تمثل التلفزة والتلفاز لدي التونسي المعاصر فتحة أساسية قد تبدو الحياة بدونها رتيبة لا تطاق، لا سيما والشارع قد أفرغ من جاذبية حيويته بمحض النمو الحضري الهجين مع تزييف للمدينة وانقلاب في سلم القيم الأخلاقية، إذا استثنينا المراكز التجارية ال مودرن التي لا حداثة فيها إلا من الجانب الإستهلاكي لتصبح مرتع المستورد أو المحلي الذي يقلد المستورد ليحصل علي رضي المستهلك الذي تعتمل فيه الإعلانات التلفزية. وهكذا، تنغلق الدائرة علي نفسها. وقد بينت دراسة قامت بها الشركة التونسية للكهرباء والغاز ستاغ ، (وهي الأحرف الأولي لإسم الشركة باللغة الفرنسية) أن جهاز التلفزة يأتي في المرتبة الإستهلاكية الثانية بعد الثلاجة وبمعدل 227 كيلوات في الساعة ويشتغل ست ساعات يوميا وأن بتونس مليونين وثلاث مئة ألف جهاز تلفزي قيد الإستغلال، 94 في المئة منها أجهزة ملونة و70 في المئة منها مرتبطة باللاقطات الهوائية التي هي في أغلبها رقمية... مع العلم أن رئيس الدولة ألغي مؤخرا ضريبة الهوائيات. أما التونسي، وبحسب دراسات أخري، فإنه يشاهد التلفزة بمعدل ثلاث ساعات يوميا.. آخر الدراسات الميدانية التي قامت بها شركة ميديا سكان (إلياس عبد الجواد) بتونس الكبري بين 3 و9 ايار/مايو الماضي عبر عينة بها 3150 تونسيا وتونسية وبنظام الإستجواب بينت أن القناة الوطنية تونس 7 تأتي علي رأس سلم المشاهدة بنسبة 24.6 في المئة (أي 320 ألف متفرج إن اعتبرنا أن واحد في المئة يعادل 13 ألف مشاهد) تتبعها قناة حنبعل الخاصة بنسبة 18.9 في المئة (246 ألف متفرج) ثم تأتي قناة الجزيرة الإخبارية بنسبة 7.6 في المئة (99 ألف متفرج) تليها روتانا سينما بنسبة 6 في المئة (78 ألف متفرج) فيما نجد القنوات الفرنسية (الأولي والسادسة والثانية) في المراتب الخامسة والسادسة والتاسعة. قناة 21 الشبابية، والتي لم تعد شبابية إلا إسميا، حصلت علي نفس نسب مشاهدة الأولي المصرية واللبنانية أل بي سي (1.8 في المئة). أفضلية أم فضول؟ إجماليا، قيمة هذا السلم تدل علي ضعف كثافة المشاهدة وعلي ترتيبها. أن تكون القناة الأم علي رأس القائمة وأن تتبعها القناة الخاصة، فذلك طبيعي جدا وعادي جدا ولا داعي ليتغني الديك بجناحيه. في خضم وضوضاء الفضائيات ال2500، يبحث التونسي كما غيره عن موقعه في حرب الصورة التي عملت علي محو الفوارق والحدود والتشديد علي الخصوصيات. هذا الترتيب لا يعني الأفضلية بقدر ما يعني الفضول للتأكد من وجود صورة المجموعة الوطنية التونسية عبر لغتها ورؤيتها التلفزية (حكي وصورة) قبل الإبحار نحو آفاق كاتوديكية عربية أو غربية بحثا عن الضالة المنشودة ليعود ثانية إلي نقطة الأصل ويذهب عنها مرة أخري. وبعد التوقيف المفاجيء لبرنامج دليلك ملك لسامي الفهري والإعلان عن عودته في رمضان المقبل دون أي سبب، وهو البرنامج الذي تربع علي قمة سلم المشاهدة لجهة المبالغ الضخمة المطروحة للربح لا غير، يكون أول برنامج يواظب التونسي علي مشاهدته هو سيتكوم شوفلي حل للثنائي حاتم بلحاج/صلاح