عاجل : انقطاع التيار الكهربائي بهذه المناطق    السيارات الإدارية : ارتفاع في المخالفات و هذه التفاصيل    هيئة الانتخابات تشرع غدا في تحيين السجل الانتخابي    روعة التليلي تحصد الذهب في اليابان    اليوم : وقفة احتجاجية للتنديد بالتدخل الاجنبي و بتوطين أفارقة جنوب الصحراء    نابل: تضرّر ما يقارب 1500 هكتار : «الترستيزا» مرض خفي يهدّد قطاع القوارص    بفضل صادرات زيت الزيتون والتّمور ومنتجات البحر; الميزان التجاري الغذائي يحقّق فائضا    يهم مُربّيي الماشية: 30 مليون دينار لتمويل اقتناء الأعلاف    صفاقس صالون 14 للفلاحة والصناعات الغذائية تكريم القنصل العام الجزائري ووفد الجزائر    الأونروا: 800 ألف فروا من رفح يعيشون بالطرقات.. والمناطق الآمنة "ادعاء كاذب"    إطلاق نار واشتباكات قرب القصر الرئاسي في كينشاسا    صيف 2024: 50 درجة منتظرة و شبح الحرائق حاضر    علماء يكشفون : العالم مهدد بموجة أعاصير وكوارث طبيعية    إضراب بالمركب الفلاحي وضيعة رأس العين ومركب الدواجن    أخبار النادي الإفريقي .. البنزرتي «يثور» على اللاعبين واتّهامات للتحكيم    طقس اليوم ...امطار مع تساقط البرد    في عيده ال84.. صور عادل إمام تتصدر مواقع التواصل    بغداد بونجاح يحسم وجهته المقبلة    الجمعية التونسية "المعالم والمواقع" تختتم تظاهرة شهر التراث الفلسطيني    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    اتحاد الفلاحين: ''أسعار أضاحي العيد تُعتبر معقولة''    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    في إطار تظاهرة ثقافية كبيرة .. «عاد الفينيقيون» فعادت الحياة للموقع الأثري بأوتيك    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    فقدان 23 تونسيا شاركو في عملية ''حرقة ''    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    نهائي دوري ابطال إفريقيا: التشكيلة المتوقعة للترجي والنادي الاهلي    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    العثور على كلاشينكوف في غابة زيتون بهذه الجهة    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    داء الكلب في تونس بالأرقام    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أعترف أنّي أخطأت (الحلقة الأولى)
قصة عمر يرويها خير الدين الصالحي أعدّها للنشر: محمد العروسي بن صالح
نشر في الشعب يوم 02 - 07 - 2011

«أعترف انني أخطأت» عنوان يصلح لكتاب يصدر في زمن الثورة أنا اخترت العنوان وبحكم معرفتي لشخص الأخ خير الدين الصالحي، أثق بأنّه يوافق عليه.
في حديث مطوّل لي معه جرى على عدة ساعات وأيام، أتينا فيه على قصة عمر الأخ خير الدين، اعترف لي بكل شجاعة وبكل مسؤولية أنّه اخطأ في بعض المسائل وأنّه كلّما تذكرها، أنّب نفسه على إتيانها والانخراط فيها وحتى لا نحرق المراحل، ندعو القراء إلى متابعة حلقات القصة حتى يكتشفوا تلك الاخطاء ويروا بما هم حاكمون على صاحبها.
أعود إلى العنوان فأقول إنّه ينسجم حقيقة مع الثورة ومع الأدب الذي أفرزتاه خير الدين الصالحي سعد بثورة 14 جانفي وباركها وهلل لها ويعتبر أنّ جانبا من نضالاته وعذاباته في السجن أدّت، رغم بعدها الزمني، إلى انفجار البركان الذي عصف بالدكتاتور وأطاح بكل الأصنام.
يذكر ويلات الاستعمار وصعوبات بداية الاستقلال، ويذكر أيضا مختلف مؤتمرات الاتحاد، وكذلك أزماته وقد كان فاعلا في أغلبها.
عرف حشاد صغيرا، تعرّف على أحمد التليلي وأحمد بن صالح وعمل طويلا، طويلا مع الحبيب عاشور قام بينهما حلف صلب، قوي جدّا، لا أحد استطاع ان يكسرهُ أو يخترقه اختلفا مرة واحدة فافترقا إلى الأبد. أمر يذكر سي خير الدين بمرارة ويعترف انّ فيه خطأ ما من جانبه لا محالة ومن جانب رفيق العمر أيضا.
