في مثل هذا اليوم - الأول من فبراير/شباط من عام 1979- غادرت طائرة ركاب خاصة تابعة لشركة "إيرفرانس" مطار شارل ديجول بباريس، متوجهةً إلى طهران، وعلى متنها الزعيم الإيراني الإمام الشيعي آية الله الخميني ومرافقوه، بعد 15 عامًا قضاها في المنفى، وسط إجراءات أمنية لم يسبق لها مثيل اتخذتها السلطات الفرنسية، حيث أحاطت بالخميني مجموعات ضخمة من قوات الأمن حتى إقلاع الطائرة. والإمام الخميني هو زعيم الثورة الإسلامية في إيران، وقد شكلت حياته التي امتدت تسعة وثمانين عامًا فترة مهمة في تاريخ إيران الحديث، فالرجل لم يكن مجرد فقيه أو عالم دينٍ شيعيٍّ فقط، وإنما كان شخصية جمعت بين الزعامة الدينية؛ والزعامة الثورية، شخصية احتشدت خلفها كل القوى الإيرانية المختلفة، لتكتب في تاريخ إيران فصلاً مغايرًا لكل فصوله، مليءٌ بالأحداث التي لم تأثر على الداخل الإيراني فقط؛ وإنما امتدت آثارها إقليميًّا ودوليًّا.
ولد روح الله مصطفى أحمد الموسوي الخميني في 24 سبتمبر من عام 1900م، في قرية "خمين" التي تقع جنوب غربي مدينة "قم" الشهيرة، وكان أبوه أحد علماء الدين المعروفين، والذي قُتل على يد بعض عملاء أحد كبار الملاك، وكان عمر الخميني وقتها لم يتعدَّ شهورًا، فاعتنت أمه بتربيته؛ حتى وفاتها عام 1918م، فعاش مع أخيه الأكبر "باسند يداه موسوي"، وانضم إلى الحوزة العلمية لآية الله عبد الكريم الحائري، وهو من كبار علماء الدين في مدينة "آراك"، ثم انتقل مع الحائري إلى مدينة "قم"، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تقع فيها عيناه على تلك المدينة العلمية، فعاش في أحد مساجدها فقيرًا يفترش الأرض. وحصل الخميني على درجة علمية تسمى "محلة السطوح العالية"، وبدأ في مساعدة أستاذه في التدريس في مادتي الفلسفة والمنطق، ودرّس مقرر الأخلاق، إلاّ أن رجال الشاه منعوه من إلقاء هذه الدروس؛ بحجة أن دروسه مسيّسة.
وحينما وصل عمره إلى الخامسة والعشرين تزوج من سيدة تدعى "خديجة بنت محمد الثقيفي"، وأنجب منها "مصطفى"، الذي اغتالته المخابرات الإيرانية إبان عهد الشاه "السافاك"، وأحمد الذي كان من كبار مساعديه، وثلاث بنات، هن (فريدة وصادفة وفاطمة)، وقد تزوجن من علماء دين.
إرهاصات الثورة
كانت إيران تعيش حالةً من الاحتقان الشعبي الشديد؛ بسبب سوء الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في ظل قبضة حديدية للشاه "محمد رضا بلهوي"، لم تسمح بمعارضة حكمه، منتهجًا أساليب عنيفة لتصفية معارضيه، مثل الاغتيال والنفي والسجن، وكان فساد الشاه وأسرته وإسرافهم وبذخهم الشديد وقودًا يُشعل المعارضة ويزيدها قوة، وكان العلماء- وعلى رأسهم "آية الله الخميني"- من أكثر المعارضين لنظام الشاه وسياساته، وكان يرفض كل ما يصدره الشاه من قرارات، وما يصدره المجلس النيابي من قوانين، لأنه كان يرى أن النظام لا تنطبق عليه صفة الشرعية.
