقتصادية والسياسية.. وهذه مظاهر نلمس آثارها تتراوح بين منظمة التجارة الدولية واستحقاقاتها وأحكامها تجاه الدول، وبين منظمة الأممالمتحدة، التي لم نر الدنيا قامت ولم تقعد، عندما خرقت واشنطن البلد المؤسس والحاضن لهذه المنظمة، ميثاق الأممالمتحدة في الحرب على العراق وفي عملية الغزو التي ستتواصل لخمسين سنة على الأقل، والتي يرى بعض الخبراء أنها ستترجم فوضى وعدم استقرار وربما احتقان في العراق، وأنها سوف تترجم على الساحة الدولية عبر تفوق كلي أمريكي ممزوج بسياسة «دكتاتورية» على مستوى العلاقات بين الدول.. ولنفس الفترة على ا لأقل.. لهذا كلّه، تظهر واشنطن وقد انطلت حيلتها في العراق غزوا وحربا وتدميرا وخلع نظام حكم، على كل الأطراف، سواء منها السياسية أو الأكاديمية بحيث لا ترى اليوم، إلا نادرا، مدرجا من مدارج كليات القانون في العالم، من تلك التي يعتمد فيها تدريس المادة على تشخيص شرعي وحقيقي لحقيقة ماحدث في العراق. إذ قليلا ما ترى أساتذة جامعيين مختصين، يتحدثون بمنطق ورؤية «آلان بيلي» أستاذ القانون الدولي بباريس. ففي القانون ركن مهم اسمه «العرف» وهو أحد مصادر التشريع، وفي علم السياسة هناك «ركن» أيضا مهم اسمه التقادم لذلك نجد أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تغز العراق عسكريا فحسب، بل انها وبالتوازي غزت العقل العالمي والفكر الانساني، عبر مفاهيم ما كانت لتمرّ زمن التنافس الفكري والتطارح بين النظريات: أي زمن الثنائية القطبية. الولاياتالمتحدةالأمريكية جانبت الحقيقة والمقصد الذي خططته للعالم من خلال العراق، حين كانت تتظاهر من خلال «باول» العسكري أنها تريد حلفاء لها في العراق يتحمّلون معها وزر المعارك ووزر الغزو، لكن الحقائق على الميدان تنبئ بغير ذلك. لقد خططت أمريكا منذ البداية، لكي تدخل القرن الأمريكي وتؤسس له من بوابة العراق وبمفردها أي بلا شركاء، والدليل على ذلك أنها جعلت من القوة العسكرية البريطانية، قوة اسناد وحاشية من حواشيها، ولم نر القوة العسكرية الانقليزية في شراكة أو على نفس خطى الهجوم والتخطيط العسكري في العراق. كان يمكن، حسب عديد الملاحظين، أن يتشكل تحالف دولي عسكري ضدّ العراق، وبقرار أمريكي. إذ لا يمكن أن نظنّ لحظة أن المعارضة الغربية على الأقل لواشنطن في العراق هي بحجم الجريمة الاستعمارية في حق هذا البلد. فقد تبيّن أن واشنطن هي المتمنّعة في تكوين جبهة وليست سياسة الصد هي التي منعت ذلك. والدليل الآخر في هذا الباب هو اعلان فرنسا ولما كان التصدّي العراقي خلال الأسبوع الأول على أشدّه للزحف الأمريكي بأنها لن تسمح بهزيمة أمريكا في العراق! الولاياتالمتحدة أقحمت العراق في دوّامة الخراب واللامؤسّسة، بعد أن كانت بغداد تعدّ من أركان الدول المهيكلة والتي تستجيب مؤسساتها الى نواميس الدول، بقطع النظر عن طبيعة الأنظمة المتعاقبة على هذا البلد.. اليوم، العراق يفتّت بقرار أمريكي ويدخل مرحلة «انتخابية» عرجاء لا تستقيم لا مع متطلبات القانون ولا مع مقومات الحرية والتحرّر.. رغم هذا، نجد أن القرار الأمريكي ساري المفعول، ولا جهة دولية أو إقليمية تتصدّى، لما أفرزه الاحتلال الأمريكي من تطاول «الجلبي» على وحدة العراق وتجانس أبناء العراق منذ قرون، عندما طالب بأن تستقل «العمارة» و»الناصرية» و»البصرة» عن العراق بحكم ذاتي. وهذه ضربة لأولئك الذين صمّوا آذانهم عن المستجدات والحقائق القائمة في السياسة الأمريكية، أولئك الذين وقفوا في السياسة الأمريكية، أولئك الذين وقفوا عند تنظيرات «كيسنجر» الذي ظلّ يقول ويحذّر من تقسيم العراق، متناسين أن قولة كيسنجر وليدة الحرب الباردة، في ما سياسة «بيرل» «وولفويتز» وغيرهما، هي ابنة العصر الجديد، عصر القرن الأمريكي. لكن ما يحدث في العراق، نجده لا يثير حفيظة بعض العرب، ممّن سخّروا أموالا لهم في فضائيات تقوم على مقولة عجوز حملها فيضان الماء الهادر والتي تقول وهي في أوج الخطر: «إن العام عام صابة»، إذن هذه الفضائيات وهؤلاء العرب، الذين يروجون لانتخابات العراق، بقرار أمريكي استعماري، لماذا لا ينتابهم سؤال شك أو سؤال حيرة، يقول الأول: ما الذي تقصده أمريكا من اقحامنا في هذه «البيعة»؟ فيما يقول الثاني: أ لسواد عيون العرب والعراقيين تروّج واشنطن لهذا النمط من «الحرية» «حرية» السجون في أبو غريب، و»حرية» العراقي في أن لا يعيش بحرية؟ فهل هي مجرّد صدفة أن يروّج «للديمقراطية» تحت الاحتلال و»للحرية» تحت نيران الدبابات، أقطار عربية مازالت دون الحياة البرلمانية؟ أم أن في الأمر: «مكره أخاك لا.. ديمقراطي».. عفوا: «لا بطل»!