قصة جديرة بالثورة وبأدب الثورة كما أسلفنا ويستحق صاحبها كل التقدير خلافا لبعض الذين عاثوا في البلاد فسادا وافسادا وركبوا الثورة »لينقّوا أثوابهم من الأدران« وليقدّموا أنفسهم للأجيال الجديدة على قدر كبير من النظافة والتعفف وعدم تحمّل مسؤولية بعض الافعال، ألقوها على عاتق الزعيم الحبيب بورقيبة، وعلى عاتق الزعيم صالح بن يوسف، وعلى عاتق الزعيم الحبيب عاشور، وعلى عاتق آخرين كثر. أما هم... أما هم...
قمّة اللامسؤولية، حتّى لا نقول أكثر. لا يهمّ، هرمنا كما قال أحمد الحفناوي، لكن مازلنا على قيد الحياة مع كثيرين من كبار القوم لنفي كل ذي حقّ هقّّه، ونصطفي الرّجال من الرجال.
تابعوا القصة واحكموا على الرجل.
❊ سي خير الدين، لو نبدأ من البداية!
كنت تلميذا في الثانوي خلال السنة الدراسية 1952 1953 لمّا حصلت عملية اغتيال الزعيم النقابي والوطني فرحات حشاد، واحتجاجا على تلك العملية وقعت اضرابات عامة وعارمة في باجة على غرار بقية جهات البلاد.
كنت شابا يافعا، ناشطا، واعيا رغم صغر سنّي بالوضع السائد بسبب الاستعمار، ولذلك اندفعت للمشاركة في الاضراب الذي شنّه التلاميذ والمدرّسون في معهدنا، احتجاجا على عملية الاغتيال ولكن أيضا مساهمة في مقاومة الاحتلال، خاصة وأنّ المعمرين كانوا كثيرين في جهتنا ونلمس حضورهم أكثر من غيرنا في بقية الجهات.
وطبعا ردّ الاستعمار على تلك الحركة الاحتجاجية بشدّة وقسوة وتمثّل ردّه بالنسبة إليّ في طردي من المعهد.
ولإنّ العلم والتعلّم سلاح، فقد بادرت بالتسجيل في المدرسة العالمية (Ecole Universelle) التي تابعت فيها الدراسة بالمراسلة حتى الباكالوريا.
لكن الدراسة بهذا الشكل كانت توفّر لي وقت فراغ واسع كنت استغلّه مع البعض من أصدقائي في التجوال عبر أنهج مدينة باجة.
وذات يوم لما كنا مارّين من نهج إيطاليا الذي أصبح يسمّى نهج فرحات حشاد، استوقفنا شخص نحبّه ونحترمه ودعانا إلى المشاركة معه في بعض الانشطة التي شرحها لنا.
إنّه سي محمد الخذيري، وكان يومها واقفا أمام مقر الاتحاد الجهوي للشغل بباجة وهو كاتبه العام، جاءه من قطاع السكك الحديدية، أمّا النشاط الذي قصده بشكل خاص فهو أن نكوّن الشبيبة الشغيلة، وفعلا تم ذلك إضافة الى أننا كنا ننشط في الكشافة ونشارك في الاضرابات وكل التحركات التي تتمّ غالبا في إطار الحركة الوطنية.
ولأنّ الأرضية خصبة والتربة جاهزة، فقد استجبنا لطلب سي محمد الخذيري بعد 3 أيام فقط وأقمنا شبيبتنا الشغّيلة صلب الاتحاد الجهوي. كان معي عدّة إخوان، أذكر منهم على سبيل المثال الأخ صلاح الدين الزوابي والأخ الهاشمي الدخلي والأخ خميس الغربي وآخرين نسيتهم الآن، وقد قمنا بعدّة أنشطة.
وأذكر أنّ سي محمد الخذيري كان يكلفني ببعض المهمات ومنها أنّه أرسلني عديد المرات إلى صفاقس وتونس العاصمة طبعا للإتصال بالإخوة النقابيين ونقل معلومات إليهم، كما ذهبت ذات مرة إلى قرقنة وأذكر بالمناسبة أنّى كدت ألْقى حتفي في تلك الرحلة إثر زوبعة عاتية فاجأتنا ونحن على متن المركب الرابط بين صفاقس وقرقنة.
