اذ أعالج قفل هذا الباب ثانية لأفتحه او اواربه على استعمالاتنا اللغوية وما يعتريها من مكر بعضه راجع الى بنية اللغة نفسها وبعضه تحقن به اللغة من خارج بنيتها باتقان بالغ حتى لكأنه من بداهات اللغة نفسها فلا ارمي من وراء ذلك الى مراجعة ما استقرّ عليه علماء اللسان في بحوثهم وانما لأعالج او اطرق ابوابا اخرى (حتى لا نفاجأ اذا انفتحت علينا ابواب جهنم) عسى ان انظر منها الى مكر الصورة ومكر الصوت وحتى الى مكر الصمت، فأن يلوذ السيد رامسفيلد بالصمت في اعقاب تكشّف ما كان يجري في سجن ابوغريب ولا اظن احدا يقطع جازما بأنه لم يعد يجري، بعد، فليس لأنه لم يجد ما يواجه به العالم وانما لانه تكلّم الى العالم من خلال تلك الصور ابلغ ما يكون الكلام. حتى اذا رأينا بعين مجندة امريكية كدسا من اللحم العراقي الذكوري غفلنا (اذا نظرنا بنفس العين) ولو لبرهة عن المعنى المباشر للصورة: الإذلال، وسرّحنا المخيلة تبحث عن مقصد اللهو بتكديس الاجساد حية انها الصورة تمكر ولكن على الذاكرة ان تمكر ايضا، فلتلك الصورة مرجع في التاريخ الفوتوغرافي ذي المشاهد الفظيعة والأكثر قسوة من الواقع نفسه: صور الجثث اليهودية المكدسة في العراء زمن الحكم النازي... كان ثمة من يلتقط صور جثث يهودية عارية كدسها النازيون... وثمة الآن من يلتقط صور اجساد عراقية عربية عارية يكدسها مجندون امريكيون «اساؤوا المعاملة، ليس الا».. انها عبارة يستكمل بها مكر اللغة مكر الصورة فمكر الصمت. ولم يكن بالمستغرب ان يقول وزير الدفاع في مجلس الشيوخ ان من يقرأ ليس كمن يرى... برغم ان ما قرأه من تقارير مخابراته العسكرية صور لغوية لا نخالها الا امشاجا من صور تقلب السمع بصرا بعبارة اسلافنا العرب. ولا اظن الواحد منا ساذجا حتى يبرئ التاريخ البشري من المكر فهو تاريخ بشر وليس تاريخ ملائكة ولكن لا اظن بالمقابل الواحد منا غفلا حتى يقنع بتاريخ تنصب فيه اللغة فخاخها فاذا بالسيد شارون (ولا ادري الآن ما اذا كان استعمال لقب «السيد» راجعا الى تأدّب المتكلمين منا حتى عندما يتعلق الامر برامسفيلد او شارون او ما اذا كان راجعا الى مكر اللغة) يتحدث عن «التنازل» عن ارض لا يملكها لا في الضفة الغربية وغزة ولا حتى وراء ما يسمى بالخط الأخضر... ان تمكر اللغة، بمعنى ان تموّه وتخاتل من اجل ترويض هذا الحيوان او ذاك او من اجل تدجين هذه القوة الطبيعية الغاشمة او تلك على ما نحو كان يفعل اسلافنا الغابرون وقد عزت بهم التقنية فلاذوا باللغة وبالتصوير على جدران الكهوف، ومازلنا نترسّم اثر هذه الذهنية في كثير من استعمالاتنا اللغوية اليومية حتى اضحى هذا الأثر من صميم البنية الاستعارية للغة.. ان تمكر اللغة بمثل هذا المعنى فذاك مكر محمود. لكن ان تمكر اللغة، بمعنى ان تغالط وان تزيّف وان تبطل الحق وتحق الباطل فذاك لا علاقة له باعتباطية العلامة اللغوية بل له علاقة باعتباطية المعنى: معنى ان اتنازل لك عن ارضك مقابل ان تتنازل لي عن حقك في حماية ارضك... معنى ان اذلّك في عراق بريمر بجسديتك واعتذر لك عذرا هو هذه المرة بالفعل اقبح من ذنب وربما من كل ذنب، عذرا مفاده انه في عراق صدام حسين لم يكن يسمح اصلا بالحديث عن التعذيب.. وكأن «الجريمة» تبرر الجريمة!! ما بين عراقين يحفر السادة القادمون من هناك بمعاول الديمقراطية وفؤوس الحرية هوة تاريخية ثم لا يلبثون ان يجسروها ب «اننا سنحقق في الامر وبأن صدام حسين كان.. وكان.. في هذه اللحظة التاريخية الفارقة يضع ابو غريب الغرب كله حضارة وثقافة تحت المجهر..