وحينما قام الشاه بإعطاء الحصانة السياسية للخبراء والمستشارين الأمريكيين؛ وأعلن عن ثورته البيضاء التي تهدف إلى إخضاع علماء الدين للدولة عن طريق سحب جزءٍ كبيرٍ من الأراضي التي يمتلكونها من الوقف؛ وتهديده كبار الملاك الزراعيين بنزع ملكياتهم؛ ومنح المرأة حق التصويت؛ استغل الخميني كل ذلك في الدعاية ضد الشاه وسياساته ، واتهمه بأنه ضد الشريعة والدستور، وأنه باع إيران للأمريكيين، وفي عام 1963 دعا الخميني إلى التظاهر والإضراب خلال الاحتفال بيوم عاشوراء، واستجابت الجماهير لنداءاته، وانقلبت مواكب عاشوراء إلى تظاهرات اصطدمت بقوات الأمن، وسقط ألفا قتيل من المتظاهرين، مما أظهر تأثير "الخميني" البالغ في الشعب، الأمر الذي أدى إلى إلقاء القبض عليه؛ ثم نفيه خارج البلاد.
غادر "الخميني" بلاده إلى منفاه في تركيا، وعاش فيها ما يقرب من أحد عشر شهرًا، لكنه اختار أن يعيش في النجف الأشرف بالعراق، ليبدأ في إلقاء الخطب والمحاضرات المؤثرة عن الأوضاع في إيران، وقد وجدت هذه الخطب صدى واسعًا بين الإيرانيين، وكان علماء الدين والمعارضة قد بدءوا في البحث عن وسيلة للإطاحة بالشاه، واختاروا لتحقيق ذلك حرب العصابات منذ مطلع عام 1970، وتكوَّنت جمعيتان ثوريتان، هما: "فدائيو خلق" الماركسية؛ و"مجاهدو خلق" التي قادها بعض الرجال ممن تعلموا على يد المفكر "علي شريعتي" الذي يعتبر المنظر الأول للثورة الإيرانية.
وفي عام 1974م حاول النظام العراقي استقطاب الخميني والحصول على تأييده أثناء خلافاته مع إيران، إلاّ أنه رفض ذلك، وفي العام التالي- وبعد توقيع بغداد وطهران اتفاقية الجزائر- طلب النظام العراقي من "الخميني" الكف عن معارضة الشاه، وإلا فالبديل هو الرحيل إلى أي مكان آخر، فآثر "الخميني" السكوت المؤقت حتى تتغير الأوضاع، لكن الشاه كرر طلبه إلى العراق بوقف نشاطات "الخميني"، فضغط عليه النظام العراقي حتى قرر الرحيل إلى الكويت، فصدر أمرٌ بإغلاق الحدود في وجهه، فعاد إلى النجف، ومنها إلى دمشق، وفي أكتوبر عام 1977م توجه إلى باريس ليستقر في بيتٍ صغيرٍ في ضاحية "نوفل لوشانو".
الخروج الكبير
في عام 1978م خرجت المظاهرات من مساجد "تبريز"، ولم تستطع قوات الأمن السيطرة عليها، فخرجت فصائل من الجيش، وسيطرت على الموقف، وفُرض حصارٌ على المدينة، إلا أن المظاهرات زادت حدتها، وطالبت بإغلاق المطاعم والبنوك الربوية. وفي الثامن من سبتمبر من نفس العام وقعت مصادمات بين الشرطة والمدنيين سقط خلالها أربعة آلاف قتيل، وسمي ذلك اليوم "الجمعة الدامي"، وأُعلنت فيه الأحكام العرفية، وفُرض حظر التجول، إلا أن المتظاهرين تحدوا ذلك في مدينة "قم"، وخرجت المظاهرات، وسقط أكثر من ألفي قتيل، وأعلن علماء الشيعة الحداد وامتنعوا عن الخطب، وحاول الموالون للشاه البحث عن حلول للمشكلات المتفاقمة في البلاد، إلا أن الشاه كان متعنتًا ورافضًا لما يقوم به المعارضون من أعمال، ووصفهم بالقتلة الخارجين عن النظام.
