تزداد الضغوط الأميركية على سوريا هذه الأيام ،و هي ضغوط مستمرة منذ أن طلب كولن باول وزير الخارجية الأميركي السابق في أيار من عام 2003 إنهاء دور سوريا الإقليمي في لبنان وفلسطين والعراق، ووضعه في خدمة السياسة الأميركية تجاه المنطقة. ويعتقد المحللون العرب أن إثارة قضية وجود أنشطة نووية سورية من جانب إدارة الرئيس بوش تستهدف الضغط على دمشق، لحملها على القبول بالسياسة الأميركية الإسرائيلية في المنطقة. إذ إن هذه الاتهامات الأميركية الجديدة سببها مواقف دمشق، حليفة طهران، من القضية الفلسطينية ومن احتلال العراق . وعلى الرغم من هذه الضغوطات الأميركية والعزلة الخانقة التي تعيشها سوريا و هي الدولة التي لطالما اعتبرت نفسها مفتاح الشرق العربي، وبيضة قبان الصراع العربي- الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، ونقطة توازن الشرق والغرب في العالم العربي، والجهة التي تمسك بالتوازنات العربية والإقليمية، منذ أن أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي – الصهيوني ، فإن سوريا لا تزال متمسكة بثوابتها الوطنية و القومية تجاه أزمات المنطقة,و لاسيما بعد أن أصبحت إدارة الرئيس بوش ترى في سوريا عقبة كأداء فيما يتعلق بخلق نظام اقليمي جديد في الشرق الأوسط يقوم على حطام النظام السابق الذي كان هشا و مفبركا بدرجة غير قليلة . ومؤخرا قررت الولاياتالمتحدة، خلافا لرأي أجهزة الأمن الإسرائيلية، نشربعض تفاصيل الغارة الإسرائيلية على منشأة سرية في شمالي سوريا في سبتمبر2007. وأعلن وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس أن الغموض سيتبدد وبشكل محدد، "قريبا"، بشأن الغارة الإسرائيلية على شمالي سوريا. وسربت أجهزة الاستخبارات الأميركية لوسائل الإعلام أن المنشأة هي في الحقيقة منشأة كورية شمالية لإنتاج البلوتونيوم. و رأى المحللون في الولاياتالمتحدة أن الإدارة الأميركية، وخلافا للاعتقاد السائد، لم تتعامل مع الأمر بوصفه مسألة تتعلق بكوريا الشمالية وإنما ركزت على أنه تطور يتعلق بالحكومة السورية ومشروعها النووي. وينسف الكشف الأميركي سياسة الغموض التي انتهجتها الحكومة الإسرائيلية، طوال أكثر من سبعة شهور، حيال هذه الغارة. وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت قد أعلن، حتى في المقابلات الصحافية لعيد الفصح قبل أيام، أنه لا يعلم شيئا عن هذه المسألة. وثمة اعتقاد في إسرائيل بأن الكشف عن هذه القضية، في هذا الوقت بالذات، قد يكون مرتبطا بالاتصالات التي تجريها إسرائيل مع سوريا وبرغبة أميركية في إحباطها. ومن المعلوم أن إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش حظرت على إسرائيل إجراء اتصالات مع الحكومة السورية. وياتي الكشف الأميركي عن المنشأة النووية المزعومةليشكل إزعاجاً كبيراً للإسرائيليين. فمن المعلوم أن إدارة الرئيس بوش لا تريد لربيبتها إسرائيل فتح مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع دمشق تتعلق بالانسحاب من الجولان ، لأن هذا يتناقض كليا مع استراتيجية الحصاروالعزلة التي تطبقها واشنطن ضد سوريا منذ سنوات.كما أن الذي أثار حفيظة إدارة الرئيس بوش و حنقها ، هو تأكيد دمشق أن ثمة وعداً إسرائيلياً جديداً بالانسحاب التام من هضبة الجولان السورية المحتلة. وكانت صحيفة "الوطن" السورية قد نشرت يوم الجمعة الماضي أن أردوغان اتصل أمس الأول بالرئيس السوري بشار الأسد وأبلغه استعداد أولمرت للانسحاب التام من هضبة الجولان، في مقابل السلام مع سوريا. وأكدت وزيرة المغتربين السورية بثينة شعبان هذا النبأ في مقابلة مع قناة "الجزيرة"، قائلة ان "اولمرت مستعد لاحلال السلام مع سوريا على اساس الشروط الدولية وعلى أساس إعادة مرتفعات الجولان كاملة لسوريا" مضيفة أن الرسالة الخاصة بالجولان نقلت من خلال تركيا. وبرغم الإثارة الكبيرة الكامنة في هذه الأنباء، فإن معلقين يعتقدون أنها جزء من "لعبة أمم" فيها الكثير من الفعل وردود الفعل. من هنا جاء رد فعل الإدارة الأميركية سريعا على الاتصالات هذه بشأن استئناف العملية السلمية مع سوريا، عبر إثارة ما يسمى المشروع النووي السوري.