الصحبي عتيق * لقد كان النّصّ (الوحي بالمفهوم العام) يؤسّس المفاهيم ويحكم على الواقع وكان التّعامل معه مباشرا في مرحلة النّبوّة والخلافة الرّاشدة، أمّا بعد ذلك فقد «ارتّد» المسلمون عن المنهج وخاصة في المجال السّياسي، وسادت مفاهيم غريبة عن روح النّصوص ومقاصد الشّريعة الإسلامية، فبرز الانتماء القبلي على حساب الاجتماع الإسلامي والانتماء لسلطة النص واعتماد الوراثة في الحكم على حساب الاختيار الحرّ الأمّة وساد الجبر والمهادنة (الجبريّة) والهرب من الواقع (المرجئة) على حساب مقارعة الظلم والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ومسؤوليّة الإنسان وإرادته (كمال عمران في ندوة جدليّة النّقل والعقل في الفكر الإسلامي) وحكم الفرد على حساب المؤسسات، فظهر الاستبداد ولم تعرف الشّورى وضوحا في المفهوم ولا سبلا جليّة في التطبيق، وظهرت أشكال من الفساد والحيف وإيثار للمصلحة الفرديّة على حساب المصلحة العامّة والعدل والأمانة، فالإسلام يدعو إلى تحرير العقل من رقّ التّبعيّة والتّقليد والأغلال, يقول الإمام محمد عبده: «إن الدّين المملوء بالخرافات والعقل المستنير لا يجتمعان في دماغ واحد»، ولذلك ندّد القرآن الكريم بكلّ مظاهر التّبعيّة «وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مقتدون» (الزّخرف-23). ومن هنا يمكن القول: أوّلا: الإسلام عقيدة وشريعة، أيّ -تصوّرا كونيّا ونظاما أخلاقيّا واجتماعيّا وسياسيّا- هو ثورة حرّرت الإنسان من كلّ أنواع العبوديّة, عبوديّة الخرافة والجهل والهوى والغرائز والأغراض الوضيعة ومن كلّ ألوان الاستبداد والاستغلال وامتهان الكرامة والإذلال, فالإسلام سيْر نحو مطلق كلّه علم وقدرة وعدل وغنى، وبالتّالي فهو كفاح ضدّ الجهل والعجز والظّلم والفقر وتقوية للشّعور بالقوّة والإرادة استلهاما من قوّة الله وإرادته التّي لا تقهر (علي الشّامي: الحضارة والنّظام العالمي). ثانيا: الإسلام يجعل أساس الإيمان حريّة الاعتقاد المعبر عنها بإقرار القلب وتسليمه بعد الاستدلال والنّظر والاختيار ولا يبيح التّقليد في الاعتقاد، ولذلك لم يمارس إرهابا فكريّا ولا خاض حربا للاضطهاد الدّيني، بل تشهد كتب التّفسير وأسباب النّزول أن أوّل يوم خطر فيه على بال بعض المسلمين الإكراه على الإسلام نزل فيه قوله تعالى «لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغيّ» (البقرة-256) (يوسف القرضاوي غير المسلمين في المجتمع المسلم) ذلك أن كثيرا من أبناء الأنصار تهوّدوا في الجاهليّة، ولمّا أجليت بنو النّضير كان فيهم هؤلاء الأبناء، فرفض الآباء ترك أبنائهم يخرجون مع اليهود، فأنزل الله تعالى قوله «لا إكراه في الدّين» (ابن كثير 1/ 316- وابن عاشور التحرير والتّنوير 3/26) ونفي الإكراه خبر في معنى النّهي، وهذه من صيغ النّهي كالأفعال الدّالّة على النّهي صراحة وكاستعمال أدوات النّهي والاستفهام الإنكاري الدّال على النّهي وغيرها من الصّيغ اللّغويّةن وهذه الصّيغة (لا إكراه في الدّين) نكرة في سياق النّفي وهي من صيغ العموم الواضحة «وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصّا «(ابن عاشور 3/26)، ويرجّح الإمام ابن عاشور أن الآية محكمة، أي غير منسوخة، بل يؤكّد أنّها ناسخة لآيات القتال الواردة في سورة التّوبة (ابن عاشور 3/26 - محمد رشيد رضا المنار 3/31) ويقول الإمام محمد عبده «هذه المسألة ألصق بالسّياسة منها بالدّين لأن الإيمان -وهو أصل الدّين وجوهره- عبارة عن إذعان النّفس، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه وإنّما يكون بالبيان والبرهانن ولذلك قال تعالى بعد نفي الإكراه «قد تبيّن الرّشد من الغيّ» (محمد رشيد رضا المنار 3/31) والآيات كثيرة في هذا السّياق: «قد جاءكم بصائر من ربّكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ» (الأنعام-107) «وما أنت عليهم بجبّار» (ق-45) «لست عليهم بمصيطر» (الغاشية-22) «إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب» (الرعد- 40) «ولو شاء ربك لآمن مَنْ في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» (يونس-99) «وقل حقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف-29) «قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون» (هود-28). وإذا كان الدين هداية اختياريّة، فحريّة الاعتقاد مكفولة في الإسلام ولكلّ إنسان حقّ في عدم التّعرّض للضغط والقمع أو التّدخّل في شؤونه المتعلّقة باعتناق دين معيّن من حيث التصوّر لله والكون والإنسان، بل يدخل في حرية الاعتقاد التّصوّر الذي يرفض فكرة الدين أصلا (عبد الرّحمن الحلي: حرية الاعتقاد في القرآن الكريم). • كاتب وباحث من تونس