تحوّل البرلمان من مؤسّسة يُلقى على عاتقها سن قوانين تُكافح الفساد، إلى هيكل يأوي فاسدين، يتستّرون بحصانته ويستغلون ثغرات قانونية للافلات من العقاب. تونس (الشروق) التناقض الحاصل بين الوظيفة الحقيقية للبرلمان،بصفته هيكلا يسن تشريعات لمكافحة الفساد، وما يجري حقيقة من تحوّل المؤسسة التشريعية الى إطار يحتمي به الفاسدون، ملف أثار استنكار الرأي العام وأحدث موجة انتقادات لاذعة كان مسرحها وسائل التواصل الاجتماعي ومضمونها التنديد بعدد من الأسماء التي تمكّنت من الفوز في الانتخابات التشريعية. استغل بعض من تعلقت بهم شبهات فساد وقضايا مختلفة، الثغرات الموجودة في القانون الانتخابي والتي لا تنص على ضرورة الاستظهار بالبطاقة عدد 3، وتسللوا إلى قائمات حزبية او شكلوا قائمات مستقلة ،شاركوا من خلالها في الانتخابات التشريعية، ومنهم من تمكن من تحصيل العدد الكافي من الأصوات لحجز مقعد في البرلمان. نقائص قانونية من تعلقت بهم شبهات فساد استغلوا الثغرات القانونية وتسللوا الى القائمات الانتخابية ثم استغلوا ضعف التشريعات وضعف تطبيق بعض النصوص،في التصدي للتجاوزات الانتخابية وقاموا بالعبث بالمناخ الانتخابي من خلال العديد من السلوكات التي ساهمت في فوزهم. الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، أعلنت عن رصد مخالفات وتجاوزات متعددة ومتنوعة في الانتخابات التشريعية ،وأكّدت هيئة مكافحة الفساد في تقرير لها تلقيها شكاوى وإشعارات للتبيلغ عن الخروقات في انتخابات البرلمان ومنها خرق الصمت الانتخابي ومحاولة التأثير على الناخبين. كما أعلنت هيئة مكافحة الفساد عن رصد اخلالات تتعلق بتوزيع أموال ونقل الناخبين لمراكز الاقتراع وكذلك تسخير مراكز نداء وجهات اتصال لمحاولة التأثير على الناخبين من خلال المكالمات الهاتفية. وتم معاينة استغلال نفوذ لتوجيه الناخبين ومعاينة مخالفة بعض أعوان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات للضوابط المهنية. إمبراطور التهريب من الأسماء التي كثر الحديث عنها مؤخرا،محمد صالح اللطيفي الذي ترشح عن قائمة الحزب الاشتراكي الدستوري، ويُلقب اللطيفي في القصرين بكنية «سطيّش» و«إمبراطور التهريب»، وتؤكّد العديد من التقارير الإعلامية أنه محكوم بعشرين سنة سجنا في تهمة تهريب مخدرات. وتؤكّد التقارير أنه تم القبض على "سطيش" متلبسا بتهريب "الزطلة" و"الكوكايين" وحكم عليه بعشرين سنة سجنا، إلا أن أحد معاونيه ادعى أنه هو من قام بالعملية ليقع إطلاق سراح "سطيش". مبروك الخشناوي من بين الأسماء التي أثارت جدلا أيضا ،مبروك الخشناوي الذي ترأس قائمة الوفاء بالعهد، وهو من الأسماء التي وردت في قائمات أسماء تمت مصادرة أملاكها نظرا لارتباطها بالمنظومة السابقة وتم تجميد ممتلكاته التي حامت حولها شبهات اثراء غير مشروع وعلاقات مشبوهة مع الطرابلسية. الخشناوي هو من الأسماء التي انضمت الى حزب تحيا تونس ثم غادره ليترشح على رأس قائمة مستقلة، تمكن من خلالها من حجز مقعد في البرلمان وسيتم تعليق كل قضاياه نظرا لتمتعه بالحصانة البرلمانية. سفيان طوبال رئيس كتلة نداء تونس ورئيس قائمة قلب تونس بقفصة أيضا له ملف قضائي لدى القطب القضائي والمالي، وهو طرف في قضية فتحها القطب واستمع فيها للناشط السياسي لزهر العكرمي الذي صرح بان رئيس كتلة النداء سفيان طوبال يتلقى راتبا شهريا يقدر ب 6 آلاف دينار من جهات مشبوهة وقد تمسك العكرمي