فالهدف من كشف هذا الملف هو بكل تأكيد من أجل تقويض الاتصالات الإسرائلية - السورية ،ولاسيما أن إدارة الرئيس بوش ترفض تجدد المفاوضات بين إسرائيل وسوريا في هذا الوقت بالذات. وثمة من يعتقد أن إصرار الأميركيين على نشر تفاصيل الغارة، وتقريرالاستخبارات الأميركية بخصوص المشروع النووي الإيراني وكشف قضية الجاسوس الإسرائيلي في الولاياتالمتحدة كاديش بن عامي، جميعها تشهد على وجود "تمرد موظفين" في أميركا ضد سياسة إدارة بوش. و لعل السياسة الأميركية في استقطاب الحكام العرب ضمن استراتيجية الحرب على الإرهاب, خاصة بعد أن احتلت العراق, و ارتمت ليبيا في أحضان المعسكر الغربي ,إنما تهدف إلى كسر ما تبقى من شوكة العرب القومية, من خلال ممارسة الضغوط على دمشق التي سارت في خط تدريجي متصاعد: تصعيد كلامي ثم إقرار قانون معاقبة سوريا ثم تطبيق القانون رغم رزمة من مطالب استجابت لها دمشق،وصولا إلى القرار 1559 الذي يعتبر علامة الذروة في تصعيد لم يعد قادرا على الرجوع إلى الوراء ،ولاسيما أن القرار المذكور صادر عن مجلس الأمن . و مع انهيار كل مراكز الرفض العربي في أعقاب الحرب الأنكلو-أميركية على العراق، و سيادة منطق و مفهوم الاستجابة لمتطلبات و شروط المرحلة الجديدة ، المتمثلة في تطبيع العلاقات العربية-الأميركية – الصهيونية ، بإملاءات الواقع و انخراط الحكم العربي الرسمي في هذا المسار على خلفية وحدانية الولاياتالمتحدة الأميركية ، بدأت تمارس الضغوطات القوية على سورية بهدف نزع أسلحة سورية السياسية ، و تحجيم قواتها العسكرية فكان إخراجها من لبنان ، وصولاً إلى فصل السياسة اللبنانية عن السياسة السورية ، بهدف إرغام اللبنانيين على توقيع اتفاق مع الكيان الصهيوني على غرار اتفاق 17 ايار 1983 . و من استهدافات الضغوطات الأمريكية-الصهيونية على سوريا التصدي لحزب الله ، وتجريده من السلاح ، علما بأن سياسة حزب الله متسقة مع السياسة السورية ، بقدر ما تكون دمشق متسقة مع السياسة الإيرانية في النطاق الإقليمي . لكن هناك اطرافاً دولية و عربية تقودها الولاياتالمتحدة لن ترضى إلا بقطع رأس الحربة في سوريا كما قطعوه في العراق، فهؤلاء ليس هدفهم تحرير لبنان وعودته إلى حياته الطبيعية الحرة الديمقراطية التي عهدها قبل ،1975 وإنما هدفهم الأساسي اسقاط نظام الحكم في سوريا باعتباره النظام العربي الوحيد الذي لا يرضى اتباع أسلوب الخنوع والتبعية لواشنطن، وما زال يدعم المقاومة العربية. هذا هو بيت القصيد. يعتقد المحللون العرب أن خيارات سوريا لمواجهة الضغوط الأمريكية تحتاج إلى قراءة متأنية و عقلانية للمتغيرات التي طرأت على النظام الدولي منذ نهاية الحرب الباردة.. وعلى الرغم أن سوريا تعاونت مع الولاياتالمتحدةالأمريكية في الحملة على الإرهاب ولم تعمد إلى وضع العراقيل الجدية ، و أكدت مرارا أنها تريد التفاهم و الحوار لا المجابهة مع واشنطن ،فإن صقور الإدارة الأميركية الذين تتمركز معاقلهم بصورة أساسية في القيادة المدنية للبنتاجون، وفي مكتب ديك تشيني، ظلوا يتهمون سوريا بأنها تطور برنامج أسلحة الدمار الشامل، و ترفض طرد الفصائل الفلسطينية المقاومة و إغلاق مكاتبها في دمشق، و يثيرون مسألة إخفاق سوريا المزعوم في التعاون الكامل مع الاحتلال ليبرروا بذلك انتهاج سياسة "تغيير النظام" في دمشق .على أية حال، هم يقولون على سوريا أن تختار بين خيارين: الأول خيار القذافي الذي يعني الخضوع الكامل. والثاني خيار صدام حسين الذي يعني الإنتحار السياسي. فسياسة الإدارة الأمريكية تستهدف بالدرجة الرئيسة تأمين حماية الأمن الأمريكي بالتلازم مع الأمن الصهيوني, و القضاء على ماتسميه الإدارة الأمريكية بؤر الإرهاب ، الذي يدخل في سياق تحقيق الهيمنة الأمريكية وتلبية مطالب المجمع الصناعي العسكري، وضمان التفوق الصهيوني الحاسم على الدول العربية، ونزع عقيدة القومية العربية في العالم العربي. *كاتب من تونس