- ذكر صاحب المقال في خاتمة الجزء الاول ان اسباب العنف السياسي عديدة ومتنوعة لكنها تقف في النهاية عند نفس النقطة وهي عدم الايمان بمبادئ التعايش السلمي والحوارونسبية الحقيقة والخطإ واعتماد الديمقراطية أسلوبا للحكم واطارا يحتضن الجميع؛ وفي الجزء الثاني يعرف بأخطار العنف السياسي فيقول: 3) أخطار العنف السياسي وآثاره لقد كان العنف في التاريخ مثلما أسلفنا القول أحد العوامل الفاعلة في إحداث التحوّلات التاريخية الكبرى ولكن إحدى الهواجس الاساسية للإنسان في تاريخه الحديث والمعاصر كانت التحول من الفعل في التاريخ والحضارة بقوته وجبروته الى الفعل فيها وبنائها بعقله وروحه وإنسانيته ولذلك أصبحنا نتحدث عن أنسنة التاريخ والحضارة وأنسنة الإنسان وأنسنة العلوم أي جعلها جميعا من أجل الإنسان كقيمة مثلى ومناهضة كافة أشكال الممارسة الماسّة من كرامته وحريته. وتعتبرنظرية العقد الاجتماعي للفيلسوف "جون جاك روسو" من الزاوية الفلسفية والسياسية وإحدى المحطات الكبرى لبناء مدنية الإنسان ومدنية الدولة والقطع مع" طبيعته المتوحشة المنعزلة "وتحديد شروط الاجتماع الإنساني التي تقتضي ضرورة بناء مجتمع متكامل متجانس في اختلافاته وتنوعه يرتكزعلى الحوارواحترام الاختلاف والتعايش والتداول السلمي على السلطة وكان ذلك منذ القرن 18. وتكمن خطورة العنف السياسي في أنه يقوّض أركان الدولة المدنية ودعائم السلم الاجتماعي وهوتهديد جدّي لركائزالنظام الديمقراطي الذي ينبني على الحواروالتعدّد واحترام الاختلاف وتتّضح خطورته من خلال ما يرمي اليه من إحداث تحولات سياسية أوتحقيق أهداف سياسية بغيرآليات العمل السياسي وإنما بأساليب تشوّه العملية السياسية؛ فهو تماما كمن يعمد إلى استعمال أساليب الغش والخداع أثناء اللعب لتحقيق الفوزأو كالمنافس الذي يستعمل العنف أثناء المباراة الرياضية ضدّ منافسه لتحقيق الفوزوقد يتحقق له لو تسامح الحكم وتغاضى عن ذلك، فتماما كما ان الحكم هوالمسؤول عن فرض قانون اللعبة الرياضية ومعاقبة من ينتهكه؛ فإن الدولة هي الحكم المسؤول عن احترام قواعد اللعبة السياسية ومعاملة اطرافها على قدم المساواة. ولا غرابة في هذا التشبيه اعتبارا الى ان القوانين المنظمة للحياة السياسية هي قوانين تنظم التنافس وقد اقتبست كل القوانين التنافسية من القوانين التي تنظم التنافس الرياضي التي ظهرت منذ القديم وتطورت خاصة بظهورالالعاب الاولمبية، واذا كان على المشارك في اللعبة الرياضية التحلي بالروح الرياضية فيمكن القول بأن المشارك في اللعبة السياسية عليه ان يتحلى بالروح السياسية ومن ذلك سمي التنافس السياسي باللعبة السياسية ليس لان السياسة ملهاة وانما لأنها تنافس تماما كالتنافس الرياضي تحكمه قوانين وتنظمه قواعد ويمارس في إطارمن النزاهة والشفافية تقتضيهما الروح السياسية كما تحتاج الممارسة الرياضية الى الروح الرياضية. ان للعنف السياسي آثارا وخيمة على كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وعلى الصعيدين الفردي والجماعي وهو يؤدي عادة الى : - تقويض جسور الثقة والتواصل بين مختلف مكونات المجتمع السياسي، الحكومة، المعارضة الأحزاب، الأقليات، الطوائف وهيئات المجتمع المدني. - فقدان المجتمع لثقته بالدولة لعدم قدرتها على المحافظة على وحدة المجتمع وتماسكه مما يؤدي إلى ضعف سلطتها وهوالمدخل الى الفوضى والى التدهورالاقتصادي والانحلال الاجتماعي. - ظهورقوى وأقطاب تنافس الدولة وتستولي على أهم خصائصها وهي احتكارممارسة العنف المنظم باعتبارها الجهة الوحيدة التي خولها القانون احتكار سلطة ممارسة العنف القانوني وفرض سلطانها. - خلخلة الامن والتجانس الاجتماعيين مما يسبب انقسام المجتمع على ذاته وسيطرة النزعة الفردانية وهومناخ خصب لتغذية تنامي النزعات الجهوية والطائفية والقبلية - تعطيل برامج التنمية بأبعادها المختلفة وما ينتج عن ذلك من ارتفاع البطالة وازدياد نسبة الفقر. والتضخم ... - تغذية ثقافة العنف والعنف المضاد وهو ما لا يمكّن من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ويمكن أن يتحول العنف وسيلة لحسم الخلافات السياسية حتى داخل نفس الحزب؛ فمن يعتمد العنف أسلوبا في حسم خلافاته مع خصومه السياسيين يعتمد الأسلوب نفسه في حسم خلافاته الداخلية صلب نفس التنظيم او الحزب أوالجماعة. - تغذية ظاهرة الإفلات من العقاب وهوما يشجّع على استفحال العنف وتناميه ويصبح سلوكا اجتماعيا فالعنف السياسي عادة ما يكون مخططا له بدقة واحكام لضمان نجاح تنفيذه وكذلك لضمان عدم التوصل الى معرفة الجناة وعقابهم خاصة اذا كانت السلطة السياسية أو التنظيمات الحزبية هي التي تقف وراءه اضافة الى انه كثيرا ما يمارس في اطارمجموعات كبيرة يصعب معها تحديد المسؤولية الفردية والشخصية. 