خلال شهر رمضان يتّجه الكثير من الأنظار إلى الفئات المحرومة والمهمّشة والفقيرة سواء في العديد من الجهات الدّاخليّة أو في الأحياء الشعبيّة المتاخمة للمدن الكبرى. هذا المدّ التضامني التلقائي الذي ينهل في زخمه الإنساني من الرّوابط التي مازالت تشدّ المجتمع التونسي بعضه إلى بعض رغم كلّ المتغيّرات الحادّة التي يشهدها هذا المدّ التضامني الرّائع له بالتأكيد الكثير من الأبعاد الرّسميّة وتلك التي تدخل تحت طائلة الحسابات الضيّقة لأحزاب تراهن على هذا الخيار ضمن تصوّراتها الانتخابيّة وتموقعها السّياسي في السّاحة، لكنّ أهمّ تلك الأبعاد وأرسخها في نظري تلك التي تصدر عن المجتمع المدني ومكوّناته من جمعيّات ومنظمات وأفراد خارج نطاق الحسابات الضيّقة والمصالح العاجلة. في هذا السّياق كانت الجمعيّة الجهويّة للإحاطة بكبار السنّ بولاية بن عروس في صميم هذا المدّ الانسانيّ المقترن بشهر رمضان إذ بادرت أيّاما قبل انبثاق هلاله إلى توزيع مئات المساعدات على ضعاف الحال بما تيسّر لها من موارد وإمكانيات هاجسها في ذلك منذ تأسيسها 1985 إلى اليوم الإسهام في رسم الابتسامة على وجوه الكبار والصّغار في جلّ المناسبات الدّينية وفاء لرسالتها الجمعياتية الانسانيّة والتي من أجلها أحدثت. جميل جدّا أن يتحرّك المجتمع المدني في شهر كريم له حضور مميّز في حياة التونسيين ووجدانهم... جميل جدّا أن تكون الجمعيّات الخيريّة حاضرة بامتياز في هذا المشهد التّضامني بروح إنسانيّة عالية تعكس قوّة المجتمع المدني في تونس وصلابة نواته ومتانة بنيانه رغم رياح المتغيّرات التي عصفت بالمجتمع المدني خلال السنوات التسع الأخيرة وأربكت سياقاته ومفهومه بعد أن اتضح أنّ بعض مكوّنات هذا المجتمع تعمل بشكل مريب وفق أجندات لا تخفى خطورتها على أحد. وربما من المفيد القول أنّ المدّ التضامني الأصيل في تونس اقترن خلال السّنوات الأخيرة بظواهر أخلّت بمفهومه وطابعه وانحرفت بأهدافه في ظلّ ما تكشف عنه المواعيد الانتخابيّة القادمة تشريعيّة وئاسيّة من ممارسات سياسوية مفضوحة لأحزاب تسعى إلى توظيف المساعدات المعروفة أكثر في الأوساط الشعبيّة «القفة» خدمة لمصالحها الإنتخابيّة التي تزول بزوال الاستحقاقات السياسيّة بعد الحصول على الأهداف والكراسي. لذلك تجد الفئات الفقيرة نفسها بين مطرقة الاحتياج والخصاصة وسندات بعض الأحزاب في ظرف دقيق تعيشه تونس في ظلّ تدهور خطير للقدرة الشرائيّة حتى لدى الفئات التي كانت تصنّف ضمن الطبقة الوسطى. رسالتي إلى هذه الأحزاب بكلّ إيجاز : اتقوا الله في المساكين المحتاجين في شهر رمضان وفي غيره من الأيّام. لا تجعلوا من الفقر والخصاصة ورقة انتخابيّة زائلة بزوال أهدافها. ضعوا برامج واضحة وشاملة في أبعادها الوطنية لنكسب ثقة الشعب بدل الضحك على ذقونه بمساعدات مخجلة لا تسمن ولا تغني من جوع. أقول ذلك ونحن على أبواب استحقاق انتخابي برلماني ورئاسي تاريخها يحتاج إلى الكثير من المراجعات وإعادة ترتيب الأولويات وفق المصلحة العليا للوطن وللشعب التونسي الذي بات يعاني الأمرّين في مشهد وطني تسوده التجاذبات والصراعات الخفية والمعلنة بين الكثير من الأطياف السياسية. في ظل هذا المشهد أثمن جهود الكثير من مكوّنات المجتمع المدني والجمعيات الخيريّة التي تسعى لإعادة الرّحمة والأصالة والصدّق والموضوعية إلى المدّ التضامني دون أهداف ولا غايات. هذه رسالة واضحة لكل الأحزاب مفادها أنّ التضامن ليس صدقة انتخابية مدفوعة الأجر سلفا (افرح بيّ نفرح بيك) بل هو روح أصيلة كامنة في قلوب التونسيين وصفة من خصال شخصيتهم الحضارية مهما كانت مصاعب الحاضر. وكيفما تغيّرت الأحوال بعد (ثورة) عفوا انتفاضة حققت قليلا من انتقالها الديمقراطي الصعب لكنها لم تحقق إلا الوعود والكلام الأجوف على مسارات الواقع الاجتماعي والوضع الاقتصادي. هذه رسالتي إلى الجميع أحزابا وجمعيات ومنظمات حتى تظل تونس منيعة في بنيانها قوّية في روحها الإنسانية الرّاسخة مهما بدت عواصف المرحلة عاتية.