عند منعطف أحد أزقة المدينة العتيقة في الاسواق التونسية، تنتصب سلسلة من المحلات الحرفية التقليدية لكل منها صنعة اشتهرت بها، تلك المحلات التي تقع تحديدا بنهج جامع الزيتونة المعمور والتي يعود تاريخها الى عشرات السنين هي محلات متنوعة الأنشطة منها المختص في بيع الملابس التقليدية، وأخرى في صناعة النحاس وبيعه..جميعهم حرفيون يعملون على تطويع منتجاتهم لمواكبة موضة العصر والاستجابة لرغبات الحريف المتجددة بطريقة تمزج بين كل ماهو تقليدي وعصري. كانت الساعة تشير الى العاشرة صباحا حيث بدأت الحركة تعم أسواق مدينة تونس العتيقة في حين كان نهج جامع الزيتونة العامر بمحلات حرفييه يشكو شللا كبيرا في الحركية، هي حالة بدا عليها منذ ما يقارب الثلاث سنوات وبالتحديد على خلفية الأحداث التي جرت بالبلاد بعد ثورة 14 جانفي، وضع أفقد عديد القطاعات صوابها وعلى رأسها قطاع السياحة الذي أثّر بصفة مباشرة على الصناعات التقليدية وكانت بمثابة المرض الذي أصابها وبقي مدة ليست بالقليلة ينخر فيها ليفقدها اليوم قدرتها على مواصلة العيش. ولمزيد الاطلاع على مشاغل تجار الصناعات التقليدية خاصة وأننا على أبواب موسم سياحي جديد انتقلت "الصباح" الى المحلات الحرفية بنهج جامع الزيتونة بالمدينة العتيقة فكان النقل التالي. عن الوضع الكارثي الذي وصل اليه القطاع تحدث اسكندر الدويري(22 سنة-صانع) بكل حرقة ليقول "لم يعد هناك اقبال بالمرة وليس لنا الأمل في ذلك فكل المؤشرات لا تنبأ بخير، الوضع السياسي الراهن أصبح أسوأ مما كان عليه في السنة الماضية وهو ما أدى لشلل هذا القطاع، ثم ان غياب الأمن وكثرة الاحتجاجات والمظاهرات زادت في تعكر اللأحوال." وتحدث اسكندر عن مجموعة من العوامل المتمازجة أدت -من وجهة نظره- الى حدوث هذه الكارثة قائلا "الأسباب متعددة ولكن المآل واحد، الا أن الوعي بهذه الأسباب قد يؤدي الى تقليص النتائج لذلك لا بد من التقليل من المظاهرات سواء كانت سلمية أو غير سلمية وذلك اعتبارا للموقع الذي يحتله نهج جامع الزيتونة الذي يبعد بضعة أمتار عن قلب العاصمة وحدوث مثل هذه الاحتجاجات سيؤدي ضرورة الى نفور الزبائن" كما حمّل الدويري مسؤولية هذا الواقع الرديء للحكومة التي لم تفعل شيئا. الادلاء السياحيون وعن مسألة تأثير الأدلاء السياحيين في ركود البضائع لدى بعض المحلات والتجار باعتبار تعاملهم مع البعض وإغفالهم للبعض الآخر قال الدويري :" هذه المسألة أزعجت فعلا العديد من التجار خاصة منهم أصحاب الدخل المتوسط وأولئك الذين لايزالون جددا في الميدان أما بالنسبة للمحلات الكبيرة والضاربة في القدم فهؤلاء غير قادرين على ازعاجنا كما أننا من المستحيل أن نلجأ اليهم مهما كانت الظروف فنحن نكتفي باستقطاب ذوق السائح بنفسه دون التدليل على السلعة." إلا أن تجاوزات ما بعد الثورة والتي طالت جميع المجالات قد وصلت بدورها الى قطاع الصناعات التقليدية الأخيرة فالمرشد السياحي أو ما يعرف ب"البزناس" أصبح مصدرا للابتزاز والممارسات اللاأخلاقية