4) كيف نقاوم العنف السياسي إن العنف السياسي يستهدف بالأساس حرية الفكروالتعبيروالمعتقد والحرمة الجسديّة والمعنوية وهويتسلط حدا على أهم الحقوق التي ضمنتها الشرائع السماوية وكذلك المواثيق والمعاهدات الدولية خاصة منها العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان . وهو يرتبط بأزمة ثقافية عميقة تشق المجتمعات التي تعاني من هذه الظاهرة والتي هي على علاقتنا وثيقة بثقافتنا السياسية وبجذورتفكيرنا وتاريخنا السياسي ولكنها كذلك بخلفيات اجتماعية واقتصادية. قد يعتقد الكثيرفي نجاعة الحل الأمني والقانوني ولكن على أهمية ذلك وما يتطلبه من مؤسسات مستقلة ومتطورة ومن منظومة قانونية متكاملة غيرمتاحة الى حدّ الآن فانه لا يعد الحل الامثل ولا حلاّ كافيا فالمجتمعات لا تغيّرها التشريعات والمؤسسات ولا تطورها القوانين فقط وإنما المجتمعات المتطورة تبدع القوانين المتطورة التي تحتاج إليها ولذلك فإن الأمريتطلب بالأساس مراجعة بنيتنا الذهنية الثقافية والسياسية والبحث عن مواطن الخلل فيها وإعادة تشكيلها وبنائها طبقا لمبادئ حقوق الانسان والحرية والديمقراطية ومبادئ الحوارواحترام الاختلاف بعد ان كانت قد تشكلت في جزء كبيرمنها في ظل واقع سياسي يقوم على الاقصاء واحتكارالسلطة ورفض الآخروقمع الفكر والحرّيات العامة والخاصة . وتعتبرالدولة المسؤول الأول عن مقاومة ظاهرة العنف السياسي ليس فقط لما لتلك الظاهرة من تهديد لسلطتها المركزية وإنما كذلك بوصفها السلطة الوحيدة التي يمنحها القانون صلاحية ممارسة العنف واحتكاره وباعتبارها حامية للحقوق والحريات ويكون ذلك بواسطة صياغة التشريعات الرادعة وضمان حياد الإدارة ومؤسسات الدولة التي تقف على نفس المسافة من جميع الأطراف وتكريس سلطة قضائية مستقلة طبق المعايير الدولية الضامنة للحقوق والحريات وعلويّة القانون وتخليصها من كافة اشكال الهيمنة والتبعيّة للسلطة السياسية. وتعتبرالأحزاب السياسية مسؤولة عن مقاومة الظاهرة ولها دوركبيرفي ذلك من خلال دعم ثقافة التعايش والحوار واعتماد آليات العمل السياسي وادواته اسلوبا للتأثيرفي المشهد السياسي؛ وهي متى استفحلت فإنها تهدّد الجميع ؛ فهي آلة رهيبة اذا تحركت واشتغلت يصعب ايقافها.إنها تدهس الجميع؛ وقودها ضحاياها؛ وكلما اسقطت ضحية الاّ واشتدّ نهمها لغيرها ومن بدأ بتشغيلها قد يكون ضحيتها القادمة. انها تقوض أركان المجتمع السياسي. ولا يمكن اغفال دورالمجتمع المدني في مقاومة العنف السياسي ولا يتسنّى ذلك الاّ بضمان استقلاليته وحمايته من كافة اشكال الاختراق السياسي وتطويرالقوانين المنظّمة سواء للجمعيات المدنية اوللأحزاب السياسية وتطويرها بما يستجيب لمتطلبات المرحلة ومستجداتها وخاصة منها الاحكام المتعلقة بزجرالعنف والتعليق والحل والتتبّعات الجزائية الفردية ( الفصل الرابع من المرسوم عدد 87 المؤرخ في 24/9/ 2011 المنظم للأحزاب السياسية والفصل 4 من مرسوم عدد 88 المؤرخ في 2011/9/24 المنظم للجمعيات المدنية) وضمان تطبيقها. لا يمكن في ظلّ المرحلة الانتقالية التي تعرفها بلادنا تصوّرحلول أحادية الجانب والتوجّه فلا بد من حلول يشارك فيها المجتمع السياسي والمجتمع المدني. وعلى الدولة أن تحدّد الوسائل اللازمة لتطويق احداث العنف السياسي وانفاذها قبل ان تتحول إلى مستوى الظاهرة لأنها متى تحوّلت الى ذلك المستوى تصعب مقاومتها. وقد تكون لها نتائج وخيمة على عملية الانتقال الديمقراطي في مرحلة أولى وتكون لها بالتبعية آثارسلبية على الوضع النهائي للعملية السياسية والمشهد السياسي وعلى الأمن والسلم الاجتماعي والاقتصادي إن بناء حصون السلام لابدّ ان يكون في العقول اوّلا وقبل كل شيء وذلك أهم ضمان لمقاومة الظاهرة؛ ولكن لا يمكن ان تكتمل تلك الحصون اذا لم تشيّد كذلك من خلال القوانين ومن خلال الدولة ومؤسساتها. ● حقوقي وباحث في تاريخ العالم المتوسطي وحضارته.