تونس (الشروق) يفتتح رئيس الجمهورية المفوّض محمد الناصر اليوم الثلاثاء بمدخل مقبرة الشهداء ببنزرت معرضا توثيقيا يخلد ذكرى آلاف الشهداء الذين سقطوا في «أم المعارك» التي خاضها الجيش التونسي وفيالق من المدنيين لاستكمال بسط السيادة الوطنية على كل شبر من تراب تونس. المعرض الذي يلتئم ببادرة من المؤسسة العسكرية والسلط الجهوية لولاية بنزرت يجسّد سيل الدماء التي تدفقت على الاسفلت والتراب بين 19 جويلية و15 أكتوبر من سنة 1963 وجسّدت ما كان يحدو الدول الوطنية الناشئة في تلك الحقبة من عزم قوي وثابت على طيّ صفحة الاستمعار الفرنسي الغاشم الذي استبسل في الدفاع عن آخر معاقله حيث لم يتردد في استعمال المعدات الحربية الثقيلة بما في ذلك الطائرات النفاثة والدبابات في محاولة يائسة لنسف ذاك التلاحم بين أفراد الجيش الوطني والشعب التونسي الذي أكمل معركته الى النهاية. ومن هذه الزاوية يستبطن إحياء ذكرى الجلاء هذا العام طابعا خاصا في خضم العبثية التي تسم المشهد الوطني منذ سنوات وتدرك اليوم ذروتها ساعية بكل قوتها الى نسف كافة مرجعيات الدولة الوطنية بما في ذلك مفاهيم الاستقلال والجلاء مكرّسة مزيجا من الجهل والحقد في التعاطي مع مكتسبات دولة الاستقلال التي لم تكن لتتحقق لولا قوة الواعز الوطني الذي دحر المستعمر الفرنسي إثر معركة طويلة امتدت أكثر من ثلاثة عقود ثم راكم أسس الدولة العصرية بجانبيها الحضاري والمادي. والواضح أن هذا السعي المحموم لتهميش مرجعيات الدولة الوطنية ينصهر في نطاق مشروع مجتمعي هجين يستبدل العلم بالجهل والوحدة الوطنية بمنطق الجماعة والسيادة الوطنية بالاستقواء بالأجنبي مختزلا في الواقع رؤيا استعمارية جديدة انتهجت القتل البطيء لدفع سائر الأوضاع الى الانهيار تمهيدا للانقضاض على مكتسبات الشعب التونسي التي تراكمت حجرا حجرا على مدى أكثر من ستة عقود. ومن هذه الزاوية تبدو ملحمة بن قردان التي قادها الجيش والأمن الوطني في بداية 2016 مدعوما بالكثير من سكان هذه المدينة الحدودية والتي أحبطت مساعي الدواعش للاستيطان على التراب التونسي استنساخا مصغرا لمعركة الجلاء التي تحتاج أجيال اليوم لفهم أبعادها الحقيقية حتى تستعيد تلك الروح الوطنية القوية التي ميّزت الآباء والأجداد خصوصا وأن «الواعز الوطني» يظل الكلمة المفتاح للخروج من هذا المستنقع الذي تتخبط فيه تونس منذ سنوات وكان من أهم تمظهراته ارتفاع منسوب استعداء الدولة الوطنية تحت يافطة الانتقال الديمقراطي الذي دمّر 45 دولة قبل أن يحطّ الرحال في تونس.