1) النّوم والرّيح للشاعر عادل جراد: تعتبر التجربة الشعرية لعادل جراد تجربة مغمورة لأسباب كثيرة أولها ابتعاده عن الضوء وانطواؤه القاتل في مدينة هادئة قرب البحر. شاعر لا يتحدث كثيرا خارج النص.إنما ثرثرته الجميلة في النص الشعري تكاد تتحول الى وشوشة أزهار صغيرة في حديقة اي منزل يريد ان يكون جميلا. ظهرت كتاباته الاولى أوائل التسعينات لكنه بدأ النشر سنة 2003 مع مجموعته الاولى »الانسانية«. ومن ميزات الكتابة الشعرية لدى عادل جراد مسكونة بسؤال مٌمِضّ »أين الشعر في نص يبدو للوهلة الاولى نثرا«. إن البساطة التي يكتب بها عادل جراد مدهشة وتكاد تكون أسئلته أسئلة طفل او فراشة او زهرة او حتى ورقة شجرة سقطت للتوّ، وأتذكر ان بداياته شدّت شعراء ونقّادا عربا من خلال كتاباتهم وإعجابهم بهذا الأسلوب البسيط والذابح. ثم تتالت الاصدارات الشعرية »تهاجر الطير بحثا عن مأوى جديد« و »حقول قمح« و »خفقة قلب« وصولا الى هذا العمل الشعري الخامس »النوم والريح«. »استيقظت في الليل فتحت عينيّ لم أر شيئا صفعت الظلام وإذا به ينتحب كطفلة!« (ص 95). وللأسف الشديد لم ينتبه النقاد والشعراء التونسيون الى هذه الشعرية الجديدة نظرا لاهتمامهم بالصورة الشعرية المتأتية من الاستعارة وبهرج اللغة ، »صنعت لا بني زورقا من ورق قال أريد زورقين آخرين رماها جميعا في النهر وأتبعها بعيني أسطوله الآن يعانق الأفق« (ص 109). ومواطن الفرادة والادهاش كثيرة في تجربة الشاعر عادل جراد وهو المسكون بهاجس وبثقافة واسعة من خلال اطلاعه على الشعر الأنڤليزي والامريكي نظراإلى اختصاصه في اللغة والآداب الأنڤليزية. وهو بذلك يفتح افاقا جديدة للنص الشعري المعاصر في تونس مع ثلة من أقرانه على غرار ميلاد فايزة (شاعر تونسي مقيم في الولاياتالمتحدة) ورضا العبيدي (شاعر تونسي مقيم في فرنسا) وفتحي قمري ومحمد جلاصية وصلاح بن عياد وزياد عبد القادر وغيرهم من الأصوات التي جعلت للشعر التونسي مذاقا خاصا. 2) حنين المسافة لمحمد الطاهر السعيدي: صدرت هذه المجموعة في منتصف أفريل المنقضي، وهي المجموعة الشعرية الثالثة في رصيده. قسّمها الى خمسة فصول: ذاكرة المسافة، سفر في الذات، رؤى وأخياله، سفر في الشعر وحديث الغريب. لقد حاول محمد الطاهر السعيدي الاهتمام بالمكان من خلال رسم مشاهد مختلفة من خلال شخصيات تتكلم وتتحاور حيث يكون المعمار الروائي خادما للشعر في أكثر من موضع. »في باب سويقة يبلّلٌك عرق الراكضين خلف اللاّشيء يبتسم لك ثقب في حائط!« (ص 11). وفي مواضع اخرى تبدو والكتابة الشعرية شكلا من التعريف مثل تعريف الحزن »الحزن وشم أسود على جناح طائر«. أو »زهرة ملتاعة في حمّى الصحراء« أو »عصفورة تعيش في الشتات« (ص 45). ولعل الشعر القائم على التعريفات التي هي قائمة على عنصر المفارقة، طريق الى البحث عن صورة شعرية مباغتة ومدهشة قائمة بدورها على الجمع بين المتضادات، حيث يكون المتضادّ غير النقيض، ويتحول الوهم الى نبتة أو حجرة أو شكل هندسي مثل المربع او المستطيل او الدائرة... في الشعر يصبح كل شيء ممكنا لكن وفق شروط ذهنية ونفسية وتركيبية وتخييلية تتعلق بالدرس الشعري. لكنه في إمكان من إمكاناته لا يعدو سوى بحث عن معنى غائم ودلالة بعيدة المنال وحلم صعب. »من نافذة السيارة رأيت سحابة بيضاء نظرت إليّ قالت كلاما.. قلت كلاما... وافترقنا!