❊ هل كنت تعمل آنذاك؟
لا، مازلت لم أعمل، بل أتابع دراستي بالمراسلة ولكن كنت أقضّي كامل أوقات فراغي في مقرّ الاتحاد أساعد سي محمد الخذيري الكاتب العام في عدة مسائل.
ويجب أن أوضح هنا أنّ أغلب أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد الجهوي كانوا من أسرة التعليم ومنهم الأخ علي عبد الجواد الذي عرفه المعلمون في السعيدية قريبا من باردو حيث أنشأ جمعية لرعاية أيتام رجال التعليم، ومنهم أيضا الأخ محمد الجمل الذي أصبح في وقت من الأوقات كاتبا عاما للجنة التنسيق بصفاقس لكن هؤلاء غادروا باجة في سنة 1954 بحيث توفّرت لنا فرصة ذهبية لملء الفراغ الذي تركه هؤلاء فاقتربنا أكثر فأكثر من الأخ محمد الخذيري ونشطنا معه وكنّا نحضر المفاوضات التي كان يجريها مع الادارات ومع أرباب العمل، وخاصة مع الفلاحين سواء كانوا تونسيين أو معمرين فرنسيين، لأنّ باجة منطقة فلاحية بالأساس وتعدّ عمّالا بالآلاف، وكانوا يتعرضون لعدّة مشاكل فيلتجؤون للاتحاد للدفاع عنهم يجب أن أذكر هنا ان سي محمد الخذيري كان يوصي العمال المضربين بتأمين علف الحيوانات وجمع الحليب وعدم تعريض الإنتاج للتلف، ومعلوم ان نقابة الأرض كانت من أقوى النقابات في الجهة ان لم تكن أقواها، بالنظر إلى وفرة عدد العمال المشتغلين في قطاع الفلاحة، ومعها نقابات أخرى قوية منها نقابة الاشغال العامة ونقابة الصحة.
ورغم هذا، ورغم وجود عدة أسماء، فإنني أعتبر أنّ الحظّ لعب دوره الى جانبي فتمكنت نظرا إلى نشاطي الدائم في مقرّ الاتحاد من الحصول على نيابة في مؤتمر الاتحاد العام الذي انعقد يوم 1 جويلية 1954 وأسفر عن انتخاب الأخ أحمد بن صالح أمينا عاما. وقد مكنني حضوري ذلك المؤتمر من التعرف على عدد أوفر من النقابيين من جهات مختلفة وساعدني بالخصوص على فهم أشمل لكَمٍّ كبير من المسائل، خاصة أنّه بعد شهر فقط، اي يوم 31 جويلية 1954 جاء إلى تونس رئيس الحكومة الفرنسية منداس فرانس وأعلن الاستقلال الداخلي فأدركت أنّ الأمور ستتغيّر خاصة وان الضغط الإستعماري أخذ بالتراجع وأنّّه تمّ اطلاق سراح عديد المساجين وأصبح الحديث دائرًا حول الاستقلال وعلى أنّ أيام الاستعمار أصبحت معدودة، فكنّا نشعر بالنخوة ونعتزّ بمواقفنا خاصة في الاتحاد وأن الزعيم حشاد خدم البلاد حيّا وميتا.
حتى على المستوى الشخصي، تحسنت أموري فوقع انتدابي معلّما في اكتوبر 1954، وزادني شغلي قناعة بالعمل النقابي والتصاقا بالاتحاد واندفاعا لخدمة البلاد، وأذكر هنا بكثير من التأثر ذلك اليوم المشهود (1 جوان 55) الذي عاد فيه الزعيم الحبيب بورقيبة وجرى له استقبال منقطع النظير وقد شاركت فيه مع المئات من النقابيين والعمّال عن جهة باجة.
❊ وفي الاتحاد كيف كانت تسير الأمور؟
طبعا، أخذ الاتحاد يسترجع أنفاسه ويستعيد مكانه شيئا فشيئا وينظم صفوفه ويؤسس العديد من الهياكل الجديدة.
