مع الملاحظ ان المحاماة ليست انتهازية ولم تكن كذلك في يوم من الأيام و نذكر كل من نعت المحاماة بالإنتهازية بأنه وقع تشكيل لجنة من قبل الهيئة الوطنية للمحامين لصياغة وإعداد مشروع القانون بعد انتخاب عميد المحامين مباشرة في شهر جوان 2010, إذ شرعت هذه اللجنة في إعداد المشروع الى ان أصبح جاهزا قبل ثورة 14 جانفي بمعنى أن المحاماة لم تنتهز فرصة سقوط النظام لتمرير هذا المشروع بل انه أعد سلفا وقد أصبح جاهزا قبل الثورة. هذا علاوة على أن الظروف التي تمر بها البلاد لا تكون حائلا ولم تشكل في يوم من الأيام عائقا لإصدار مراسيم تنظم قطاع المحاماة و ذلك بعد ان نظمت السلطة قطاعات عدة ومنها الإعلام وإحداث النقابات في سلك كان محرما عليه مجرد الحديث عن الإضراب أو العمل النقابي كسلك الأمن والديوانة والسجون وغيرها. فعند موافقة السلطة المؤقتة على إحداث كل هذه النقابات وتنظيم كل القطاعات لم نكن نستمع عبر كافة وسائل الإعلام إلى أية احتجاجات من قبل أي طرف على تنظيم السلطة المؤقتة لهذه القطاعات بالرغم من كونها قرارات مصيرية لا نجد لها مثيلا إلا في الدول المتقدمة. أما و قد شرعت هذه السلطة في تنظيم قطاع المحاماة على غرار بقية القطاعات فقد ثارت أغلب الأصوات حتى تيقنا من أن المحاماة أصبحت مستهدفة مع التذكير أن المحاماة التونسية يفوق عمرها 112 عاما وقد كانت عبر كل تاريخها مساندة و مدافعة عن الحريات ومشاركة في حركة النضال والتحرير الوطنيين وقد تعرض المحامون طوال هذه الفترة من عمر المحاماة الى السجون والمنافي والتضييق بكافة أنواعه على أرزاقهم و على حرياتهم ومنعهم من السفر وكاد المشهد السياسي يخلو من غيرهم فقد كانت اغلب القطاعات لا تحرك ساكنا لأية قرارات سياسية او اقتصادية او اجتماعية يمكن ان تفتك بالبلاد واكتفت بالصمت والجلوس في مكاتبها باحثة عن الكسب باستثناء من قل وندر. فإذا قبل المجتمع التونسي بعد الثورة من السلطة المؤقتة القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها ان تحدد مصير البلاد فكيف يمكن لبعض القطاعات الفئوية ان يشكك في مشروعيتها لإصدار قانون ينظم مهنة المحاماة؟ مع التذكير ان مجلة الأحوال الشخصية التي شكلت تحولا عميقا في تاريخ المرأة العربية وقع إصدارها بمقتضى أمر علي صادر عن الباي الذي كان يشغل هذا المنصب بصفة شكلية اذ جرد من كامل صلوحياته وكان الوزير الأول آنذاك الحبيب بورقيبة هو من أصدر هذا القانون بقرار فردي في أوت 1956 وقد كان آنذاك أول مجلس قومي تأسيسي تونسي يعد دستورا للبلاد. 2 - في ما يتعلق بحصانة المحامي لقد أثار الفصل 47 من مشروع القانون المنظم لمهنة المحاماة ردود فعل عنيفة و غريبة ذلك ان مسألة الحصانة او ما سمي خطأ بعدم المؤاخذة هي مسالة لا تخص الا المحامي وحده و لا يمكن لاي طرف ان يتدخل فيها او يدلي بدلوه و بالرغم من كل ذلك سنبين ان المحامي ليس بقاصر أو ضعيف عقل أو مجنون حتى لا تقع مؤاخذته و ليس برئيس مخلوع ويكفي الرجوع إلى الفصل 46 من مشروع القانون الذي يتحدث عن التتبعات الجزائية ضد المحامي وإجراءاتها و عن تفتيش مكتب المحامي وكان ترتيب هذا الفصل سابقا للفصل 47 المتعلق