التشدد موجود في كل البلدان وفي كل التيارات.. تختلف ألوانه ودرجاته وموقفه من العنف المادي.. إلا أنه يحمل سمات متشابهة.. وفي تونس أيضا التشدد موجود.. وسيبقى موجودا.. لأن استئصاله-في تونس وغير تونس- صعب المنال.. لكن محاصرته والتقليل منه ومن تأثيراته وتحييده عن التأثير وخاصة في هذه المرحلة المهمة بالذات أمر ممكن بل ومطلوب.. وأول خطوات التصدي للتشدد هي التعرف عليه وعلى سماته.. ومن أهم سمات التشدد ما يلي: السمة الأولى للتشدد: العنف اللفظي.. فالتشدد يسبّ ولا يناقش.. يسعى ليفرض وليس ليُقنع.. فالتشدد العلماني يستعمل ألفاظ: ظلامي.. رجعي.. متخلف.. والمتشدد الديني يستعمل ألفاظ: كافر.. فاسق.. زنديق.. وكل ذلك يعمق القطيعة والتوتر.. ويعرقل كل مساعي التواصل بين مكونات المجتمع.. ويعطل البناء الإيجابي.. السمة الثانية للتشدد: العنف المادي تجاه المخالفين والخصوم.. بل إن التشدد يتبنى ذلك كمنهجية ثابتة ويضع لها مرتكزات فكرية!!.. فالتشدد العلماني سعى سابقا -ولا يزال- لاستعمال أدوات الدولة للفتك بخصومه الفكريين.. وإن لم يتمكن من مباشرة ذلك من خلال مواقعه في الدولة قام بتحريض الدولة تحت شعار(لا حرية للرجعية)!!.. وبالمقابل فإن التشدد الديني يتبنى مقولات التغيير باليد واستعمال العنف تحت مسمى (الجهاد)!!.. ويمارس تلك المقولات الدينية في غير محلها.. وبغير تبيّن أو تريّث.. وبلا احترام للنفس البشرية التي حرمها الدين.. بحيث يقع في كبيرة الإفساد في الأرض من حيث أراد الإصلاح!!... السمة الثالثة للتشدد: السعي لإلغاء الآخر.. فالتشدد يسعى للاستئصال وليس للتعايش.. يتبنى نفي الآخر وليس الاعتراف به.. في حين أن الموقف الصحيح المفيد لمجتمعنا في هذا الباب هو: أخالفك و لكن لا ألغيك.. التشدد العلماني يبادر لإدانة الآخرين ولا يمارس التنوير.. والتشدد الديني يسارع لإصدار الأحكام ضد الآخرين ولا يسعى للتغيير.. السمة الرابعة للتشدد: غياب الوعي التاريخي.. إذ يتوقف في مرحلة تاريخية معينة.. ويرفض استيعاب التطورات اللاحقة.. فالتشدد العلماني توقف التاريخ عنده في عصر النهضة الأوروبية وفلسفة الأنوار.. كما يرفض استيعاب تطورات الفكر العلماني والتجربة العملية الغربية وتطورات الممارسة العلمانية في الغرب.. حيث استعاد الدين تأثيره لاحقا- من الشباك غير الرسمي بعد أن أُطرد من الباب الرسمي.. وبالمقابل فإن التشدد الديني توقف التاريخ عنده في حدود القرن السابع الهجري.. فهو يعرف قضايا ذلك العصر ومعارك ابن تيمية!! أكثر مما يعرف عصره الحالي وقضاياه كما لاحظ الشيخ السعودي سلمان العودة.. كما يرفض استيعاب تطورات التاريخ.. وحتمية تجديد الفكر الديني بضرورة الواقع وبتوجيه الدين.. السمة الخامسة للتشدد: ضعف الإحساس الاجتماعي.. فالتشدد الديني ينطلق من أفكار دنيوية لكنه يعطيها قدسية!!.. ومن أجلها لا يراعي المجتمع الذي يعيش فيه.. بل ويصادمه استعلاءً بما لديه من ادعاء امتلاك الحقيقة على أرضية الفكر التنويري.. فيبقى التشدد العلماني-بذلك- معزولا ومنبوذا ونخبويا.. حتى وإن وظّف إمكانيات الدولة في مراحل معينة.. وبالمقابل فإن التشدد الديني يتمسك بأفكار -وإن كان لها أصول دينية- إلا أنها في أجزاء كثيرة منها هي أفكار اجتهادية بشرية.. ومع ذلك يعطيها قدسية لا تملكها!!.. وفي سبيلها لا يراعي المجتمع الذي يعيش فيه.. بل ويصادمه استعلاءً بما لديه من ادعاء