غضب أمريكي شديد وراء خروج «بن علي» سماسرة ركبوا أحداث 14 جانفي الدولة شبه غائبة والنخبة السياسية لن تصنع الحلول أجرى الحديث: فؤاد العجروي كان من مؤسّسي حزب الوحدة الشعبية عندما كانت الحركة في بدايتها عام 75 ودخل السّجن مع قياديّيها سنة 1975 بتهمة النشاط السياسي دون الحصول على التأشيرة القانونية التي حصل عليها الحزب لاحقا في نوفمبر 1983. خالد بن منصور البرلماني السابق الذي عايش كلّ مراحل حزب الوحدة الشعبية ودخل إلى البرلمان عقب انتخابات أكتوبر 2004 هو بمثابة الصندوق الأسود للحزب وشاهد على الأحداث الوطنية طيلة أكثر من ثلاثة عقود. خالد بن منصور حذّر في هذا الحديث مع «التونسية» من احتمالات حصول ثورة الجياع في تونس في حال تواصل منحى تأزم الأوضاع مستبعدا أن يخرج الحل من النخبة السياسية القائمة التي اعتبر أغلبها منخرطا بدرجات متفاوتة في أجندات أجنبية. كما اعتبر أنّ مغادرة بن علي البلاد في جانفي 2011 جنّبت البلاد حربا أهلية وكانت نتاج غضب أمريكي شديد إزاء مواقفه بشأن عديد القضايا ومنها أجندا استهداف الجزائر مؤكدا أنّ النوايا الغربية لضرب كلّ من ليبيا والجزائر وراء إدماج تونس في الربيع العربي. خالد بن منصور لاحظ من جهة أخرى أن أكبر خطر يتهدّد تونس اليوم هو حالة الضعف التي طالت كيان الدولة.. كما أكدّ أنّ تخمة الزحزاب التي عرفتها البلاد في السنوات الأخيرة رافقها تفكك الطبقة الوسطى وتوسع دائرة الفقر. كما لاحظ أن أكبر خطإ ارتكبه اتحاد الشغل هو الانخراط في اللعبة السياسية محذرا من حصول سيناريو مماثل لأحداث الخميس الأسود في جانفي 1978 ومؤكدا أنّ التوظيف السياسي هو وراء الانفجار الحاصل للإضرابات في وقت تحتاج فيه البلاد إلى هدنة اجتماعية. وأكد خالد بن منصور في ذات الصدد أن تراجع تأثير العائلة الوسطية كان من بين أسباب تأزّم الأوضاع في السنوات الأخيرة. الحديث مع خالد بن منصور الذي عرف بصراحته المتناهية أتى أيضا على أوضاع المنطقة العربية وسبل إنعاش الوضع الاقتصادي في تونس وانطلق بهذا السؤال: كيف تنظر إلى الأوضاع العامّة الرّاهنة وأنت البرلماني السّابق؟ - تونس تمرّ اليوم للأسف بأسوإ مرحلة ليس منذ 14 جانفي فحسب وإنّما في تاريخها الحديث، حتى في زمن الاستعمار لم يحصل وضع مماثل لما نعيشه اليوم وأعتقد أنّ أكبر خطر يتهدّد تونس اليوم هو الانهيار الذي أصاب كيان الدولة التي تبدو شبه غائبة. رغم الفساد المزعوم لعهد بن علي فقد كانت الدولة قائمة ومهيكلة.. أمّا اليوم فهي منهكة وإصلاح تداعيات هذا الوضع سيتطلّب وقتا طويلا. وما هي الأسباب حسب اعتقادك؟ - هذا الوضع الذي وصلنا إليه يعود أساسا إلى حال النخبة السياسية سواء في الحكم أو المعارضة والتي يمكنني القول أنّ أغلب مكوناتها إن لم تكن جميعها وظّفت لخدمة أجندات أجنبية وجاؤوا لضرب القومية العربية والإسلام وتقسيم المجزّأ. تونس لم تكن معنية بالربيع العربي لكن وضعها الجغرافي حتّم أن تنطلق الشرارة الأولى منها.. المستهدف الرئيسي من هذا المخطّط هو الجزائر وليبيا ومن هنا كان لزاما أن يتمّ إضعاف تونس لتجسيم هذا المخطّط. بن علي لم يكن ليغادر البلاد لولا الغضب الأمريكي الشّديد تجاه الكثير من مواقفه السيادية والوطنية حيث أنّه الوحيد الذي قال لواشنطن لا في أكثر من موقف ولا سيما محاولات استهداف الجزائر منذ أواسط العشريّة الأخيرة بن علي لم يكن يسمح بولوج الأسلحة والإرهابيين إلى الجزائر أما بعد 14 جانفي فقد تدفّق السِّلاح بشكل رهيب نحو تونس والواضح أنّ هذا المعطى يشكّل اليوم أكبر تحدّ أمام تونس لبسط الأمن ودحر «الإرهاب». لكن عديد الأطراف ترى أنّ تونس كسبت حرّيات في مقابل التدهور الحاصل على بقية الأصعدة؟ - لكنها عرفت الاغتيالات لأوّل مرّة في تاريخها وهذا يبيّن أنّ القول بارتفاع مسألة الحريات هي مسألة مطروحة للنّقاش.. كما أنّ الأوضاع التي وصلت إليها البلاد تدلّ على وجود هوّة سحيقة بين حجم الإنجازات ودائرة الخسائر.. لقد عرفت البلاد تخمة في عدد الأحزاب لكن مقابل ذلك تعمّقت الأزمة الاجتماعية وأُلغيت الطبقة الوسطى التي كانت تمثّل صمّام الأمان للمجتمع. لطالما اعتقدت أنّ ما حصل في 14 جانفي كان انتفاضة سُذّج ركبها السّماسرة.. لقد أثبتت الأحداث أنّ التونسي انساق وراء منظومة دعائية كبيرة لضرب صورة بن علي حرّكتها أطراف خارجية بتواطؤ من أخرى داخلية. وكيف ترى السّاحة السياسية اليوم؟ - الساحة السياسية تشهد أزمة عميقة تلقي بظلالها على كلّ الأوضاع العائلة الوسطية قُضي عليها نهائيا والأحزاب التي ظهرت بعد 14 جانفي إما أنّها واجهة لتبييض الأموال و«الإرهاب» أو رضخت بدرجات متفاوتة لأجندات أجنبية وهذا المعطى ينسحب على كلّ من «النهضة» و«النداء» وبعض مكوّنات «الجبهة الشعبية». في عهد بن علي كانت أحزاب المعارضة توصف بكونها كارتونية لكنّها كانت أحزابا وطنية وساهمت في الحفاظ على الاستقرار لم نكن قادرين في البرلمان على رفض أيّ مشروع قانون لكنّنا ساهمنا في إعادة عديد المشاريع إلى اللجان قصد إدخال تنقيحات عليها. أعتقد أنّه خلافا لما يُقال فإنّ النخبة السياسية التي كانت قائمة قبل 14 جانفي كانت أكثر النخب وعيا ووطنية. خروج بن علي من تونس مازال يثير الكثير من الأسئلة.. لماذا غادر البلاد حسب اعتقادك؟ - بن علي فهم أنّه توجد أجندا عالمية لم يعد له فيها مكان وبالتالي فإنّ خروجه جنّب البلاد مجازر كانت في غنى عنها.. كان يمكن أن تتدرج الأوضاع إلى حرب أهلية.. وبالتالي فإنّ مغادرة بن علي لتونس جنّبتها حمام دم. يبدو حديثك موغلا في التّشاؤم ألا ترى أنّه مازال بالإمكان إصلاح الأوضاع؟ - رغم قتامة المشهد الرّاهن فإنّي لم أفقد الأمل في إمكانية خلق وضع مغاير.. انظر حولك في العراق مثلا بدأ الشعب بعد 12 سنة من الغزو ومحاولات التقسيم ينزل إلى الشارع لفرض إرادته وتصحيح الأوضاع.. في لبنان أيضا هناك تحوّلات آخذة في التعمّق وأعتقد أنّها ستعطي دورا أكبر للشعب. أعتقد أنّه بالإمكان حصول سيناريو مماثل في تونس التي تعاني اليوم من طغيان رأس المال الفاسد لا أستبعد في حال تواصل تأزم الأوضاع أن ينزل الشعب إلى الشارع بل أعتقد أنّ أكبر خطر يتهدّد تونس اليوم هو ما أسمّيه ثورة الجياع التي ستدفع إليها المنظومة السياسية القائمة والتي لن تنتج سوى مزيدا من التأزّم وهذا ما أثبتته التجربة منذ أكثر من أربع سنوات. بعد أربع سنوات لم تتمكن الدولة حتى من ضبط ميزانيتها فكيف ستقدر على حلحلة الأزمة الرّاهنة ووقاية البلاد من مزيد تأزم الأوضاع بشكل تكون له تداعيات وخيمة على النواحي الاجتماعية والمعيشية؟ يحدوني أمل في أن تتوسّع دائرة الالتفاف حول المشروع السيادي الوطني.. لكني أعتقد في المقابل أنه من المستحيل أن يخرج الحل من النخبة السياسية القائمة بفعل انخراطها بدرجات متفاوتة في أجندات أجنبية أكثر من انتصارها لمصالح البلاد. نبّه الكثير من الخبراء إلى أنّ عدم التعجيل بإنعاش الأوضاع الاقتصادية قد يوصل البلاد إلى سيناريو مماثل لأزمة اليونان.. كيف تتفاعل مع هذه القراءة؟ - أعتقد أنّه لا الشعب ولا النخبة يملكان قراءة دقيقة لأوضاع البلاد التي قد تصل قريبا إلى العجز عن الإيفاء بالتزاماتها الخارجية.. المالية العمومية على سبيل المثال وهي مؤشّر بالغ الأهمية حيث تعاني من اختلال هيكلي عميق.. لقد نزلت نسبة مساهمة الموارد الذاتية في تمويل الميزانية خلال السنوات الأربع الأخيرة من ٪85 إلى ٪70 ووصل العجز بالتالي إلى مستويات قياسية جعلت كلفة الاقتراض الخارجي مجحفة جدّا في حقّ الأجيال الحالية والقادمة.. نسبة التضخّم ورغم تراجعها بشكل ملحوظ منذ بداية هذا العام فإنّها مازالت مرتفعة وبعيدة من مستويات 2010 نسبة النموّ نزلت إلى أدنى مستوى وهذا ما سيزيد في تعميق الأزمة الاجتماعية وأزمة خزينة الدولة.. إجمالا نحن نعاني من فوارق عميقة بين مستوى الجهد الوطني وحجم التطلعات كما ينبغي الانتباه إلى أنّ ضربة سوسة لم تكن لها تداعيات خطيرة على الفنادق فحسب وإنّما على عدد هام من القطاعات المرتبطة بها وهذا ما جعل تسريح العمال يتجاوز القطاع السياحي إلى قطاعات أخرى وهي مسألة حاول قانون المالية التكميلي التخفيف من تبعاتها بتخصيص اعتمادات هامة للشغالين والمؤسّسات لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال كم ستتحمّل ميزانية الدولة؟ بالمحصلة أعتقد أنّ التسريح الحاصل للعمّال في أكثر من قطاع والإجراءات الاجتماعية المصاحبة التي أقرتها الحكومة مؤخرا تبرهن على وصولنا إلى بداية الطريق نحو أزمة مماثلة للتي عرفها اليونان وهذا ما حدا بي إلى التنبيه من إمكانية حصول ثورة الجياع في تونس إذا لم يتم التعجيل بإصلاح الأوضاع ومراكمة العوامل التي تمكن من الارتقاء بالجهد الوطني في كل الميادين. شهد النصف الأوّل من هذا العام إرباكا هامّا للمر فق العام والنسيج الاقتصادي بفعل تواتر الإضرابات كما بدأت بوادر التوتّر الاجتماعي تلوح في أكثر من قطاع مع بدء العدّ التنازلي نحو العودة السياسية.. كيف تتفاعل مع هذا المعطى؟ - أعتقد بقطع النّظر عن التفاصيل أنّ أكبر خطإ ارتكبه اتحاد الشغل هو التفاعل مع الأحداث كطرف سياسي وليس نقابيا.. وبالتالي أصبح يوظّف مشاغل العمال لأغراض سياسية وهذه مسألة خطيرة إذ ينبغي التذكير بأنّ هذا التوظيف السياسي هو الذي أوصل إلى أحداث الخميس الأسود في جانفي 1978 ومن ثمة فإن البلاد اليوم ليست بمنأى من أحداث مماثلة. أعتقد أنّ ما يحصل اليوم ناتج عن إدخال الاتحاد في اللعبة السياسية من قبل أطراف سياسية وهذا ما جعله يعتبر نفسه شريكا في هذه اللعبة ويسعى بالتالي إلى فرض خياراته التي تتجاوز دائرة الفعل النقابي. هذا المعطى هو الذي يفسّر المفارقة التي تعيش على وقعها البلاد وهي انفجار الأوضاع فيما تحتاج فيه أكثر من أيّ وقت إلي هدنة اجتماعية. وما هي الحلول للوضع القائم من وجهة نظرك؟ - البلاد تحتاج أوّلا إلى إحياء قيمة العمل وإعطاء الأولوية للعوامل التي تمكّن من دفع عجلة الاستثمار وتفكيك جحافل العاطلين عن العمل.. كما تتطلّب الأوضاع شجاعة كاملة في فرض سلطة القانون واستعادة الدولة لزمام المبادرة وهذا يتطلب جملة من الشروط أهمّها استعادة الدولة لكلّ كفاءاتها القادرة على خدمتها والتي اكتسبت خبرة هامة في تسيير المرفق العام ولها إلمام جيّد بالملفات الحقيقية.. الساحة السياسية تحتاج بدورها إلى ترميم الخطّ الوسطي الحداثي وإعادة الاعتبار للمنطلقات السيادية الوطنية. المشهد الإقليمي يبدو بدوره مؤثّرا على الأوضاع في تونس كيف تستشرف تطوّراته؟ - أعتقد أنّ المنطقة برمتها تعيش على وقع تحوّلات عميقة ستؤول إما إلى تحوّل انفراج أو مزيد تأزيم الأوضاع أي إمّا إلى انتصار الخيارات الوطنية السيادية أو مزيد تعمّق آثار الأجندات الأجنبية.. ويبدو جليا أنّ تطوّرات الأوضاع في ليبيا ستكون من العوامل الحاسمة لجهة أنه يوجد اليوم تسابق بين أجندا عربية نشأت عن القلق المتزايد إزاء استفحال التهديدات الإرهابية وتهدف إلى المساعدة على حصول تحوّل مماثل للذي عرفته مصر وأخرى غربية مماثلة لغزوة الناتو في فيفري 2011 وغايتها مزيد تعميق آثار التقسيم عبر المراهنة بالأساس على التيارات الإسلامية والجماعات الإرهابية التي تمثل في الواقع جيوشا نظامية تحركها في الظل أجهزة مخابرات غربية وصهيونية. بالمحصلة أعتقد أنّ تطوّر الأحداث في ليبيا ستكون له تداعياته الهامة على الأوضاع في تونس خلال الخريف الحالي.