ودفع هذا التعنت من قِبل الشاه إلى مطالبة جميع القوى الوطنية بإسقاطه، وشاركهم في ذلك كبار التجار الذين يتمتعون بعلاقات قوية مع علماء الدين، وقد امتدت هذه الأحداث إلى أربعين مدينة في إيران، وقاطع الطلاب الدراسة، ورفض "الخميني" إجراء أي حوار سياسي مع الحكومة الإيرانية، فسقطت الحكومة، وكُلِّف رئيس الأركان "غلام رضا أزهري" بتشكيل حكومة جديدة.
وكان "الخميني" في أثناء ذلك يدرك أثر رسائله الصوتية في إشعال الثورة الإيرانية، وكان لنداءاته أثرها في الجيش، وطلب "الخميني" من الشعب الثائر ألا يصطدم مع الجيش تحت أي ظرف، وأعلن صيحته المشهورة: "لا تهاجموا الجيش في صدره، ولكن هاجموه في قلبه"، "إذا صدرت إليهم الأوامر بإطلاق النار عليكم؛ فلتعروا صدوركم، فدماؤكم والحب الذي ستظهرونه لهم وأنتم تسلمون الروح لبارئها سوف يقنعهم، فدماء كل شهيد هي ناقوس خطر يوقظ آلافًا من الأحياء".. هكذا استخدم الرجل كلمات تثير الوجدان، وأدرك نقاط الضعف في الجيش، فاستطاع أن يفصل بين الجنود والضباط، وتمكن من نزع الجيش من يد الشاه قبل قيام الثورة.
بمجرد وصول الخميني إلى طهران في الأول من فبراير عام 1979م قادمًا من منفاه في باريس؛ أعلن عدم شرعية حكومة "شاهبور بختيار"، وقام بتعيين "مهدي بازركان" رئيسًا للوزراء، فأعلن بختيار الحكم العسكري، فرد عليه "الخميني" بإعلان العصيان المدني، وخرج الشعب إلى الشارع، وتصاعدت حدة المواجهات، واستولى المتظاهرون على كمياتٍ كبيرة من أسلحة الجيش، فأعلن القائد الأعلى للقوات المسلحة الجنرال "قرباغي" استسلامه للخميني، وعادت القوات العسكرية إلى مواقعها، ومن ثمَّ أعلن الإمام "الخميني" قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، واختار "أبو الحسن بني صدر" كأول رئيس للجمهورية الإسلامية في يناير عام 1980م، إلا أن الخلافات تصاعدت بين الرجلين، فتم التصويت على عزله، وانتُخب "محمد علي رجائي" رئيسًا للبلاد.
وبادرت قيادة الثورة في البداية إلى إعدام كبار الجنرالات، وبعد شهرين أُعدم أكثر من 200 من كبار مسئولي الشاه المدنيين؛ بهدف إزالة خطر أي انقلاب، وأجرى قضاة الثورة من أمثال القاضي الشرعي "صادق الخلخالي" محاكمات افتقرت إلى أمير "عباس هوفيدا" رئيس الوزراء السابق لإيران، وبعد مرور عقد اغتيل في باريس رئيس الوزراء الأسبق "شاهبور بختيار".
وشهدت تلك الفترة العديد من المحاولات الانقلابية ضد "الخميني"، لكنها أُحبطت، كما شهدت هذه الفترة أيضًا بداية التوتر في علاقة إيران بالولايات المتحدة؛ بعد احتجاز أكثر من خمسين رهينة أمريكية داخل السفارة الأمريكية في طهران، فكان ذلك سببًا في قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وشهدت فترة ولاية "الخميني" على الجمهورية الإيرانية أيضًا اندلاع الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، وقد عاشت إيران الإسلامية في عزلة دولية بسبب سياساتها الرامية إلى تصدير ثورتها حتى وفاة "الخميني" في 3 يونيو عام 1989م؛ بعد عقدٍ كاملٍ أرسى فيه أسس دولة أصبحت- ولا زالت- تُمثِّل غصة في حلق الغرب. مصدر الخبر : محيط a href="http://www.facebook.com/sharer.php?u=http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=4028&t=الإمام الخميني.."كاريزما" أشعلت ثورة&src=sp" onclick="NewWindow(this.href,'name','600','400','no');return false"