امتلاك الحقيقة على أرضية الفكر الديني.. بما يخالف الدين نفسه الذي - وإن كان يمتلك رؤى يعطيها قدسية - إلا أنه لا يدعو للاستعلاء بها على الناس فضلا عن إكراههم عليها.. فيبقى التشدد الديني-بذلك- معزولا ومكروها وهامشيا.. حتى وإن يلقى بعض الرواج في مراحل معينة.. السمة السادسة للتشدد: إنكار بعض الثوابت الإنسانية والدينية.. مما يوقع هذا التشدد في أخطاء فكرية وعملية قاتلة.. فالتشدد العلماني ينكر ثابت أن الدين ضروري للبشر.. وأن الإنسان حيوان متدين كما عبر عن ذلك بعض الفلاسفة.. كما أن التشدد العلماني ينكر أن الدين في مجتمعاتنا بالذات له حضور قوي.. وإن فتر هذا الحضور في مراحل معينة.. هذا الإنكار أوقع التشدد العلماني في خطإ السعي لعزل الدين عن الثقافة والسياسة والمجتمع.. ولما فشل في ذلك وقع في خطيئة الاستبداد باسم الحداثة!!.. وعوض أن نشهد التلازم بين العلمانية والديمقراطية كما حدث في الغرب.. فإن ما حصل في بلادنا هو هذا التلازم المأساوي بين العلمانية والاستبداد.. وفي المقابل فإن التشدد الديني ينكر ثابت أن الشعوب لها توق فطري للحرية.. وللتعددية الفكرية.. وللمشاركة في الحياة العامة.. كما أن التشدد الديني ينكر ثابت أن الالتزام الديني لعامة الناس هو أقل مواصفات من التزام الخاصة.. وهو هنا ينسى أن الدين نفسه يرضى من عامة الناس الحد الأدنى من التدين.. هذا الإنكار أوقع التشدد الديني في خطإ السعي لتنميط وقولبة الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.. ولما فشل في ذلك وقع في خطيئة تبني الاستبداد باسم الدين!!.. السمة السابعة للتشدد: اختيار الرأي الأكثر تشددا بين الخيارات المتاحة.. فالتشدد العلماني يتبنى العلمانية على الطريقة الفرنسية اليعقوبية المعادية للدين.. ويتبنى الطريقة الكمالية في تركيا أيام عنفوانها الأول في صدامها مع ثقافة الشعب التركي.. في حين توجد خيارات علمانية أخرى متعايشة مع الدين.. مثل العلمانية في البلاد البروتستانتية الانغلو ساكسونية.. كما في بريطانيا حيث الملكة هي في الوقت نفسه رئيسة الكنيسة.. وبالمقابل فإن التشدد الديني يتبنى منهجية ثابتة تميل للشدة والغلو.. بحيث ما خُيّر بين رأَيين فقهيّيْن إلا اختار أكثرهما تشددا.. في حين أن المنهج النبوي هو على العكس من ذلك تماما.. لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما ذكرت السيدة عائشة.. تلك بعض سمات التشدد بنوعيه العلماني والديني.. ولعل مناسبات قادمة تتيح ذكر سمات أخرى.. والأهم من ذلك هو ضرورة السعي العام لتفعيل الحل الثقافي والفكري في مواجهة التشدد بشقيه.. وعدم الاكتفاء بالحل الأمني.. لأن تدعيم الخط المعتدل في المجتمع والسياسة لا يكفيه مجرد التذكير السطحي باعتدال التوانسة!!.. بل المطلوب أكبر من ذلك.. المطلوب ترسيخ الاعتدال وتوسيعه في مجتمعنا بالعمل على تأصيله ثقافيا وفكريا ودينيا.. وذلك بالإضافة لتجفيف ينابيع التشدد بالقضاء على أسبابه الاجتماعية والاقتصادية.. المعركة الفكرية الحقيقية مع التشدد لم تبدأ بعد.. وهي معركة عميقة وطويلة ومضنية.. وتلك طبيعة العمل الثقافي.. وفي هذا الباب فإن ما نراه إلى حد الآن لا زالت تغلب عليه المحاولات الفردية.. وربما السطحية.. وهيمنة السياسي على الثقافي.. فمتى تصل الثورة إلى الثقافة؟؟.. ومتى تصل الثورة إلى أعماق المجتمع؟؟.. ومتى تصل الثورة إلى أعماق الفكر؟؟..