« (ص 57). إنّ هذه السحابة مجرّد عابرة... ولا شيء يسكن الشاعر في هذه اللحظة سوى الإحساس بالفراغ والعبور والتيه. ويتبدى العبث واللاشيء أحيانا. »عندما يجثمُ الأسد على أنثاه يولد خيط من الضوء يربط الأرض بالسماء. يخرج من رحم الحياة غزال عندما يعانق الأسد وحدته الأبدية يبزغ قمر بلا وجه!« (ص 58 / 59). ولكن هذ العبث وهذا الهذيان يشكلان معا بؤرة للمعنى فثمة علاقة بين الأسد والغزال والوحدة القاتلة. تذهب الصورة الشعرية عند محمد الطاهر السعيدي الى صفاء شعريّ أخّاذ يمنحه اختلافا وإن كان ذلك في بعض النصوص فقط من خلال الهدوء الحادّ الذي يميّز الشعراء الكبار »أنظر في الماء العاجيّ الموجة ترمقني تثير في عينها الزرقاء... ألتفّ على حزني وأمشي« (ص 62 / 63). وهذه الكتابة الشعرية هي نوع من الوقوف على التّخوم ومن الذهاب بالشعر الى أقصاه. 3) رياح المشهد للبشير عبيد: أول صورة بقيت لديّ إثر التقائي أوّل مرة كانت صورة المجنون، المثرثر، الضارب في الهذيان. لكن هذيانه بهذا الشكل هو هذيان منتج بلا شك. استطاع البشير عبيد أن يصبر سنوات طويلة قاتلة في ظل نظام دكتاتوري أكل الزرع وأهلك الضرع. لم ينشر كتابا لكنه كان حاضرا بقوة في المشهد الشعري من خلال النشر في الصحف والدوريات والمشاركة في الفعاليات الثقافية هنا وهناك. »قليل من الفوضى والتبغ الزهر على الطاولة مزهريّة قرب الأنامل الطقس ذاهل، سويعات النهار انتهت وامرأة الخريف التي لا طفتني نامت قرب النافذة الرمادية. (ص 23). ظلّ البشير عبيد طوال رحلته التي امتدّت ربع قرن من الكتابة مسكونا بهاجس الاختلاف والمغايرة وكل مقولات الحداثة ولعل تأثيرات الحداثة كانت ذات مفعولات عكسية ضد هواجسه وأحلامه الشعرية. فسيطرت على تجربته مقولات نقدية حدّت من هدير النص الشعري. ورغم ذلك يصيب البشير عبيد نجاحات مذهلة أحيانا. »بالأمس قالي لي : لن تعبث الأغصان بالغد الآتي، الماء دليل الطيور والضوء نقيض المقصلة هنا كانوا قاب ذراعين من الزهر« (ص 58). يعتمد البشير عبيد على السرد المضمّن ولكنه قلما يظهر تقنية سردية مباشرة محاولة منه للإمساك بخيوط الشعر التي تظل منفلتة باستمرار. لكن في لحظة درامية كانت تحتاج الى هدوء او نقطة ارتكاز . »من زرع البنفسج في التراب الذي كان مقبرة للغزاة القدامى؟ ... مدن الضباب! ماذا تريد؟ حفنة من آبار الذهب الأسود! يختفي البشير عبيد كثيرا وراء »الطفل« أوالفتى أو »الولد« وهي رموز للشاعر، باعتبار الطفولة متعلقة بالينابيع والشعر والدهشة كأنه يريد أن يقول بذلك إني أرى العالم بعيون طفل... والكتابة الشعرية لديه رؤية للعالم ولكنها في الاصل لا تكون الا عبر اللغة أداةً ووسيلةً لملامسة هذه »اللٌّزٌوجة الشعرية« القابعة في أعماق البحر أو الطين، أو في لحظات تقمّص أسئلة طفل. مناطق الضوء كثيرة في العمل الشعري الاول للبشير عبيد ولعل اكثرها طرافةً وإدهاشا تتمثل في الأسئلة المباغتة. »يسألني أبي أمن حق الخيول ان تتعلم الركض والصهيل بعيدا عن السياط« (ص 95). »هل تركنا السجائر والمعاطف والدفاتر عند مدخل الباب واختبأنا تحت الكراسي؟« (ص 107). ❊ خاتمة: ظل الشعر التونسي في غالبه مسكونا بهاجس البدايات حيث انخرط في الحداثة طريقا ونداءً، لكنه بقي متعثرا أحيانا في طرح أسئلة جادة تبعده عن السائد والمألوف في المشهد الشعري الموسوم بالزبونية و»الشّللية«، خاصة في عهد الدكتاتور لكن رغم ذلك ظل الشعر التونسي النار تدفّأ بها الجميع في ليالي الصقيع ورغم سقوط الساقطين وارتفاع أيادي المصفقين ثمة شعراء كانوا خارج السرب في ليل الارامل والايتام على موائد اللئام!