رئيس الجمهورية يأذن بعرض مشروع نتقيح الفصل 411 من المجلة التجارية على مجلس الوزراء بداية الأسبوع المقبل    عضو هيئة الانتخابات: حسب الاجال الدستورية لا يمكن تجاوز يوم 23 أكتوبر 2024 كموعد أقصى لإجراء الانتخابات الرّئاسية    تونس حريصة على دعم مجالات التعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( أحمد الحشاني )    مسؤول باتحاد الفلاحين: أضاحي العيد متوفرة والأسعار رغم ارتفاعها تبقى "معقولة" إزاء كلفة الإنتاج    تونس تشارك في الدورة 3 للمنتدى الدولي نحو الجنوب بسورينتو الايطالية يومي 17 و18 ماي 2024    المنستير: إحداث اول شركة أهلية محلية لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين بجرجيس مخبأة منذ مدة (مصدر قضائي)    الترجي الرياضي يكتفي بالتعادل السلبي في رادس وحسم اللقب يتاجل الى لقاء الاياب في القاهرة    كاس تونس - النجم الساحلي يفوز على الاهلي الصفاقسي 1-صفر ويصعد الى ربع النهائي    الحرس الوطني: البحث عن 23 مفقودا في البحر شاركوا في عمليات إبحار خلسة من سواحل قربة    طقس... نزول بعض الأمطار بالشمال والمناطق الغربية    المنستير : انطلاق الاستشارة لتنفيذ الجزء الثالث من تهيئة متحف لمطة في ظرف أسبوع    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    ملتقى وطني للتكوين المهني    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    ليبيا: اشتباكات مسلّحة في الزاوية ونداءات لإخلاء السكان    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وداعا يا فارس الحريّة لك النشيد ولك الرايات
بعد رحيل المناضل الكبير جورج عدة:
نشر في الشعب يوم 22 - 11 - 2008

نزلت من قطار الضاحية الجنوبية وسرت على الرصيف المزدحم. عند باب المحطّة لحق بي جاري. سألني فأخبرته. أعلمته أنّي أعود من موكب جنازة. قال: إذن كنت بالجلاز. قلت: لا بل بمقبرة بورجل.
وسكتُّ وسكَتَ.
أعترف أنّي قصدت استفزازه.
لكنّه لم يسأل. لم يستوضح.
ثمّة ألف احتمال. لعلّه تحرّج من التدخّل أكثر في شؤوني الخاصة أو هو تصوّر أنّ لي صديقا أو قريبا، بالمصاهرة مثلا، من أصل أوروبي، من ثقافة ديانة عيسى... أو ربّما ظلّ ينتظر.
كان الصمت بيننا ثقيلا رغم قصره.
كنت متوتّرا.
أفكاري شتات تتقاذفها رياح شتّى...
أرزح تحت حمل بثقل الزمن الزاحف الجارف دأبا، الزمن هو نهر الأبدية الذي يمضي قدما لا يتوقف ولا يلتفت إلى الوراء...
ولكنّي التفت إلى الوراء ومسحت آلاف السنين بسرعة الضوء وتوقفت عند عديد المحطات منذ فجر الإنسان وظهور الأديان وبداية تشكّل الأوطان...
رأيت أجدادي الأمازيغ يعمّرون البلاد من جبال خمير إلى سهول باجة، إلى سباسب القصرين، إلى أبواب الصحراء نقاط ماء هي واحات بريّة مبثوثة على حواشي شطّ الجريد...
التفت ورأيت التاريخ بحجم شجرة الحياة مترامية الأغصان أذرعا وأيادي تحضن الإنسانية بائتلافاتها واختلافاتها.
الإنسانية المتعانقة المتعاركة، المتصاحبة المتحاربة، المتحّابة المتناحرة، المتقابلة المتقاتلة...
ولكن عندما تهتف الانسانية بمبادئها النبيلة وقيمها العظيمة يكون الائتلاف نداء القلوب الحبيبة، قلوب الأحرار، قلوب المحبّة والسلام...
كنت متماسكا متوتّرا، خاشعا غاضبا، هادئا ثائرا.
أنا العائد من موكب جنازة رجل لا تربطني به صلة أو قرابة ممّا تصوّر جاري أو تتصوّر أنت.
رجل لم أره في حياتي إلاّ بضع مرّات معدودات وصافحته مرّة ومررت، وجلست إليه وحادثته مرّة واحدة في بيته ولم تدم زيارتي له تلك أكثر من نصف ساعة لأنّه كان في فترة نقاهة على إثر مرض ألمّ به.