وفي هذا الإطار، كان الأمين العام الجديد للاتحاد الأخ أحمد بن صالح يعقد الاجتماع تلو الآخر ويتحول الى الجهات للالتقاء بالقواعد، وفعلا أشرف على سلسلة من اللقاءات في كامل ولاية باجة، حضرتها كلّّها وكان أغلبها للاعداد لمؤتمر الاتحاد الجهوي الذي انعقد في غضون سنة 1955 وتحديدا بمناسبة احدى العطل المدرسية وأذكر أنّ أحمد بن صالح سأل سي محمد الخذيري عن المترشحين المحتملين لعضوية الهيئة الإدارية الجهوية الجديدة فقال له: عندي عدد من الشبان وكان يقصدني ومعي إخواني وزملائي الهاشمي الدخلي وخميس الغربي وصلاح الدين الزوابي، وفعلا ترشحنا ونجحنا ضمن هيئة إدارية تركبت من 15 عضوا من بينهم وقع انتخاب أعضاء المكتب التنفيذي وعددهم 7، فكان سي محمد الخذيري كاتبا عاما وأخوكم خير الدين الصالحي كاتبا عاما مساعدا أوّل، أذكر أيضا بمناسبة مؤتمر الاتحاد الجهوي المذكور والذي أشرف عليه الأمين العام أحمد بن صالح أنّه ألقى خطابا مسهبا أطلق فيه لأوّل مرة لفظة مستكرشين.
بذلك، انطلقت مرحلة جديدة في حياتي، فزاد النشاط النقابي، وزاد التنقل إلى العاصمة وخاصة لحضور اجتماعات المجلس القومي الذي كان يتركب من أعضاء الهيئة الإدارية وعددهم 21 يضاف إليهم الكاتب العام وأمين المال في الاتحادات الجهوية والكاتب العام في الاتحادات المحلية ورغم أني لم أكن أمين مال، فكنت أنا من يحضر إلى جانب سي محمد الخذيري، لأنّ أمين المال في ذلك الوقت كان يتنازل لفائدتي.
والحقيقة أنّ هذه الاجتماعات هي التي وفّرت لي فرصة التعرف على العديد من المناضلين والانسجام معهم في العديد من المسائل التي كانت تطرح أمامنا فنناقش بحماس الشباب ومن أبرز المسائل التي أخذت وقتا طويلا في النقاش هي مسألة المشاركة في عضوية الحكومة وقبول مناصب إدارية إمّا على رأس الشركات او في الإدارات المركزية يجب أن نعلم هنا ان الزعيم الحبيب بورقيبة أصبح رئيسا للحكومة وشرع في بناء الدولة الجديدة وكان في حاجة الى مزيد من الاطارات والكفاءات وكان في الاتحاد الكثير من هؤلاء.
حينئذ كان هناك موقفان، الأول قال نعم للمشاركة ومن أصحابه الأمين العام أحمد بن صالح والثاني رفض المشاركة ومن أقطابه الأخ محمد كريّم الذي استحضر موقف حشاد من الموضوع حيث يعتبر أنّ ممارسة السلطة تفسد طباع النقابيين وتبعدهم عن العمّال وعن مطالبهم وواقعهم.
وهنا يذكر لحشّاد أنّه لا يذهب وحيدا لمقابلة مسؤول حكومي، فقد كان يشترط أن يرافقه وجوبا عضو أو أكثر من القيادة وأن يرافقه كاتب عام أو عضو النقابة الأساسية المعنية بمطلب ما كما كان المرحوم حشاد يفرض على الكتاب العامين للنقابات والجامعات والاتحادات الجهوية والمحلية أن يكونوا آخر من يحصل على الترقية إذا ما وقعت الاستجابة لمطلب في الغرض.
إذن، كان الموقف من المشاركة في الحكومة أو الإدارة سببا في مشاكل أخذت تتفاقم شيئا فشيئا، وقد كان من نتيجتها مثلا أنّ الأخ محمد كريم ترك العاصمة وعاد الى صفاقس وأنّ الأخ أحمد بن صالح أخذ بإحكام السيطرة على الإتحاد خاصة في غياب المنافسين المعروفين مثل أحمد التليلي والحبيب عاشور الذي كان مبعدا في باجة تنفيذًا لحكم النفي المسلط عليه من جرّاء إضراب 5 أوت 1947.
ورغم عدم اطلاعنا الكافي على كل الأمور، فإننا كنا نشعر بأنّ هناك خلافات بين الأقطاب، وقد انكشفت لنا بشكل جليّ في مؤتمر سنة 1956.