الصيد بنسبة 23 في المئة. هذا المسلسل به توابل النجاح لجهة الممثلين (كمال التواتي/سفيان الشعري/مني نور الدين وآخرون) ولجهة الموضوع الذي يلازم السلوك العلمي (علم النفس) للسلوك الغيبي (قارئة الطالع) لا سيما وقد تفاقمت ظاهرة الركون للغيبيات وتكاثرت الإعلانات عن العلماء والعالمات الروحانيين والروحانيات وكل ذلك عبر عائلة وجيرة ومشاكلها. والغريب في الأمر أن برنامجا إقتصاديا يبث أسبوعيا بعد النشرة المسائية الأولي حصل علي معدل مشاهدة هام يقدر ب20.9 في المئة، وهي نسبة مفاجئة. ولو نظرنا مليا إلي النتائج، لبانت عادية جدا إذ أن دراسة قام بها مركز الأسرة والعمران البشري مؤخرا حول قيم الشباب التونسي أظهرت أن قمة سلمه القيمي تتمثل في العائلة والمال والدين في حين يأتي الوطن أو الإنتماء للمجموعة الوطنية في آخر السلم. وهو أمر خطير يذهب عكس ما تريده الدولة في وضع الوطن صلب اهتمام الشباب التونسي. وهذا ما جعل المجلس الأعلي للإتصال يدرس كيفية وضع إستراتيجية تحسين صورة الوطن لدي الشباب التونسي... تلي هذا البرنامج الإقتصادي مجموعة من البرامج الروائية/التوثيقية مثل إعادة بث مسلسل منامة عروسية للثنائي علي اللواتي/صلاح الصيد (20.1 في المئة) و نجم المدينة للثنائي وليد التليلي/نعيم بالرحومة (16.9 في المئة) و ألبوم التلفزة لبية الزردي/الشلغمي (7.3 في المئة) و صورة/صوت الذي أعده ويسهر علي إخراجه الصديق كمال يوسف (5.6 في المئة). أما من الجانب الإخباري، تجدر ملاحظة صعود نجم المجلة الإخبارية المنظار وتفوقها علي النشرة الإخبارية الرئيسية (16.0 في المئة مقابل 11.1 في المئة) التي في بلاد غير البلاد العربية تمثل البوصلة التي من خلالها يوجه المواطن شؤونه. كما نري، الفارق كبير بين النسبتين وقد يكون سببه أن النشرة الإخبارية، حتي في فقرة شواغل الشارع ، باتت محل مراقبة مرضية من طرف الإدارة التي تذهب في عديد الأحيان إلي مراجعة التعليقات وتنقيتها مما تعتبره مسيئا لصورة النظام أو تغض الطرف مثلا عما يعتمل في الشارع التونسي مثل الإضرابات التي تعلن عنها جريدة الشعب (لسان المركزية النقابية) أو أحداث المحامين والقضاة وغيرهما. وقد طالت هذه الرؤية الرقابية البرنامج الحواري ملفات الذي لم يحصل إلا علي 8.2 في المئة من إهتمام التونسي، أي أن 106 آلاف تونسي يشاهدونه فقط... وهذا الرقم الهزيل دلالة واضحة علي غياب الحوار أو فشله وعدم مصداقيته مثلما حصل في حلقتين مع وزيري القضاء والتعليم العالي وباتتا محل تندر الشارع. فرح أصبح مأتما؟ من المعاني التي تشيعها الصورة المتلفزة التونسية علي القنوات الثلاثة (تونس7 وحنبعل وقناة 21) أن تونس هي بلد الفرح الدائم أو ابتسم، إنها تونس وما إلي ذلك من الشعارات السياحية الدعائية... ولو ألقينا نظرة علي البرامج الترفيهية الموسيقية الغنائية لوجدنا أن هذه المعاني بليت نوعا ما ولم تعد تصيب أهدافها. ان تحصل منوعة مساء السبت غير المباشرة موزيكا وفرجة من إعداد وإخراج خلف الله الخلصي