وألقيت بهذه الأحجية في وجه جاري. وسألته: ا هل عرفت في موكب جنازة من كنت؟
فاحتار في الأمر وتحيّر بشأني لأنّه لم يعهدني على هذه الشاكلة- وأجاب بكلّ إيجاز: الا.
قلت : األم يبلغك نعي السيّد جورج عدّة؟
قال: لا.
قلت: أتعرف من هو جورج عدّة؟
قال: لا.ب
قلت : اهل تتابع نشرات الأنباء على قناة التلفزة الرسمية؟. وهل تتصفح بمكتبك، بالإدارة، أهمّ الصحف بالبلاد؟
قال : انعم وأنظر في كلّ الجرائد التي توفّرها الإدارة . وهذا يندرج في إطار وظيفتي ولكنّ خبرا كهذا لم يعترضني أو ربّما لم أتفطّن إليه.
وأضاف في لهفة وحيرة ولعلّه بدأ يتبرّم: اوالآن هلاّ أخبرتني من هو جورج عدّة؟
قلت محتارا: امن أين أبدأ؟ بتعداد مناقبه أم بتصنيف فضائله؟ هل أعود إلى جذوره الضاربة بعيدا في تاريخ البلاد أم أحدّثك عن فروعه التي تمتدّ أذرعا وأيادي تحتضن الإنسانية في أبهى تجلّياتها؟
هو تونسي أب عن جدّ منذ آلاف السنين. ولقد عانى من الاضطهاد الاستعماري وعرف السجون من أجل استقلال البلاد وتحريرها من ربقة الاستعمار المباشر الفرنسي، كما وقف ويقف في صفّ المضطهدين من عموم الشعب الكادح.
هو بربري الأصل، عربي المنبت، يهودي التعميد، تونسي الجنسية، شيوعي الانتماء، إنساني الثقافة.
فهل في هذا ما يغضب يا جاري؟
فأخونا جورج، بل أبونا، أبو الأحرار، يقول مقدّما نفسه في بداية نصّ المحاضرة )1( التي أعدّها لمؤتمر دولي كان من المفروض أن يعقد بلبنان في ماي 2006 وقد تمّ تاجيله لسبب ما ثمّ كان الاعتداء السافر للكيان الصهيوني على لبنان، يقول بعد أن تحدّث عن أجدادنا البربر والحضارات التي تعاقبت على بلادنا والأديان التي انتشرت في ربوعنا، يقول:
ا ... بعض هؤلاء البربر أجدادي، تخلّوا عن وثنيتهم واعتنقوا ديانة موسى... وهكذا فإنّ تونس هي بلدي والشعب التونسي هو شعبي. لكنّ قناعتي الفلسفية ليست هي قناعات أمّي وأبي. كلّ النساء وكلّ الرجال في جميع البلدان الرّازحة تحت وطأة الظلم السياسي والاجتماعي الذي يمارسه حكّامهم أو المحتلون الأجانب هم أخواتي وإخواني، وأؤكّد لهم تضامني الكامل.
لقد اختار جورج عدّة طريق الحرية والنضال منذ شبابه الباكر.
ففي التاسعة عشرة من عمره، سنة ,1935 وانتخب أمينا عاما مساعدا للحزب الشيوعي التونسي وكان النضال من أجل استقلال البلاد ومن أجل حقوق العمال وتوعيتهم بمكانتهم في الدّورة الاقتصادية التي تدور بعرقهم وبالدّور التاريخي المنوط بعهدتهم في عمليتي التحرر الوطني والاجتماعي. ومع النضال كانت السجون والمحتشدات والمنافي...
منذ ركب صهوة الحرية ما نزل عن السرج وما اترك الحصان وحيدا)2(
فجورج معروف منذ عقود، منذ بداية السبعينيات خاصة، بتطوّعه لصالح العمال بالسهر على القيام بالدراسات في مجال مؤشر الأجور ومؤشر الأسعار، الورقة الأساسية للمفاوضات الاجتماعية دفاعا عن لقمة عيش الكادحين... ففي القاعة الكبرى بساحة محمد علي حاضر في هذه المسألة وتلك لتكوين النقابيين وتثقيفهم...
فالدنيا تراها عينان: عين الأعراف وعين العمال.
والاقتصاد السياسي مدرستان: مدرسة رأسمال ومدرسة فكر العمّال.
ولعلّ آخر دراسة أو محاضرة أو مساهمة له بالاتحاد كانت حول سيّئة الذكر االكنامب)3( .