❊ هل شاركت فيه نائبًا؟
نعم، شاركت بنيابة عن قطاع الفلاحة وخاصة في اللجان ورأيت بعض الخصومات ومنها تلك التي حسمها أمين مال الاتحاد آنذاك عبد الله فرحات بالقوة، أيّ بالتهديد والوعيد، لأنّه كان في نفس الوقت، مدير ديوان الزعيم الحبيب بورقيبة، رئيس الحكومة وكانت أشغال المؤتمر تدور صباحا في قاعة البالماريوم وعشية في المسرح البلدي، ومن الصدف أنّ قاعة البالماريوم للسينما كانت في تلك الأيام بالذات تعرض شريطا بعنوان »عالم الصمت« بينما كانت أشغال المؤتمر سواء في نفس القاعة أو في المسرح تشهد صخبا كبيرا وتباينا في الآراء بين مجموعتين رئيسيتين الاولى زعيمها أحمد بن صالح والثانية زعيمها الحبيب عاشور.
والواقع ان الهيمنة كانت للمجموعة الأولى التي رتبت أمورها حتّى في إدارة الاشغال حيث ترأس المؤتمر الأخ محمود الخياري وكان بالطبع منحازا إلى المجموعة الأولى التي سيطرت بالكامل على المؤتمر وشارفت على الفوز بكلّ المقاعد..
لكن الأخ عبد العزيز بوراوي أفسد عليها برنامجها، فقد برز بشكل لافت في هذا المؤتمر حيث كان خلال أيام المؤتمر يشارك في النقاش ويطيل الحديث وخاصة بإثارة المسائل المالية، وهذه مادة يحبّ الناس ان يسمعوا الحديث فيها خاصة أنّه أشار الى أنّّ بعض العمليات المالية سجلت على ورق لفّ السكر. هذه المناورة ضمنت لعبد العزيز بوراوي والحبيب عاشور ومحمود الغول الفوز في الانتخابات لكنّ بقيّة أعضاء قائمتهم فشلوا فكانوا أقلية وتحديدا ثلاثة من 21 عضوا، في الهيئة الإدارية ونظرا لهذا الوضع فإنهم لم يشاركوا فيما بعد في انتخاب أعضاء المكتب التنفيذي.
ويبدو لي أنّ سي الحبيب، بدأ منذ ذلك التاريخ يفكّر في الانشقاق وتكوين الاتحاد التونسي للشغل.
❊ سي خير الدين، قبل أن نصل إلى الانشقاق، تميز مؤتمر 56 بالتقرير الاقتصادي الاجتماعي...
لا تقرير ولا هم يحزنون.
❊ كيف ذلك؟
هي وثيقة أعدّها أستاذ فرنسي وقد تولّى الأخ مصطفى الفيلالي نقلها الى العربية وبامكانكم إلقاء السؤال عليه.
❊ ولكن الحزب تبنّاه في مؤتمر بصفاقس سنة 1955
أمامكم الاخ مصطفى الفيلالي فاسألوه.
❊ لأوّل مرة أسمع حكما قاسيا على ذلك التقرير الذي اعتمد في النهاية
سمّوه ما شئتم، ولكن القواعد لم تناقشه ولم تشارك في إعداده، والدليل أنّه لما طبّق، رجع بالوبال على البلاد والعباد وحتى على الاتحاد.
❊ طيب، نعود إلى الانشقاق، كيف حصل ولماذا؟
أعتقد أنّ فكرة الانشقاق نشأت أثناء المؤتمر.
❊ هل نشأت عنده أم وقع الإيحاء له بها، خاصة وأنّ الزعيم بورقيبة لم يكن ينظر بعين الرّضى لا إلى الاتحاد كمنظمة أقوى من حزبه، ولا إلى أحمد بن صالح باعتباره منافسًا له...
وارد جدّا أن تكون الفكرة جاهزة كسيناريو بديل، ويؤيدها ما سمعته شخصيا من بورقيبة نفسه لما جاء يحضر حفل تدشين مقر الاتحاد التونسي للشغل (UTT) في 9 نهج اليونان حيث سلّم المفتاح للحبيب عاشور وقال له: احتفظ به إلى أن أطلبه منك.
