أنقرة (الشروق) من مبعوثينا: النوري الصّل وأمين بن مسعود حين وصلنا إلى أنقرة منذ أسبوعين.. كانت الأجواء السياسية ساخنة جدّا.. فلا حديث في الشارع التركي، إلاّ عن تداعيات الكشف عن خطة الانقلاب التي دبّرها الجيش ضدّ حكومة العدالة والتنمية التي يتزعمها رجب طيب أردوغان.. الكشف عن هذه الخطة فتح ما يطلق عليها الكثيرون في تركيا معركة «الحسم» بين وجهي تركيا.. وجهها العلماني الغربي.. ووجهها الاسلامي التاريخي. .. ومن بين غبار هذه المعركة تبرز حالة جديدة لم يعهدها العالم الاسلامي في العصر الحديث.. حالة تجمع بين «جيش علماني» وحكومة اسلامية وشعب يجمع بين هذا الجيش وتلك الحكومة التي تحاول «تهذيب» العلمانية حتى تصبح منسجمة مع «إسلام متصالح» دون أن تخلّ في ذلك بشروط الدولة العلمانية وتوظّف اللعبة الديمقراطية لتحقق عبر صناديق الاقتراع شعبية ساحقة حملتها الى السلطة لفترتين متتاليتين.. هكذا يواصل أردوغان اليوم خوض معركة ضبط الجيش والحيلولة بينه وبين الحياة السياسية بعدما تكشفت خيوط المؤامرة الانقلابية التي كان يعدّ لها بعض كبار جنرالات الجيش للاطاحة بحزب العدالة والتنمية.. قبل أن يباغت منافسيه بفرض معركة تعديل الدستور لاعادة التوازن بين السلطات الثلاث من ناحية وانهاء دور السلطة القضائية في السيطرة على السلطة التنفيذية والحياة السياسية من ناحية ثانية.. وبالطبع فإن حكومة أردوغان لا تريد أن تدخل في صراع مفتوح مع المؤسسة العسكرية ولا تريد أيضا أن تشغلها قضايا جانبية عن قضايا أخرى رئيسية.. وهي تحرص على وضع معركتها مع الجيش في اطارها الطبيعي خشية أن يؤدي تصعيدها لهذه المعركة الى ردّ فعل سلبي من الجيش ليس بالضرورة عبر انقلاب عسكري ولكن عبر أدوات أخرى قد يلجأ إليها الجيش لمضايقة الحكومة ومحاصرتها.. لكنها لا تخفي في المقابل نيتها في تقليم أظافر الجيش وخلع أنيابه في الشأن الداخلي الذي ظل مسيطرا عليه على مدى قرن من الزمن ولذلك كانت حملة الاعتقالات الأخيرة لكبار قادة الجيش.. ومن المعروف أن الجيش في تركيا هو ضابط إيقاع الحركة السياسية منذ قيام الجمهورية الحديثة بقيادة كمال أتاتورك، ولكن لم يبق أمام أردوغان الذي أطلق رصاصة المعركة الأخيرة لتثبيت الجمهورية الاسلامية التركية الحديثة سوى وضع حدّ لنفوذ المؤسسة العسكرية.. وبالطبع فإن حكومة أردوغان تدرك جيدا وزن الجيش في المجتمع التركي، ولذلك فإن تصعيدها حتى لو كان وفق القانون، فلا بدّ أن يكون محسوبا لأن الجيش التركي مازال في معظمه غير راض على الحكومة ومازالت قطاعات كبرى فيه ترى أن حكومة العدالة والتنمية تهدّد أسس العلمانية التركية. وفي هذا الاطار يقول جور بوز «بالرغم من تجذّر النظام العلماني في تركيا، إلاّ أن وقوف الشعب الى جانب حكومة العدالة والتنمية هو الذي سيحسم المعركة لصالح هذه الحكومة».. ويرى مراقبون أتراك التقتهم «الشروق» في اسطنبول أن أردوغان حارب العلمانية متسلحا بإرادة الشعب الذي منحه ثقته وتأييده.. وهو ما ساعده على تقليص نفوذ الجيش في الحياة السياسية.. وبالفعل استطاع أردوغان أن يحقق شوطا مهما في مواجهته مع العلمانية ويفوز عليها ب«سلاحها» الذي وضعه مصطفى كمال أتاتورك في الانتخابات والدستور التركي الموضوع لكي يحمي العلمانية. ورغم مضايقات القضاء والجيش له ومحاولة حظر القضاء بإيعاز من الجيش حزب العدالة والتنمية بحجة تقويض النظام العلماني، فإنّ أردوغان صاحب فكرة الثورة التدريجية السلمية الديمقراطية مازال يعمل على تثبيت فكرته هذه بعد ان ثبت جدارته في المشهد السياسي.. وبعد أن نقل تركيا من دولة تعيش في الفراغ والضياع الى قوة إقليمية لها وزنها واعتبارها.. ولم ينجح غلاة القوميين الأتراك في اضعاف قوته طالما حقق لتركيا اقتصادا مزدهرا وتنمية اجتماعية فاقت التوقعات ولجم التضخم والعجز في ميزان المدفوعات وقفز بالناتج القومي الاجمالي الى مستويات لم تشهدها تركيا في تاريخها.. وكل هذه النجاحات أضافت الى أردوغان رصيدا مهما.. وأضعفت خصومه.