زرته ببيته صحبة المناضلة الحقوقية)4( باسم المجموعة التي اعتزمت بعث االجمعية التونسية لمقاومة التعذيبب منبثقة عن االيوم الوطني لمناهضة التعذيب )5( أعلمناه بالمولود الجديد في النسيج الجمعياتي فباركه...
كان رجلا هادئا واثقا بسيطا عميقا يلبس جسما قديما ينبض به قلب شاب حيّ متّقد على الدوام.
بفخر أعترف أنّه شحنني وإلى الأمام دفعني وعلى الحقّ شجّعني.
ذات مساء ربيعي دافئ التقيته في أعلى درج أمام المسرح البلدي حيث كانت تنظّم سهرة غنائية متميّزة وممتازة، لا أتذكّر الآن مناسبتها أكانت 8 مارس أم يوم الأرض أم عيد العمّال العالمي؟ تهافت كلّ من كان حولي، من أمامي وخلفي لمصافحته.
ما أروعها قبضة يد ثابتة صادقة وفية.
انتمى إلى فكر هو نوّارة الفكر الإنساني، نهل من زبدة تجارب الشعوب...
فاتضحت له السبل ولم يَطَلْهُ سواد الغربان ففي سرب الحمام طار.
لمّا زُرِعَ الكيانُ الصهيوني بالحديد والنار ثار. ولمّا ادعت الصهيونية أنّها حركة يهودية... نفى وكذّب واحتجّ وفضح وصاح: ها أنا ذا في وطني. وكتب:
... لأؤكّد مرّة أخرى على أنّ السلام الحقيقي والطمأنينة والأمن والحرية والمساواة والعدالة لا يمكن تحقيقها واستتبابها بصفة طبيعية ومشروعة في هذا الشرق الأوسط الذي يتعرّض للعدوان والنهب والهيمنة والاحتلال الأجنبي إلاّ بالتحرير الكامل لفلسطين من الحدود اللبنانية الفلسطينية إلى إيلات على البحر الأحمر، ومن حيفا إلى القدس، ومن تل أبيب إلى أريحا، ومن نابلس إلى غزّة، إلاّ إذا استعاد كلّ الفلسطينيين وكلّ اللاجئين منهم في عديد البلدان من العالم وبصورة كاملة ممتلكاتهم، ومنازلهم القديمة ومقابرهم وأراضيهم ومصالحهم العمومية ).6(
رغم هذا الوضوح، رغم هذه الشجاعة، رغم هذا الموقف المبدئي الجريء يوجد من لا يتورّع على اتهامه بالصهيونية.
يا لعمى البصيرة
في ,1967 لمّا حلّت بنا النكسة في فلسطين وفي الشرق عامة هبّ بعضهم هنا للاعتداء على إخواننا الذين هم من أصل بربري ممن ورثوا اليهودية عن أجدادهم كما ورث آخرون الإسلام عن.. نفس الأجداد. ونحن هنا في تونس نذكر جميعا ذلك الحدث المؤلم، المقرف، المزعج، المقيت،
كيف يضع المرء إصبعه في عينه فيفقؤها ويصيح صيحة.. المنتصر؟...
يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدوّ بعدوّه.
في بداية الثمانينيات انتخب السيّد سارج عدّة (نجل الراحل عنّا جورج) عضوا بالهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فهبّت حركة تدّعي الإسلام اتجاها وروّجت عريضة تحتجّ فيها على ذلك متّهمة الرّجل بكونه .. يهوديا. لذلك لا يجوز له، في شرعة هذه الحركة، الترشّح لعضوية المنظمات ولا يحقّ للمواطنين، عفوا للرعايا، انتخابه ومنحه الثقة.
يا للدعاة الدواعي المدّعين... مرّة أخرى الإصبع في العين...
في بداية التسعينيات هاجم مجهولون من الشباب االملتحيب الغاضب بيت جورج عدّة وألقى عليه زجاجة حارقة كردّ فعل على جريمة اقترفها الكيان الصهيوني في حقّ الشعب الفلسطيني هناك...
ألا أيّها الغاضب الحانق المنفعل ممّا يحدث هناك إنّك أضعت الطريق ولم تقرأ العلامات أتلفت الخطوة وجهلت أصلك وفصلك واختلط عليك عدوّك من الصديق بل من أخيك.
