بعد وجعين عانى منهما طويلا: قهر الاحتلال وداء «السرطان» ... رحل صاحب «لا أستأذن أحدا «دون أن يستأذن أحدا !فبعد أن أحس «سميح القاسم» شاعر المقاومة الفلسطينية الى جانب محمود درويش ب«أننا نموت لأننا لا نتقن النضال...» مضى إلى اللحد معلنا وراءه الحداد. وليلة أول أمس, استعجلت المنيّة خطف روح شاعر ملأ الحياة وعمر الأرض شعرا وزهرا ... بعد أن نخر جسده المرض الخبيث وعبث بكبده السرطان اللعين. وقد يتذكر كثيرون وجسد «القاسم» يوارى الثرى اليوم الخميس في مدينته الرامة بالجليل ما كتبه الراحل قبل وداع الحياة مخاطبا الموت: «أنا لا أحبك يا موت.. لكنني لا أخافك .. أعلم أني تضيق علي ضفافك... وأعلم أن سريرك جسمي... وروحي لحافك... أنا لا أحبك يا موت... لكنني لا أخافك». وليس رحيل صاحب «منتصب القامة أمشي» بالحدث العابر بل إنه فقدان بحجم الفاجعة والخسارة التي لا تعوّض . فبموت سميح القاسم سقط ضلع من ثالوث النضال الفلسطيني الشعري التي يشكله «القاسم» صحبة الشاعر توفيق زياد والراحل محمود درويش. وها هو اليوم سميح القاسم يمتطي «صهوة الموت» للحاق برفيق دربه في الشعر والمقاومة والصحافة والحياة... فلم يشأ أن يبقى وحيدا في ملاحمه بعدما رحل عنه صديقه محمود درويش وضاعت ملامحه... و«قاسم» و«درويش» لم يكونا مجرد اسمين عابرين في سلالة الشعراء الفلسطينيين أو مجرد غصنين فرعيين في شجرة الشعر العربية... بل كانا ومازالا وسيزالان نجمين ورمزين وشاعرين خالدين. عن عمر يناهز 75 سنة ,رحل سميح القاسم المنحدر من عائلة درزية فلسطينية في مدينة الزرقاء الأردنية عام 1929، والذي تعلّم في مدارس الرامة والناصرة. ودرّس بإحدى المدارس، ثم انصرف بعدها إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي قبل أن يترك الحزب ويتفرّغ لعمله الأدبي. أما فصول حياة هذا الشاعر فقد كانت عبارة عن مراوحة بين حبس وسجن,نضال واعتقال, سفر ومرض ...فموت ! ولأن «القاسم» كان رجل فكر ومبدإ وشاعرا لا يساوم الشعر بالسعر وصحافي لا يبيع القضية فقد سبب له إشهاره القلم سلاحا في وجه الظلم والعدوان والخذلان تتبعات سياسية وملاحقات قضائية فسجن لأكثر من مرة ووضع رهن الإقامة الجبرية. وكما كانت حياة الشاعر الفلسطيني صاخبة لا تعرف الهدوء كما لم تعرف أرض فلسطين الاستقرار وكان فكره وقادا وعطاؤه مدرارا, فإن قلمه لم يصدأ وحبره لم يجف فصدر له ما يقرب من سبعين كتابا فى الشعر والقصة والأدب والمقالة والترجمة... ولأنه كان صاحب إبداع وتفرد , إضافة وتميز ... فقد حصل سميح القاسم على العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف فى عدّة مؤسسات، فنالَ جائزة «غار الشعر» من إسبانيا كما حاز على جائزتين من فرنسا عن مختاراته كما حصلَ على جائزة البابطين للشعر العربى وحصل مرّتين على «وسام القدس للثقافة» من الرئيس ياسر عرفات، وحصلَ على جائزة نجيب محفوظ من مصر وجائزة «السلام» من واحة السلام، وجائزة «الشعر» الفلسطينية... ويعد «سميح القاسم» ظاهرة شعرية حيّرت النقاد وأبهرت الكتاب ,فأطلقوا عليه اللقب تلو اللقب على هذا الصوت العربى الشامخ في أنفة وكبرياء وثورية فأسموه «شاعر الملاحم» و«شاعر المقاومة» و «قيثارة فلسطين» و«متنبي فلسطين...». وداعا سميح القاسم وأنت الذي «يشاؤك صمتك وعدا ويشاؤك صوتك رعدا ويشاؤك قلب التراب شهيدا ويشاؤك أهلك عيدا... وماذا تشاء سوى ضجعة الموت حرا طليقا...».