... وأنا أتفرج على الفضائيات العربية المنتشرة أكثر من خبز المواطن العربي، ( وأستعمل كلمة فرجة من وحشية اللغة قصداً فليس هناك مشاهدة لكن فرجة كالسيرك)، ثم وأنا أقرأ مجبرة «في مناسبة ما» بعض الصحف (الصفراء) الموجودة ظلماً للقارئ على الساحة، أتساءل: ما فائدة ما نكتب؟ هل هناك قارئ لديه الوقت الكافي لقراءتنا؟ القارئ المواكب أصبح كائناً ثميناً، وسلعة نادرة، وكم من الإساءات ترتكب بحقه كل يوم، الإنسان العربي الذي يفك الحرف، يمكنه أن يعتبر نفسه محظوظاً فوضع إنتشار الأمية ليست إلى انحسار كيف يفلت هذا المحظوظ من فخ الأمية الثقافية ؟ أين نجد القارئ النموذجي؟ بل وبكل بساطة أين نجد القارئ، هذا السؤال يقض حتماً مضجع كثيرين ممن اتخذوا من حرفة الكتابة مهنة وفلسفة حياة، لا بد قبل كل شيء أن يفلت القارئ المحترم من حصار الرقابة المختلفة التي تحاول أن تمنع عنه كل ما يمكن أن يخاطب وعيه، وينمي حسه النقدي، ويفتح آفاق معرفته، ويسلحه لمواجهة واقعه والسعي إلى التقدم والإرتقاء، أي أن يملك حداً أدنى من الخيارات التي تحدد القراءة كفعل حرية. لا بد بعد ذلك أن يكون لديه الوقت الكافي والحماسة اللازمة، وأن يكون مهتماً بالقراءة كنشاط قائم بذاته، حساساً لما توفره من متعة، مسكوناً بالأسئلة القلقة، معنياً في التوغل في مجاهل النفس البشرية، أي لا بد أن تتوفر فيه شروط عدة، منها الفضول والنهم وحب الإطلاع والحماسة والقدرة والشجاعة... ومثل هذا القارئ لا يهبط من مجرات أخرى، ولا يأتي من العدم، بل هو نتيجة حالة حضارية، ونضج إجتماعي، القارئ «مشروع دائم» يبصر النور في أحضان مؤسسة تربوية، ثم تصقله تقاليد جماعية قائمة على احترام الفكر والثقافة وتشجيع التفاعل وتبادل المعارف ووجهات النظر كوسيلة تواصل بين الأفراد، وكفعل وجود. بعد ذلك يتلقاه مناخ خصب يحتل فيه الخيال والذوق والذكاء والوعي النقدي... مواقع الصدارة. عن طريق القراءة ينتظم وجود الفرد ضمن جماعة، بل تتحدد شخصيته كمواطن وكإنسان لأن القراءة طريقه إلى مجموعة من الممارسات والحقوق الإجتماعية السياسية والمدنية، فكيف يمكن أن يمارس فرد غير مطلع على اللعبة الديمقراطية ؟ وفي مجتمع متطور يشعر المرء الذي لا يقرأ بأنه مواطن ناقص، وإنسان ناقص، لايحتل مكانة فعلية بين أقرانه، ولا يتمتع بحقوقه كاملة، ولا يشارك في حياة الجماعة، ولا يمتلك مفاتيح وجوده، أين نبحث عن القارئ العربي والحالة هكذا؟ بماذا نطالب القارئ في ضوء ما يوفره له واقعه الفكري، والتربوي، والمدني، والإنساني؟ أليس التقوقع والخوف والتطرف ورفض حق الآخر في الإختلاف من عواقب الشح الذي يفتك بحياتنا الفكرية عبر مختلف الأقطار والأقاليم ؟ هناك من يربط التطور بالتنمية الإقتصادية، لكن المعرفة هي الطريق إلى التنمية، والوعي حجر الأساس في أي مشروع تنموي، والثقافة هي أيضاً من شروط تحقيق الإزدهار والإستقرار والرقي. التلفزيونات العربية معظمها لا يصنع مواطنين، بل رعايا مستهلكة، وعيها محصور وأفقها ضيق وذوقها مكيف، الثقافة هي دائماً مادة ثانوية تقترن بالملل، وتقتصر على النخبة، في نظر المسؤولين على البرمجة والسياسات الإعلامية، في حين أن الثقافة لا تلغي المتعة أو التسلية، والقراءة ليست نقيض التشويق، ووسائل الإعلام السمعية البصرية يمكن أن تكون تكملة لنهضة فعلية في هذا المجال، ثم ماذا عن الكاتب الذي يقدس مهنته، ويحترم قارئه باذلاً ما في وسعه للوصول إليه ؟ ذلك الذي تصيبه حرفة الكتابة، إنه أيضاً سيصبح من السلع النادرة في هذا الزمن الصعب. شخصياً أشكر كل قارئ يقرأ ولو عناوين ما أكتب، واشكر خاصة أوفياء رشائيات , محمد عاشور الذي إن مر يوم ولم يتذكر بأن يقول لي مساء الخير أشعر أنني أخطأت في شيء ما، يرد علي كلما سألته هل قرأت المقال بأنه لا يجيب عن أسئلة من هذا النوع. وقارئتي الشابة المبدعة إشراق التي تمطرني برسائلها معلقة على كل كلمة أكتبها وسطر، فلولا مثابرتهم كل أسبوع على القراءة وصداقتهم لما استمر هذا الشغف على الكتابة.