وفي نفس ظروف الظلام، جدّ اعتداء شبيه كان ضحيته هذه المرّة - السيّد جلبار النقّاش )7( المناضل الشيوعي الذي قضى زهرة شبابه في السجون التونسية من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية ونشر مبادئ الاشتراكية وهو بلا جدال التونسي أبا عن جدّ منذ آلاف السنينولكنّ تهمته هذه المرّة أنّه يهودي
وإذا كان خلفاء وفقهاء وأيمّة ومسلمو القرون الوسطى كانوا في ضلال وظلام وسبات ونادى أكثر من مناد بالنهضة... فعن أيّ انهضةب يتحدّثون؟ إنّها النكسة.
يا للنكسة الكبرى
هل تعرف أنّ أعدادا غفيرة من التونسيين اليهود كانت تعيش بتونس وأريانة وحلق الوادي ... وجربة... وقابس...
أين هم الآن؟
روى الأستاذ يوسف الصدّيق )8( في تغطيته لحرب الجنوب بلبنان لمّا أرسلته إحدى الصحف التونسية في أواخر السبعينيات إلى هناك، أنّ سيّارة الصحفيين توغلت في أرض الميدان فأوقفتها كتيبة إسرائيلية ... وأقبل عليه عدد من الجنود الإسرائيليين يسألونه عن.. البلاد، عن الأهل والأحباب، عن سهرات الصيف بحلق الوادي...
ولقد تقدّم بعض أصدقاء جلبار ب بالنصحب وأشاروا عليه لتجنّب الأذى بالهجرة للعيش بفرنسا وهو تونسي لا يحمل الجنسية الفرنسية- وذات يوم ونظرا لمرارة الأذى وإلحاح الأصدقاء وافق على الهجرة ولكنّه لم يهنأ ليلتها لقد كان القرار حنظلا سمّا ترياقا... ليلتها أصيب بنكسة قلبية كادت أن تودي بحياته.
يا للنكسة
أليست نكسة فلسطين، نكسة العرب، نكسة الوطن والمواطنة،،، في جانب هام منها، من نكسة قلب جلبار؟
ورغم كلّ ذلك لم يتزعزع إيمان السيّد جورج عدّة بمبادئه العظيمة ولم يتخلّ عن مواقفه ولم يتردّد لحظة في الوقوف إلى جانب إخوانه الفلسطينيين في كلّ مناسبة ككلّ مرّة.
ففي 1997 مثلا، وبمناسبة مائوية مؤتمر الصهيونية بمدينة ابالب السويسرية، اقترح جورج عدّة على أكادميين وشخصيات عالمية وعشرات آخرين الإمضاء على بيان حرّره ووضعه تحت عنوان : اليوم يتكلّم المناهضون للصهيونية . وممّا جاء في هذا البيان)9(
انحن نساء ورجال من جنسيات وديانات وآراء مختلفة، نعلن رسميا بمناسبة مئوية المؤتمر الصهيوني بمدينة ابالب أنّه لا وجود لبشعب يهوديب ولبأمّة يهوديةب ولبجنس يهوديب. لا وجود لباليهودب ولكن هناك فرنسيون وبولونيون وروس ومغاربة ويمنيون وأثيوبيون ومواطنون من الولايات المتحدة الأمريكية أو يابانيون من ديانة عبرية أو من أصول عبادية عبرانية. بعضهم مثل البولونيين، والبلطيقيين والروس أو المجريين ينحدرون من القوقازيين الخزر المتهودين. أخرون مثل المغاربة أو التونسيين منحدرون من البربر المتهوّدين أو مثل اليمنيين الذين ينحدرون من العرب المتهودينب
أيّها الغاضب الحاقد الساخط الناقم،،، يا أخي، يا ابن أمّي
هذا جورج يمدّ إليك ملعقة الشهد يتْقاطر عسلا غذاء، دواء، شفاء، فكيف تحمّي السفود؟ إنّ العين التي نحوها تصوّب هي عينك الباصرة، هي البصيرة والبيت الذي بالنار ترمي هو بيت فلسطين، هو بيت الكادحين، هو بيت الحرية أليس هو بيتك يا عدوّ نفسك؟
لعلّك لست المسؤول الوحيد عن عمائك. فأنت نتاج مدرسة ما وبرامج تعليمية ما وإعلام ما وثقافة سائدة ما... ولكنّك رغم كلّ ذلك تظلّ المسؤول الأوّل عن نفسك تثقيفا وتوعية لتخرج من كابوسك إلى النور، إلى الهواء، إلى الساحة، إلى معترك الحياة بعيدا عن ثقافة القبور والموت والأوهام.
بالأمس رحل عنّا أخونا، أبونا، حبيبنا، صديقنا، رفيقنا جورج وكان أهله وأصدقاؤه يستعدّون للاحتفال بعيد ميلاده الثاني والتسعين.