التي أساسها الحصول على المال والتعامل مع تجار بأعينهم وقد ساهم الانفلات الذي يعانيه القطاع في دعم مثل هذه الممارسات اللاأخلاقية. الاعلام في قفص الاتهام وكالمعتاد توجه أصابع الاتهام للاعلام الذي يعتبر من وجهة نظر بعض التجار المسؤول الرئيسي عن ركود السياحة وعدم ترغيب السياح في القدوم الى تونس من خلال ما تعرضه بعض الوسائل الاعلامية خاصة منها المرئية من صور تسعى لتهويل الأحداث ونشر مشاهد مغلوطة تظهر أن الوضع في تونس خطير للغاية يهدد سلامة الزائر كما يقتل فيه الرغبة في القدوم. وفي هذا السياق أفاد جمال باشقه (-50 سنة -صانع) يعمل بالقطاع منذ ما يقارب 30 سنة أن المسؤول الأول والأخير لما يحدث للسياحة وللصناعات التقليدية بعد الثورة هي الصحافة من خلال ما مارسته من تشويه لصورة تونس في الخارج بطريقة جعلت من بلادنا مثالا في التقتيل والارهاب..قائلا "أنا لا أوجه اتهامي الى جميع وسائل الاعلام بل الى بعضها وبصفة خاصة الى المرئية منها فالصورة بامكانها أن تصل الى أبعد مما نتخيل، والصورة الأخيرة التي قدمها الاعلام عن تونس كانت سيئة للغاية وجعلت السياح يعزفون عن زيارتنا سنة تلو الأخرى لذلك أشدد على القول بأن معظم التجار في هذا السوق أصبحوا ناقمين على الصحافة والصحفيين". وبتنهيدة عميقة واصل جمال حديثه قائلا: "لقد وصل بنا الوضع الى أدنى المراتب فلم نعد قادرين على توفير ملازم عائلاتنا وتسديد ديوننا كما لم تعد لنا القدرة على انتاج الأفضل أو المضي قدما أو حتى المحافظة على التراث التونسي". من جهته أيد لطفي بن جمعة (38سنة-صاحب محل منتجات تقليدية جلدية) ذلك قائلا "نحن لا نلقى من الاعلام غير التشويه والتعتيم والتهميش فهو من جهة لا يعيرنا اهتماما ولا ينقل مشاغلنا والحال أننا من سيئ الى أسوأ وفي نفس الوقت يقطع أرزاقنا بتهريب السياح وتخويفهم". وأضاف :"باختصار أقول للاعلاميين جميعهم "كفانا سياسة لقد سئمناها واتقوا الله في تونس". قد يكون الاعلام مسؤولا بتقصيره في تجميل صورة تونس ولكن لا يمكن أن نعتبر ذلك تهمة أو ذنبا يذكر، قد يكون فعلا من المساهمين في تشويه صورة تونس ولكن ما يتناساه البعض أن الإعلام يعكس الصورة الحقيقية لواقعنا اليوم، وحتى يكون الاعلام محايدا كما نريد يجب عليه نقل الواقع دون تلميع أوتجميل. موسم سياحي لا يبشر بخير من المؤكد أن تونس لن تتحمل سنة سلبية ثالثة حيث أثبتت الأرقام أنه رغم تحسن المردود السياحي السنة الماضية الا أنها لم ترتق إلى النسب المحققة خلال سنة 2010. أما الموسم السياحي لهذه السنة فلا يبشر بخير ..فوزارة السياحة تلتزم الصمت وتكتفي بالتأكيد على أن الوضع رديئ وغالبية التجار فاقدين الأمل في غد أفضل كما أن أصحاب الفنادق والوحدات السياحية يشكون من نقص حاد في عدد السياح والوافدين وبعضهم حاصرتهم المديونية وبدؤوا يدقون ناقوس الخطر. ركود..