حشايا بالية رصّفت بنظام تحت لحاف خيمة صغيرة لا تظنها تسع لأكثر من شخصين... بقايا سجائر تناثرت هنا وهناك أمام بهو الخيمة ووسط سورها البلاستيكي الأزرق الذي حوّله المعتصمون الذين تجاوز اعتصامهم ال120 يوما الى فضاء للشعارات التي تلخص مأساتهم... بقايا أخشاب متفحمّة حسبناها لغاية التدفئة رغم حرارة الطقس لنكتشف أنها محاولة انتحار لواحد من هؤلاء المعتصمين من أصحاب الشهائد العليا الذي لعب الزمان بهم وقست عليهم الظروف ولم يجدوا من حلّ سوى الاعتصام أمام وزارة التربية علّهم يظفرون بلفتة كريمة من أصحاب القرار... ولكن ما من مجيب عن استغاثاتهم المتواصلة ومحاولاتهم المتكرّرة في مقابلة السيد وزير التربية حتى باتوا يمنعون من مجرّد الاتصال بمكتب الضبط بالوزارة على حدّ تعبيرهم وهو ما حزّ في نفوسهم وجعلهم يحسّون بالغربة في بلدهم تونس... ورغم ذلك هم مواصلون الاعتصام حتى النهاية التي يجهلون موعدها، ينتظرون حلولا ولو بسيطة تخفف من معاناتهم خاصة وأن جميعهم يعاني ظروفا مادية صعبة للغاية وزادتها الظروف الصحية المتدهورة لبعضهم ممّن أصيب بأمراض خبيثة مثل التليف الكبدي والحساسية المزمنة والأعصاب وغيرها... حاولنا التحدث إليهم فتملكهم الصمت في البداية ثم فوّضوا الكلمة لأحدهم الذي امتنع عن ذكر إسمه لأسباب أراد الاحتفاظ بها لنفسه قائلا أن الثورة قامت من أجل الكرامة التي هي بوابة الديمقراطية والحرية والمساواة والتي لا وجود لها على أرض الواقع إذ أننا مازلنا نعيش على وقع خطابات «نوفمبرية» وأضاف محدّثنا بعد أن أشعل سيجارته قائلا: «نحن لم نطلب لجوءا سياسيا فلنا بطاقات تعريف وطنية تثبت انتماءنا، بيد أننا نعيش الاغتراب وإن كنا مجرد أسماء في دفاتر الحالة المدنية فنحن نطلب اللجوء السياسي أو الترحيل الى بلد يعترف لنا بحق المواطنة». يطلق زفرة ثم يواصل: «لسنا بأصحاب شهائد عليا فقط، بل نحن مدربون على الموت في سبيل الدفاع عن حوزة الوطن ونحن مؤهلون لجميع الميادين استشارية كانت أو استراتيجية أو قتالية، نحن لا ننتمي الى أي حزب لأن الشعب هو حزبنا الوحيد». وطالب بضرورة القطع مع الأنانية والمطالب الشخصية وضرورة تظافر الجهود لتحقيق الازدهار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني بعيدا عن سياسة «الأكتاف» و«المحاباة» التي مازالت موجودة على حدّ تعبيره وتمكينهم من فرص تشغيل تحفظ كرامتهم وتساعدهم على تحمّل مسؤولياتهم العائلية. تجاهل أمّا عواطف والمتحصلة على شهادة الأستاذية في الشريعة الاسلامية فقد أكدت أن اعتصامهم جوبه بالتجاهل والتهميش والقمع من قبل وزارة التربية مشيرة الى أن كافة المعتصمين جمع بينهم الفقر المدقع لعائلاتهم خاصة أن بعضهم له ثلاث أو أربعة أشقاء من أصحاب الشهائد العليا وجميعهم عاطلون عن العمل. وأضافت عواطف أن وزير التربية أعلن في احدى الوسائل الاعلامية أن كل من يشكك في العدد المسند إليه من حقه التقدم بمطلب لاعادة الاصلاح إلاّ أن ذلك لم يطبق على أرض الواقع إذ تمّ منعها من ذلك وأبدت تذمّرها من بعض الممارسات الصادرة عن بعض الموظفين بالوزارة الذين يعملون على تقزيمهم والحط من شأنهم. معتصمة أخرى كانت جالسة قرفصاء تساءلت عن سبب تهميشهم رغم الظروف المريرة التي تميز حياتهم قائلة: «غيري من الفتيات الآتي يعشن البذخ لا تتحمل البقاء في هذه الخيمة نصف ساعة فقط... لم أطلب المستحيل ولم أطلب العمل في مجال اختصاصي وإنّما أطلب عملا بسيطا يوفر لي كرامتي ويحقق لي طموحاتي البسيطة وخاصة معالجة والدتي». وختمت حديثها بنبرة حادة: «الثورة قامت على الكرامة ولا كرامة دون عمل». أوضاع مزرية أمّا عبد الرزاق والمعطل عن العمل منذ 8 سنوات بعد تحصله على شهادة الأستاذية في العلوم الطبيعية فقد أوضح أن ما زاد في اصرارهم على البقاء طيلة 120 يوما من الاعتصام هو موافقة تونس على المادة 23 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي ينصّ على حق كل فرد في العمل وحمايته من البطالة ولعلّ البقاء طول هذه المدة هو دليل على الحالة الاجتماعية المزرية جدّا لكلّ واحد منا الذي لا يعدّ صاحب الشهادة العليا الوحيد في عائلته ومع ذلك فكلهم معطلون وهو ما يتنافى مع ما وعد به الوزير. وتوجه عد الرزاق ببيت شعري من تأليفه الخاص الى الحكومة الانتقالية قائلا: «لا تجعلوا من أشرقة الشمس تغيب... ولا تجعلوا من حبّنا للثورة يخيب». وأشار عبد الرزاق الى «صنم» من صنع المعتصمين يحمل شكل شاب مشنوق وقال: «هذا هو مصير أغلب الشباب المتحصل على شهادة الأستاذية». هممنا بمغادرة المكان وكلّنا حسرة عن شباب تونس وما آل إليه فاعترضنا الشاب ياسين الذي حاول ليلة أول أمس الانتحار حرقا لولا تدخل أعوان الجيش الوطني وبعض زملائه حاولنا التهدئة من روعه وإقناعه بأن الانتحار ليس هو الحلّ فطأطأ رأسه وارتسمت على شفتيه نصف ابتسامة وقال: «اعلم ذلك ولكن أنا ميّت حي... أردت أن أضع حدّا لهذه المأساة». بهذه الكلمات اليائسة ودّعنا معتصمي أصحاب الشهائد العليا وكلنا أمل في ايجاد الحلول الممكنة من قبل سلطة الاشراف لهؤلاء ومراعاة ظروفهم الصعبة وتمكينهم في بصيص أمل يعيد لهم الثقة في الحياة وفي الوجود.