1 لعل ما يجعل من الثقافة كائنا حيويا هو ما يميزها من انتاجات ابداعية تشغل الافراد والجماعات وتجعل هؤلاء يتفاعلون مع تلك الانتاجات اما بالاستهلاك والهضم والتبني أو بالرفض والاهمال والازاحة وفي كلتا الحالتين لا يتم ذلك الا عبر الصراع الثقافي والجدل الفكري حول فكرة أو منجز ثقافي وابداعي. ومن بين أشكال الصراع الثقافي النقاش والجدل والكتابة والكتابة المضادة... وعندما يقتحم هذا التفاعل المجال العمومي بالمعنى «الهابرماسي» نسبة الى المفكر والفيلسوف الألماني «هابرماس» فإن ذلك يساهم في تطوير التعبير الحر لدى الافراد وينمي فكرة الاختلاف في الرأي ويساهم في «صنع» المعايير الموضوعية من أجل الحسم في فكرة أو ابداع أو رأي أو عمل فني بشكل عام اما بالرفض أو بالقبول أو بالتعديل... وفي الوقت الذي يتم فيه هذا يقوم الافراد وهم يساهمون في النقاش العمومي باكتشاف ذواتهم وتفجير طاقاتهم وتطوير كفاءاتهم في عملية منتظمة للتخلص من الكبت ومن عقد الهيمنة والشمولية والاستبداد بالرأي الواحد وهو الغاية القصوى لحرية الفكر والتعبير كما أنه احدى غايات الديمقراطية وذلك من أجل ألا يتحول ذلك الكبت الى عنف وحتى لا تتحول العقد الى إحباط ويأس وهما العنصران اللذان يكونان الارضية الخصبة التي تنشأ فيها الأفكار المتطرفة التي تؤشر في ما بعد للإرهاب. 2 ولعل أدوات الجدل الثقافي تتعدد وتتنوع حسب المجال العمومي الذي تنتمي اليه وحسب الموضوعات الثقافية المعنية فإلى جانب الكتابة في الصحف والمجلات والكتب نجد النقاش الفكري في المنتديات والنوادي والصالونات الثقافية الذي يأخذ حيزا مهما في المجتمعات الديمقراطية كما نجد المناظرات التلفزية أو المناظرات المباشرة بين أقطاب الاختلاف حول فكرة أو منجز معين كما نجد أيضا في مجال الكتابة الأدبية المعارضات الشعرية والنثرية والكتابات النقدية التي تنتصر لفكرة وتدحض فكرة في نسق من الجدل المستمر الذي يؤدي حتما الى التطور... 3 الا أننا بالنظر الى واقعنا الثقافي التونسي وبالنظر الى هذه الحركية الثقافية من مهرجانات وملتقيات ومؤتمرات وإصدارات أدبية انتاجات مسرحية وسينمائية وغيرها من الانشطة الثقافية المتوزعة في كل مناطق البلاد لا نكاد نعثر في مجالاتنا العمومية على نقاش أو جدل فكري يهم قضية ثقافية أو إبداعية بل ان كل ما يمكن العثور عليه هو إخبار عما يعتمل في الحركة الثقافية من أفكار وإبداعات دون أن تكون متبوعة بنقاش عمومي أو بمواقف أو مواقف مضادة ولعل لعدم وجود هذا الجدل الثقافي الذي نطمح اليه أسباب عديدة ومتنوعة. فبمجرد أن يبدأ نقاش حول فكرة الا ويحيد بعد قليل عن مساره الطبيعي ويخرج عن كونه صراعا ثقافيا بحتا ويتحول الى صراع من نوع آخر تستعمل فيه وسائل أخرى غير ثقافية بعيدة كل البعد عن الجدل الخلاق والتي يمكن أن تتقدم بثقافتنا الوطنية... هذه الوسائل غير الثقافية عادة ما تسيء لمستعملها قبل غيره اذ تصبح علامة على عجزه عن مقارعة الحجة بالحجة وعلى الدفاع على فكرته وخياراته مستعملا حينا ضد من يخالفه الرأي نفوذا اداريا وحينا آخر نفوذا ماليا ليس من أجل الانتصار لفكرته وانما من أجل الاطاحة بخصمه بشكل شخصي... وبذلك نخرج تماما عن معنى الجدل الثقافي الذي ذكرناه آنفا ونعود الى فكرة الاستبداد بالرأي الواحد الذي مازال بعض المحسوبين على الثقافة والابداع ينتهجونه متكئين على رواسبهم الفكرية والسياسية القديمة متناسين ما حدث وما يحدث في العالم من تغيرات ومن ثورات تقنية جعلت مجالا عموميا افتراضيا ينشأ قريبا منا وفي غفلة عنا... مجالا يخوض فيه الشباب المبدع نقاشا عموميا حرا بعيدا عن حراس القدامة ويعبرون فيه عن أفكارهم وشواغلهم بلا رقابة استبدادية وبلا رقابة معرفية أيضا... وهو ما سيكرس أزمة تواصل حادة ليس بين الاجيال فحسب وانما وهو الأهم بين الرؤى والافكار وهو ما سيبشر بسجال ثقافي من نوع آخر يأخذ فيه مظهر اللامبالاة وتجاهل الآخر/ الأنا، شكلا جديدا ينتفي فيه التفاعل والتأثير وينقسم فيه المجال العمومي الى مجالين مجال واقعي وآخر افتراضي يفصل بينهما جدار سميك من الانفصال واللافهم والصمت، ويحل فيه الخطاب الشمولي محل الخطاب التواصلي وتنتفي معه كل أشكال الحوار والسجال والتواصل. 4 ولذلك فإن من ينتهجون الأساليب القديمة في ادارة الصراعات الثقافية سيكون مصيرهم الفشل الذريع لأن الثقافة الوطنية تسعى جاهدة من خلال مفهومها الى تكريس معاني الحق في حرية التعبير وحق الاختلاف من أجل الدفع بقيم الديمقراطية التواصلية الى الأمام...