مهما يكن من أمر فإنّ اتحادات صفاقس وباجة كانت هي أوّل التشكيلات التي التحقت بالاتحاد المنشق، وقد انعقدت أولى الجلسات الخاصة بجهة باجة عند صالح بولكباش وقد سارعنا الى فتح مقر الاتحاد المنشق في باجة ونفذنا عملنا ليلا حتى نستبق الوالي انذاك، ومن هو غير البشير بلاغة، أحد أنصار أحمد بن صالح، وهو الذي أصبح أمينا عاما للاتحاد سنة 1965 بعد اتهام عاشور في قضية الباخرة وابعاده من الاتحاد، والواقع أنّ المرحوم محمود الكافي، رئيس بلدية باجة ساعدنا كثيرا في عملنا كما دعمنا الحزب وقد شرعنا في عقد الاجتماعات لشرح الموقف ومنها اجتماع كبير في باجة. أمّا في الكاف، فلقد لقينا مقاومة شديدة ولم يساندنا إلاّ الأخ التيجاني عبيد الذي نشأت بينه وبين عاشور علاقة وطيدة منذ ذلك التاريخ، فيما بقيت جندوبة في الاتحاد العام.
ثم بعد مدة من تأسيس الاتحاد التونسي، عيّن الاخ الحبيب عاشور عضوا في الديوان السياسي للحزب، وأذكر أننا لما انتقدناه على قبوله التعيين، قال ان بورقيبة هو من فرض عليه ذلك، علما وأنّ عبد الله فرحات وأحمد التليلي وهما من الاتحاد العام كانا في ذلك الوقت عضوين في الديوان السياسي.
والحقيقة ان الوضع الناشئ عن تلك الظروف ساعدني على البروز بشكل لافت للانتباه، بإعتباري كنت شابا مندفعا للعمل بحماس كبير وأذكر ان هذ البروز جلب لي مشاكل من الضفّة الاخرى، حيث انني كنت معلّما في مدرسة »المنشار« القريبة من باجة وفي شهر أكتوبر من تلك السنة (56) لم يقع تأكيد تسميتي في مدرستي بل إنّه تم تعيين زميل آخر مكاني.
لم أعرف السبب خاصة وأنني كنت من أفضل المعلمين ان لم أكن أفضلهم. لذلك ذهبت الى أحد وجهاء مدينة باجة المرحوم الشاذلي رحيم الذي كان له مكتب يقع وسط المدينة يستقبل فيه الناس ويعقد الاجتماعات وغيره فعرضت عليه الأمر. في اليوم الموالي عدت إليه فاعلمني أنني أبعدت نظرا إلى أنني نلت عدد 4 من 20 في عملية تفقد. قلت له أنّ الامر غير صحيح وان الذي تفقدني متفقد فرنسي وقد اسند لي 9 من 20، وهو عدد ممتاز بالنسبة إلى معلّم مبتدئ. وزاد المتفقد فلاحظ انني أصلح للتعليم. (est douژ pour l'enseignement). وقع التثبت من الامر فإذا ما قلته صحيحا ولذلك لما عدت لمقابلة سي الشاذلي رحيم في اليوم الثالث وجدت في يده قرار تسميتي معلّما في قرية نفزة.
❊ هل كان الوالي آنذاك البشير بلاغة، القريب من أحمد بن صالح هو الذي وقف وراء العملية؟
أنا لا أتهم أحدًا لكن أتصوّر أنّ الامر كذلك أو حتى من أحمد بن صالح نفسه، ذلك أنّه في احدى المناسبات اتصل بي شخص يدعى علي غطاس وهو الكاتب الشخصي لأحمد بن صالح وقال لي دع عنك محمد الخذيري (الكاتب العام لاتحاد باجة صلب الاتحاد التونسي) وتعال معنا، لكن ردّة فعلي كانت رافضة بقوّة وقسوة.
❊ أين كان أحمد التليلي في ذلك الوقت؟
كان في الاتحاد العام التونسي للشغل طبعا وهو الذي ترأس لجنة التوحيد مع الحبيب عاشور كممثل للاتحاد التونسي للشغل.
والحقيقة أنني لما أذكر الآن تلك الفترة أتألّم منها شديد الألم ذلك أنّّه وقع التلاعب بنا وبحماسنا لخدمة البلاد.
المهم أن أحمد بن صالح كان قويّ عوده في الاتحاد و أصبح له دور مهمّ حتى في تسمية الوزراء و المديرين العامين ، فضلا عن أنّه برز بشكل لافت في مؤتمر الحزب لسنة 1955 و في الخلاف البورقيبي ، اليوسفي، الشيء الذي ضايق بورقيبة الى أبعد حد فاغتنم ، بالتنسيق مع عاشور والتليلي فرصة وجوده في مهمة بالمغرب لابعاده والدعوة الى مؤتمر توحيدي.