بتصريحاته المذكورة كما قدم مؤيدات تدعم كلامه حول وجود شبهة فساد مالي تحوم حول سفيان طوبال. وفتح القطب تحقيقات مع عدد من نواب كتلة النداء، في قضايا تتعلق بعلاقات مشبوهة مع رجل الاعمال المسجون شفيق الجراية، منهم سفيان طوبال. ماهر زيد المدوّن ماهر زيد هو أيضا من الأسماء التي تحوم حولها شبهات عديدة، منها ما تحوّل الى قضايا عدلية وأُصدر فيها قرار قضائي، حيث اصدرت الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بتونس، منذ فترة ،حكما قضائيا بسجن ماهر زيد لمدة 4 سنوات من أجل تهم تتعلق بالإستيلاء على وثائق إدارية مودعة بالمحكمة. وتعود الواقعة إلى سنة 2013 عندما ضبطت دورية أمنية وثائق إدارية داخل سيارة زيد تبين أنها مودعة بمكتب أحد قضاة التحقيق بالمحكمة الإبتدائية بتونس وتتعلق بتحقيقات حول أحداث الشعانبي وأحداث منزل الوردية الذي شهد، في أوت 2013, مواجهات بين قوات الأمن والمجموعة الإرهابية. سيف مخلوف المحامي سيف الدين مخلوف، هو أيضا من الوجوه التي تحوم حولها إشكالات كبرى وله قضية عدلية، تتعلق بتوجيه تهديد صريح إلى وكيل الجمهورية بسيدي بوزيد،على خلفية توجيهه لتهمة إهمال قاصر لأولياء أطفال المدرسة القرآنية المشبوهة بالرقاب. وقال مخلوف لوكيل الجمهورية «كانك تعتبر روحك قاضي إيجا لتونس» وهو ما تم اعتباره تهديدا لسلامة رجل القضاء. هذا المحامي، الى جانب خطابه المتطرف، ويتم توصيفه «بمحامي الإرهابيين» في تونس، حتى أن تواتر دفاعه عن المتورطين في قضايا إرهابية، جعله محل انتقادات كُبرى، تكثّفت بإعلان فوزه بمقعد في البرلمان. من أهم أولويات البرلمان القادم النظر في تعديل القانوني الانتخابي سواء في ما يتعلق بتعديل النظام الانتخابي ونظام الاقتراع، أو في ما يتعلق بتدارك النقائص التي بدت واضحة من خلال تطبيقه في المحطة الانتخابية الحالية، وعلى رأس التعديلات التي يجب ان تتم اضافتها استبعاد ذوي السوابق العدلية والشبهات من الترشح للانتخابات التشريعية والرئاسية. هذا التعديل ينبني أساسا على ضرورة سد الثغرة التي استغلها عدد من أصحاب السوابق وترشحوا للبرلمان حتى يتمتعوا بحصانة تمتد على خمس سنوات، يتم خلالها اغلاق كل القضايا المتعلقة بهم ،بطرق مختلفة، والافلات من العقاب. 5 مليارات لشراء مقاعد في البرلمان أكّد الأمين العام لحركة الشعب، زهير المغزاوي، أن الانتخابات التشريعية خضعت «لشراء مقاعد في البرلمان بقرابة ال 5 مليارات».وقال المغزاوي في حوار إذاعي «هناك أشخاص اشتروا مقاعد في البرلمان ب 5 مليارات ،مشددا على أن لديه ما يثبت صحة كلامه».وأضاف قائلا «كل الوسائل أُستعملت خلال الحملة الانتخابية التشريعية لشراء الأصوات»، مشددا على أن هناك «باندية متاع انتخابات وغورة». وتابع المغزاوي قائلا «بعد صدور النتائج النهائية حركة الشعب ستقدم طعونا للهيئة العليا المستقلة للانتخابات خاصة بعد رصد عدد من التجاوزات التي ترتقي لجرائم انتخابية الشيء الذي يستوجب اسقاط قائمات وفق تعبيره. 