وتنشيط هيكل الشعري والتي تعول عليها الإدارة التلفزية لإنعاش الشباب التونسي، أن تحصل هذه المنوعة علي 10.7 في المئة (139 ألف مشاهد)، فهنا خسارة كذلك. ولو تعلق الأمر بها وحدها، لقلنا أن في الحالة إستثناء. إلا أن المنوعة الأحدية المباشرة كوكتيل الأحد ليسر الصحراوي/عبد الجبار البحوري هي كذلك في حالة مزرية حصلت فيها علي نسبة 7.1 في المئة، أي 92 ألف مشاهد. ونذهب أكثر من ذلك للقول بأن المنوعة التي بثتها تونس 7 بمناسبة مرور أربعين سنة علي انبعاثها كانت الضربة القاضية للجانب المنوعاتي الترفيهي للتلفزة التونسية. أن تكون لمؤسسة ما، وخاصة الإعلامية الترفيهية منها، أربعون سنة من النشاط مرت خلالها بأنظمة مختلفة وبوجوه إعلامية متعددة وبأساليب صحافية وتنشيطية عديدة وشهدت تغيير الوجه العام في البلاد فإن ذلك زادا لا يمكن تقديره وتقييمه... إلا أن المنوعة التي أعدتها وأنجزتها وبثتها التلفزة التونسية بهذه المناسبة وفي إرتجال وركض غير معهودين، بينت أن صناعة الفرحة لم تعد تونسية وأن التلفزة كانت قاتلتها أو في الحقيقة الشاهدة علي قتلها. إضافة لذلك، أظهرت إدارة التلفزة أنها لا تؤمن بالتراكمات المرئية والصوتية خوفا من أن تندس بين صورة وأخري صورة غير مرغوب فيها أو أن يكون من بين الضيوف ضيفا لا يروق وجهه لمسؤول ما... أول هذه الخطايا أنها أوكلت إعداد وإخراج المنوعة إلي المخرج بلغيث الذي لم يشتغل علي مثيل لها منذ ما يقارب 15 سنة، بل هو متقاعد منذ مدة. ثانيا أن التنشيط تعهدت به كل من أسماء بالطيب (تقول في أحدي الجرائد السيارة أن الأمومة هي التي حرمتني من التنشيط !) وبيه الزردي، صاحبة برنامج ألبوم التلفزة . ومنذ الوهلة الأولي، ظهر عدم التنسيق جليا بين المنشطتين حيث ذهبت كل منهما إلي جذب الحبل إليها... وزايدتا في أفعال التفضيل وشكر رئيس الدولة لجهة إهدائه المبني الجديد للتلفزة التونسية، مبني كان في الأساس مخصصا لجامعة الدول العربية قبل عودتها إلي القاهرة، وإن كان الإحتفال بالذكري الأربعين (وليس ب الأربعينية كما قالت منشطة) وبالمبني مشروعا، إلا أن المغالاة وتصنع الفرحة لا يخدمان لا الترفيه ولا التلفزة ولا سياسة الدولة... ولو ألقينا نظرة واحدة علي وجوه الضيوف لشعرنا أننا في مأتم، ذلك أن الوجوه تنتظر أن تتدخل دون تخطيط مسبق، واحد يلوك علكة أمام الكاميرا، أخري يدها علي خدها، ثالثة (وهي السيدة نعمة) رفضت الغناء لأنها تابت ولبست لباسا شبيها بلباس الجواري في أفلام ال بيبلوم . أما الديكور، فقد كان هزيلا، فقيرا، غير معبر، ناهيك عن المؤثرات الخاصة ولو أتينا إلي جهة الأغاني، فحدث ولا حرج. وكأن إدارة التلفزة التونسية الحالية نسيت أنها تحتفل بذكري انبعاثها، فغلبت الدعاية علي الفرح. وهذا ذنب كبير في حق المتفرجين التونسيين الذين، رغم هشاشة كثافتهم (320 ألف) يسبحون نحو قنوات أخري ولكن الحنين الملعون يرجعهم إلي أصلهم التلفزي: تونس 7. هو الحب بمعني محنة للصورة والبحث عنها. ناقد وإعلامي من تونس