وأذكر هنا أنّ الأخ محمد كريّم كان معترضا على التوحيد فأسمعه الحبيب عاشور كلاما بذيئا.
❊ وأين كان كريم؟
في الاتحاد العام طبعا، المهم انطلقت عملية التوحيد وأسفرت عن فوز الاتحاد العام بالاغلبية الساحقة للمقاعد في الجهات، ومنها باجة حيث أننا ورغم ما كنّا عليه من اشعاع وحركية في الاتحاد التونسي، لم نصمد أمام نقابيي الاتحاد العام الذي فازوا بنحو 80 بالمائة من المقاعد والنقابات.
لذلك لم أتمكّن من حضور المؤتمر التوحيدي العام الذي انعقد في سنة 1957 بل استطيع القول انني ابتعدت وتفرّغت لعملي في القباضة المالية.
❊ ألست معلّما كما قلت لي في البداية فمتى ذهبت إلى القباضة؟
كنت قلت لك أنّه وقع تعييني معلّما في نفزة، ورغم انني باشرت، فإنني لم أكن مرتاحا لأنّ ذلك يبعدني عن النشاط وعن الحركية اللذين تشهدهما باجة. وفيما كنت كذلك، علمت بمناظرة في وزارة المالية ترغب في انتداب أعوان لاداراتها المختلفة فشاركت فيها ومن حسن حظي أنني نجحت من الأوائل فخوّلني ذلك النجاح للعمل في الديوانة وتحديدا في الإدارة العامة بالعاصمة. لم أكن أرغب في ذلك صراحة فاتصلت بسي الحبيب عاشور الذي قدمني الى سي مراد بوخريص الذي كان عضوا معنا في الاتحاد التونسي ومسؤولا عن جريدته وهو في الأصل موظف كبير في الماليّة، أذكر اني لما عرضت عليه أمر تعييني في باجة، حاول اغرائي بأنّ المستقبل في العاصمة من حيث الترقيات وغيره، ولانني تمسكت بطلبي، فقد ساعدني على تحقيقه. وفي القباضة أبدعت وأدّيت واجبي على أحسن وجه وتعرّفت على جوانب أخرى كثيرة من الحياة العامة وعلى أناس كثيرين أحبّوني وساعدوني فيما بعد.
والمهمّ أنّ عملي الجديد جلب لي مزيدا من الاشعاع، فأخذ المسؤولون النقابيون على المستوى الوطني يترددون عليّ ويدعونني لحضور الاجتماعات والمشاركة في الأنشطة، كما دعوني صراحة إلى الالتحاق مجددا بالاتحاد الجهوي وتولّي أموره خاصة ان كاتبه العام أنذاك هو المرحوم حمودة نعمان وهو جزائري الاصل، ويمكن ان يعود الى بلاده في كل لحظة.
ترددت بعض الوقت الى ان جاءني ذات يوم الأخ حمودة نعمان بنفسه الى مقر القباضة وطلب منّي بصورة واضحة العودة إلى الاتحاد، مشيرا الى وجود طرائق عمل جديدة ونظرة جديدة ومهمّات جديدة.
راجعت سي الحبيب عاشور في الأمر، فأكّد لي ما عرضه عليّ المرحوم حمودة نعمان، ولذلك شاركت في أوّل مؤتمر للاتحاد الجهوي وانتخبت عضوا في مكتبه التنفيذي مكلفا بالنظام الداخلي، كان ذلك في بداية سنة 1959.
وحتى أضعك وأضع القراء في الصورة، فإنّ أهم قطاع أو أهم تشكيلة جهوية هو الفرع الجامعي لعملة الارض، تليه فروع أخرى منها فرع عملة الداخلية الذي كان يرأسه الأخ أحمد المستوري، وهو مناضل نقابي صلب، فوحدنا جهودنا وتمكننا من السيطرة على فرع الأرض وعقدنا مؤتمرا جديدا للاتحاد الجهوي فزنا فيه بأغلبية المقاعد، وقد اقترحت شخصيا ان يعود سي محمد الخذيري للكتابة العامة فرفض عاشور وتمسّك بي شخصيا كاتبا عاما للاتحاد الجهوي رغم صغر سني وتجربتي القصيرة.