يا لها من مسيرة عظيمة سِرْتَهَا واثق الخطو مع الحشود ولكنّك رفضت ثقافة القطيع ودفعت ثمن حريتك ومبادئك وإنسانيتك في المحتشدات...
كم كان الثمن زهيدا...
وكم كان خيارك صائبا...
في عيد ميلادك ترحل عنّا
وغدا، غرّة أكتوبر، نحيي نحن بضاحيتنا، حمّام الشطّ، الذكرى الثالثة والعشرين للغارة الصهيونية الوحشية على مقرّ القيادة الفلسطينية...
وتتواصل معاناة الكادحين بين الأجور المجمّدة والأسعار الملتهبة والمفاوضات المتعثّرة...
تغادرنا وتتواصل الحياة والحياة قوامها الصراع، الصراع في كلّ مجال : الاجتماعي والوطني والقومي والأممي. ولكنّ صورتك لن تغادرنا، ستظلّ دوما معنا حاضرة، ملهمة، في الذاكرة حيّة، نابضة...
إليك أبا ليلى، إليك حبّي واحترامي.
لن آتيك للاستشارة والاستنارة حول قضايا الإنسان والحرية ولكنّك ستظلّ دوما بمسيرتك الطويلة وتجربتك الثرية وعطائك الحاتمي)10( نبراسا وقّادا منقطع النظير تنير دروبنا التي أمامنا ونستنير بك الدروب الفائتة دروبا لم تطأها أقدام بعض من عايشوك أيام المحن الكبرى رغم قيادتهم وسيادتهم.
تركت لهم القيادة والسيادة وانفردت بالريادة.
الكثير منهم ركب زبد اللّغو وتصدّر كتب التاريخ المزوّرة وركبت الموجة العتيّة فتعاليت في تواضع واعتليت سدّة الإنسانية المجيدة لأنّك بكلّ بساطة فهمتها وبقيت وفيا للعامل، للفلاح، للكادح، للشاقي، للباقي،،، لعموم الشعب الشغّيل. ظللت متمترسا في خندق الحرية والعدالة والأخوّة والسلام . لم تزحزحك رياح الردّة العاتية ولم تنل من إيمانك بالحقّ رعود الزيف وبروق الزيغ ..
لنا منك درس بل دروس في التحرر الوطني والاجتماعي وفي القضية القومية الأولى وفي التضامن الأممي، هي دروس قد يتوفّر عنها في كتب التاريخ والمقالات والدراسات والسير، ولكنّها في تجربتك الطويلة الفريدة جاءت مجسّدة، مرصّعة بالبساطة والتواضع والصدق والوفاء والحبّ...
وظلّت البلاد بلادك عزيزة رغم الجور وظلّ الأهل أهلك كراما رغم.. ظلامهم..
أبا ليلى
لك نشيد بني أمّك نغما من وجع الشابي يتحدّى الأقدار ويبذر إرادة الحياة حُبًّا ولاّدا وحَبًّا معطاء في طين الشعب الخلاّق... تجسّده راية حمراء بنجمها وهلالها هي لحافك في نومتك الأخيرة.
ولك منّي ومن قلوب واجفة حولك واقفة إليك حانية لحظة تشييعك، لك نشيد أخواتك وإخوانك، ضحايا الاضطهاد من هنا ومن هناك، ضحايا جوع الاضطرار من كلّ أمم الدنيا، من الذين ما زالوا على العهد ينفخون في بركان الفكر، ولن يكفّوا، حتّى تشرق الشمس كلّ حين...
ومع النشيد رايته القانية مدبوغة بدم العبيد من ملاّحة البصرة وبناة الأهرام وبسبارتكيسب الرومان وبكومينارب باريز ومن دم أبناء العبيد، من هنا، من دم الحامي والكوكي والفاضل ونبيل ) ...11( راية قرمزية الحمرة موشّاة بضياء الحرية وابتسامة العدالة وخفقة الحبّ وبياض السلام وتناسب الجمال... هي رايتك، رايتنا هي جواز عبورك إلى الإنسانية المجيدة الخالدة.
نم هانئا يا فارس الحرية، يا رائد الدروب الصعبة فمثلك لم ولن يمرّ مرور الظلّ بل أكثر من أثر تركت وأكثر من وشم رسمت وأكثر من بذر غرست.
نم هانئا فعهدا قطعا لن نتوقف عن النفخ في الكور حتى يذيب الدفء جليد كلّ القلوب وينير اللهب كلّ الدروب للكادحات للكادحين لكلّ الشعوب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.