بالحصانة وذلك لرفع كل التباس اذ ان المحامي يمكن مؤاخذته وتتبعه جزائيا من اجل اي عمل مخل بالقانون وفي إطار حياته الخاصة والعامة على العكس من ذلك فإن المجنون أو القاصر الذي لم يبلغ الثالثة عشر عاما لا يمكن مؤاخذته مطلقا من اجل جريمة ارتكبها, فلا داعي إلى تشبيه المحامي بهؤلاء فهو ارفع منهم ومن غيرهم. وأما فيما يخص الفصل 47 الذي يمتع المحامي بالحصانة فإن هذا الأخير يؤاخذ كذلك وان لم يكن جزائيا فانه يؤاخذ تأديبيا مع العلم ان كافة القرارات التأديبية قابلة للاستئناف و ان النظر في استئنافها هو من اختصاص محكمة الاستئناف اي انه يعود في الأخير إلى القضاء وليس حكرا على البيت الداخلي للمحاماة. ولم يشذ هذا الفصل عن القوانين المقارنة ومنها المادة 49 وما يليها من قانون المحاماة المصري عدد 17 لسنة 1983 و الذي لا يكتفي بالحصانة بل يضيف إليها واجب احترام المحامي من قبل المحاكم و سائر الجهات التي يحضر أمامها. كما جاء بالمادة 39 من قانون المحاماة السوري ان للمحامي حصانة من التوقيف وحصانة من الاعتداء وحصانة من التفتيش و الذي يحظر توقيف المحامي مهما كان الجرم المنسوب إليه ما عدا الجرم المشهود (والمقصود به حالة التلبس) كما يمنع تحريك الدعوى العمومية (إثارتها) ضده إلا بعد استيفاء العديد من الإجراءات. كما جاء بالفصل 40 من قانون المحاماة الأردني انه لا يمكن مؤاخذة المحامي بل يجب تقديم كل التسهيلات من كافة الأطراف ولا يختلف ذلك مع أحكام قانون المحاماة بعمان ولبنان والعراق. ولم تخرج ليبيا عن هذا السياق بالرغم مما نعرفه عن النظام الليبي اذ جاء بالفصل 28 من قانون المحاماة الليبي انه لا يمكن مؤاخذة المحامي من أجل القذف والسب أثناء مباشرة المحامي لمهامه. وحيث نذكر من وصف المحاماة بالانتهازية أن هذه القوانين المقارنة منصوص عليها بقوانين تلكم البلاد باستثناء تونس وبعض الشواذ والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه. وسوف يرد العديد من قراء هذا المقال بأنه لا يمكن الاقتداء بهذه القوانين بالدول العربية بل يجب الاقتداء بالديمقراطيات المتقدمة و هنا نقول انه إذا كانت هذه الدكتاتوريات العربية قد أسندت المحامي حصانة أثناء مباشرته لمهامه بالرغم من أنها عادة ما تضيق على الحقوق والحريات فكيف نستغرب من مطالبة المحامي لأبسط هذه الحقوق في ظل دولة افتكت حريتها وثارت على حاكمها وأصبحت تتنفس نسمات الحرية. وفي هذا الإطار نورد ما صدر من قرارات عن محكمة التعقيب الفرنسية ولعل أبرزها القرار المبدئي الصادر بتاريخ 11 أكتوبر 2005 الذي يؤكد مبدأ حصانة المحامي أثناء مباشرته لمهامه وحقوقه المتعلقة بالدفاع وخصوصا الحصانة الجزائية. وعود على الفصل 47 من مشروع قانون المحاماة نلاحظ انه لم يشذ عن كل هذه القوانين المقارنة التي تحصر الحصانة في نطاقها الضيق الا وهو مباشرة أعمال الدفاع وفي ذلك ضمانة للمتقاضين و ليس للمحامي فقط إذ يجب أن يتوازى جناحا العدالة فإذا كان احد الأجنحة ضعيفا فلا يمكن أن تأخذ العدالة مجراها و العدل أساس العمران. بقلم: الأستاذ محمد المداغي (المحامي لدى التعقيب) الأستاذ الوليد بن عمارة (المحامي)