والحقيقة أنّه منذ ذلك اليوم، اصبحت للاتحاد الجهوي بباحة مكانة خاصة عند المرحوم الحبيب عاشور وفي الإتحاد العام بصورة أوسع وكان عاشور معجبا بي ويشجعني باستمرار ويقف الى جانبي في كل الحالات حتى أصبحت ما يمكن ان نسميه »سوبر كاتب عام« واستمر الوضع على ذلك النحو الى نهاية سنة 64 وبداية 65 تاريخ اندلاع أزمة جديدة.
❊ لم تحدثنا سي خير الدين عن الوضع في الاتحاد العام، من كان أمينا عاما؟
كنّا نقول الكاتب العام وهو طبعا المرحوم المناضل أحمد التليلي من سنة 1957 الى سنة 1963، وكانت فترة مزدهرة عموما حيث تمّ بعث نزل أميلكار وبنك الشعب وجريدة الشعب وتأمينات الاتحاد كما تمّ بعث عدة معامل لصناعة الآجر والجليز وتعاضديات استهلاك إنتاج، كل ذلك في إطار قسم التعاضد بالاتحاد العام الذي كان يشرف عليه الأخ الحبيب عاشور رحمه اللّه.
وسيرا على نفس المنهج، اشرفت في باجة وبما إنني كاتب عام للاتحاد الجهوي هنا على تأسيس عدة تعاضديات منها تعاضدية فلاحية في ضيعة »ايفرسون« وعلى مساحة قدرها 500 هكتار وقد كانت على ملك أحد المعمرين، والذي لما لاحظ أنّ عملتها هم الذين يديرونها فوّت لهم في كميات هامة من البذور. كما أسسنا تعاضدية للبناء بما ذلك النجارة والحديد والمقاطع وتعاضدية استهلاكية ذات مساحة كبرى لاول مرّة في باجة، وتعاضدية في تيبار بدل الآباء البيض وتعاضدتي إسكان، واحدة في باجة اسمها الروضة والثانية في مجاز الباب واسمها الفردوس، كذلك كنّا سنقيم مصنعا للشكلاطة والحلوى تتأتى مكوناته من مصنع السكر الذي كان قد تأسس قبل ذلك في باجة، لكن المشروع لم يتمّ لأسباب عديدة، ربّما من بينها اضراب شنّهُ عمال معمل السكر من أجل مطالب لا أذكرها الآن. كانت الاضرابات ممنوعة وتقع مقاومتها بشدّة، فأبلغ الرئيس المدير العام للمعمل الصادق السوسي وزارة الاشراف بالاضراب فطلبت بدورها من الوالي آنذاك محسن نويرة الاذن بإلقاء القبض عليّ باعتباري كاتبًا عامًّا جهويًّا وعلى فريد الشكشوكي باعتباره كاتبًا عامًّا لنقابة معمل السكر. تعلل الوالي بأنّه لا يستطيع وان المؤهل لفعل ذلك هو وكيل الجمهورية.
في الاثناء اتصل بي الوالي وطلب مني أن أغادر الولاية مع فريد الشكشوكي حتى إذا ما جاء الأمر بالقبض علينا، لا يجدنا أعوان الشرطة.
والواقع أنّ الوالي كان مقتنعا بوجاهة مطالب عمّال السكر آنذاك وكان يسعى مع المدير إلى حلّها، لكن هذا الأخير احتاج إلى موافقة وزارة الاشراف، من جهة أخرى، كان تعاوننا مع الوالي كثيفا في حلّ العديد من الاشكاليات وتحقيق عديد المطالب، بحيث أنّه رأى، كما أسرّ لي فيما بعد، أنّه من الجحود مكافأة مثل هؤلاء النقابيين بإيقافهم وسجنهم.
وفعلا خرجت للتوّ من مقرّ الاتحاد ومررت على فريد في معمل السكر وانتقلنا الى العاصمة حيث قابلنا المسؤولين في الاتحاد العام فرتبوا جلسة مع سي أحمد بن صالح وزير الاشراف آنذاك حضرتها مع فريد والصادق السوسي وتوصلنا إلى حلّ جميع الاشكالات.
وأذكر أنّني لما ألقيت السلام، قلت لأحمد بن صالح: سيد كاتب الدولة، فردّ عليّ بنكتته الحاضرة: ما عادش سيد أحمد؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.