وصناعات مهددة بالاندثار بكل حسرة تدخل الرايس (70 سنة-صاحب محل) ليحدثنا عن المستوى السيء الذي وصل اليه القطاع بعد الثورة قائلا " السياحة بحر عميق منذ القدم وهي من القطاعات الحساسة والوضعية التي وصل اليها التجار طيلة الثلاث سنوات الأخيرة لم تمر علينا حتى في الخيال، أنا مثلا كنت أشغّل 5 صناع ولكني اضطررت لطردهم جميعا لأنني لم أعد قادرا على سداد أجورهم.." ثم نظر الى قطع الفخار المنتشرة هنا وهناك بطريقة عشوائية ليقول "هذه المنتجات موجودة بالمحل منذ ما يقارب عن أربعة أشهر والحال أنني كنت أبيعها في فترة وجيزة للغاية، فالتونسي اليوم أصبح يخاف التجوال في أسواق بلده فما بالك بالأجنبي لذلك فان الأمل في موسم سياحي أفضل صعب للغاية..". تجده ناصبا أمام محله الضيق يقرع أطباقه النحاسية بكل ذوق وتفنن لدرجة أنه يرفض الحديث أو الدردشة أثناء أداء حرفته، انه كمال(45 سنة-نحاس)، فبعد أن انتهى من قطعة بيده حتى رفع رأسه بكل بطء وهو يبتسم ابتسامة صفراء وفي عينيه حسرة البؤساء ليطلق بذلك زفرة طويلة ويقول "تسألونني عن صدى هذه الصناعة المحترمة في أيامنا هذه"، ثم يسكت برهة ويواصل متنهدا :" يا حسرة على أيام النحاس لقد ماتت هذه الصنعة ودفنت مع أجدادنا أما الصناعات التقليدية فقد كانت تحتضر منذ عهد المخلوع الى أن جاءت الثورة لقتلها واحالتها الى مثواها الأخير.." ومنها انغمس كمال في العمل مجددا والتزم الصمت ليأخذ مكانه وسام (20 سنة صانع) الذي قال:"هناك العديد من الالتزامات والعمل دخله قليل ووضع القطاع أضحى كارثيا، التونسي يعيش قطيعة مع الصناعات التقليدية منذ فترة ليست بالقليلة ومورد رزقنا الوحيد هو الموسم السياحي إلا أن الأحداث الأخيرة والتجاذبات السياسية الواقعة في البلاد أفقدتنا القدرة على الكسب والربح والحال أننا نشكو الأمرّين فالأسعار ارتفعت والكسب أصبح محتشما للغاية وجلنا لا يملك سوى حرفته" وأضاف: "الخسارة ليست على مستوى تجار "الكار" فحسب وانما أيضا هناك العديد من الحرفيين الذين لحقتهم الخسارة فالقطاع يحمل في طياته سلسلة كاملة من اليد العاملة". كان حديثة مختلفا ووجهه مستبشرا ورضاه عن الوضع واضح الملامح..هو عبد المجيد(38 سنة صاحب محل) الذي أكد أن القطاع انحدر الى أدنى المراتب وأن انقاذ الوضع ليس بالمعجزة قائلا: " التجار يلجؤون فقط للشكوى والشكوى لغير الله مذلة، من يملك العزيمة يملك القدرة على النهوض بالقطاع، والوضع الحالي الذي يعيشه قطاع السياحة بصفة عامة هو وضع طبيعي للغاية فكل بلد يعيش ثورة يمر بهذه المراحل لذلك فلا بد من الصبر والمضي قدما" وبحماس كبير شدد قائلا" الحكومة لا تزال في الطريق الصحيح لذلك علينا الصبر وعلى المعارضة أن تحترم نفسها وتترك المجال للاستثمار والسياحة". لقد شهد الموسم السياحي في فترة ما بعد الثورة سنوات عجاف زادت من أزمة البلاد لذلك فلا بد من البحث عن وصفة سحرية تنقذ الوضع وقد يكون منطلقها تجميل صورة تونس في الخارج وذلك بالتركيز على مجهودات الاعلام والاتصال والسعي للنهوض بالقطاع خاصة وأن الموسم السياحي على الأبواب ولا بد من الأخذ بزمام الأمور لكسب الرهان.