70 بالمائة في الإستحقاق التشريعي بالأموال عبّر القيادي في الجبهة الجيلاني الهمامي عن رفضه لنتائج الإنتخابات التشريعية. واعتبر الجيلاني الهمامي في حوار إذاعي، أنه تم شراء الأصوات بنسبة 70 بالمائة في الإستحقاق التشريعي بالأموال، مؤكدا أنه تم شراء ذمم الناخبين والتأثير عليهم وأن الأصوات لم تكن عن جدارة ولم تكن صادقة، علاوة على تدفق الأموال من الخارج. قياسا بالممارسة البرلمانية السابقة وتقدم ذوي الشبهة الى البرلمان الجديد يترسخ انطباع لدى عموم التونسيين بأن صفة النائب اصبحت مطية لهروب البعض من العدالة قصد الاعتصام بالحصانة البرلمانية لسنوات ومواصلة ارتكاب المزيد من الفساد. البحث في مفهوم الحصانة البرلمانية يحيل الى بيان فلسفتها بما هي نوع من الحماية القانونية التي تمنحها الدساتير لنواب البرلمان كنوع من الحماية السياسية والقانونية حتى يستطيع النائب أن يؤدي وظيفته الدستورية كاملة كسلطة تشريعية بعيدا عن تاثير السلطة التنفيذية على أعضاء البرلمان بالترغيب أو الترهيب. ونشأ مفهوم الحصانة البرلمانية في انقلترا ابان ظهور المجالس النيابية ووقع تقنينها بداية القرن 21 في القضايا المدنية والدعاوى الجنائية البسيطة، وفي الحالة التونسية نص الفصل 68 من الدستور على عدم إجراء أي تتبع قضائي مدني أو جزائي ضدّ عضو بمجلس نواب الشعب، أو إيقافه، أو محاكمته لأجل آراء أو اقتراحات يبديها، أو أعمال يقوم بها، في ارتباط بمهامه النيابية، بينما فصّل النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب في فصليه 28و 29 كيفية تمتع النواب بالحصانة واجراءات رفعها في حال الاعتصام بها، حيث ينظر البرلمان في رفع الحصانة على أساس الطلب المقدم من السلطة القضائية مرفقا بملف القضية إلى رئيس البرلمان، لتتولى لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين البرلمانية والقوانين الانتخابية دراسة الطلبات والاستماع إلى الأعضاء المعنيين وإعداد تقارير في شأنهم في أجل أقصاه 15 يوما من تاريخ الإحالة ترفعه إلى مكتب المجلس الذي يحيله على جلسة عامة سرية حيث تستثى من الحصانة حالات التلبس بالجرم الذي يتيح للنيابة العمومية التدخل دون اتباع المسار المذكور آنفا. وفي صورة اتّخاذ المجلس لقرار برفض طلب رفع الحصانة أو اقتراح إنهاء الإيقاف فإنّه لا يمكن تقديم طلب أو اقتراح ثان يتعلق بنفس الأفعال التي كانت موضوع الطلب الأول أو الاقتراح المرفوض، فهل تعني الحصانة افلاتا من العقاب؟ في مفهومها النظري لا يمكن للحصانة البرلمانية ان تكون افلاتا من العقاب لانها جعلت اساسا لحماية الرأي وممارسة المهام النيابية بعيدا عن تأثيرات محتملة من باقي السلط بل ان التشريع التونسي استثنى منها الواقعين في حالة التلبس، غير ان الممارسة العملية في حصيلة البرلمان الماضي كرست العكس من خلال تعامل البرلمان بمنطق القطاعية في العديد من طلبات رفع الحصانة حيث ان هيئة النفاذ إلى المعلومة اصدرت بتاريخ 18 جانفي الماضي قرارا يلزم رئيس البرلمان بتمكين منظمة «أنا يقظ» من نسخة ورقية من القائمة الإسمية للنواب الذين وردت بشأنهم مطالب رفع حصانة من قبل السلطة القضائية. كما أن النيابة العمومية لم تتحمل المسؤولية في حالات خارجة عن نطاق الاعتصام بالحصانة لان الفلسفة العامة للحصانة تقتضي من السلطة القضائية التحرك في انتظار امكانية اعتصام النائب بالحصانة او عدم ذلك، غير أن العديد من النواب الذين شابت حولهم شبهات فساد لم ترد في شأنهم مطالب في الغرض. في المحصلة يبدو مفهوم الحصانة شديد الوضوح في التشريع التونسي غير ان التعامل معه في مستوى المؤسسات محاط بضبابية كبرى باتت تدفع الى انطباع عام مفاده تحول البرلمان الى ملجأ للفاسدين ويتعين لتجاوز ذلك اعادة تعريف الية الحصانة وبيان حدود تماسها مع باقي السلط قصد انفاذ القانون وردع المخالفين.