رئيس الجمهورية يأذن بعرض مشروع نتقيح الفصل 411 من المجلة التجارية على مجلس الوزراء بداية الأسبوع المقبل    عضو هيئة الانتخابات: حسب الاجال الدستورية لا يمكن تجاوز يوم 23 أكتوبر 2024 كموعد أقصى لإجراء الانتخابات الرّئاسية    تونس حريصة على دعم مجالات التعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( أحمد الحشاني )    مسؤول باتحاد الفلاحين: أضاحي العيد متوفرة والأسعار رغم ارتفاعها تبقى "معقولة" إزاء كلفة الإنتاج    تونس تشارك في الدورة 3 للمنتدى الدولي نحو الجنوب بسورينتو الايطالية يومي 17 و18 ماي 2024    المنستير: إحداث اول شركة أهلية محلية لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين بجرجيس مخبأة منذ مدة (مصدر قضائي)    الترجي الرياضي يكتفي بالتعادل السلبي في رادس وحسم اللقب يتاجل الى لقاء الاياب في القاهرة    كاس تونس - النجم الساحلي يفوز على الاهلي الصفاقسي 1-صفر ويصعد الى ربع النهائي    الحرس الوطني: البحث عن 23 مفقودا في البحر شاركوا في عمليات إبحار خلسة من سواحل قربة    طقس... نزول بعض الأمطار بالشمال والمناطق الغربية    المنستير : انطلاق الاستشارة لتنفيذ الجزء الثالث من تهيئة متحف لمطة في ظرف أسبوع    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    ملتقى وطني للتكوين المهني    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    ليبيا: اشتباكات مسلّحة في الزاوية ونداءات لإخلاء السكان    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التأصيل والاستقلالية: العمل النقابي التونسي في سياق التحرّر العربي الإسلامي
نشر في الفجر نيوز يوم 14 - 06 - 2010

أحمد الكحلاوي يقدم قراءة جديدة في تاريخ العمل النقابي التونسي
إعداد: عادل الثابتي
حلقة جديدة من حلقات لقاءات الذاكرة الوطنية التونسية، التي دأبت مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات بتونس على تنظيمها منذ عشر سنوات.. حلقة مليئة بالجديد إذ لأول مرة في تونس يتم تنظيم لقاء فكري تُقدم فيه قراءة لتاريخ العمل النقابي، تُؤصل هذا العمل في بيئته الثقافية الوطنية. وكان صاحب هذه القراءة هو الأستاذ المناضل النقابي أحمد الكحلاوي الذي انخرط في الاتحاد العام التونسي للشغل خلال شهر أكتوبر 1970 وترأس لفترات طويلة النقابة العامة للتعليم الثانوي التقني ثم النقابة العامة للتعليم الثانوي إلى حدود سنة 1989.
وخرج كل الذين حضروا هذا اللقاء، الذي عقد يوم 13 مارس الماضي، بفكرة واضحة عن التطوّر الفكري الذي حدث للأستاذ أحمد الكحلاوي والتيار الذي ينتمي إليه في اتجاه العودة إلى قراءة تاريخ الحركة النقابية التونسية والوقوف على أهم ما يميزها. أقلام أون لاين حضرت هذه الندوة وسجلت أهم الأفكار التي عبّر عنها الأستاذ أحمد الكحلاوي في التقرير التالي.
رفع التعتيم عن الطابع الأصيل للعمل النقابي التونسي: الاستقلالية والأصالة
لئن كان هدف الدكتور عبد الجليل التميمي من خلال استضافة الأستاذ أحمد الكحلاوي على منبر مؤسسته هو فهم صيرورة عمل نقابة التعليم منذ السبعينات إلى اليوم، بحكم تحمّل الأستاذ الكحلاوي للمسؤولية الأولى فيها لسنوات طويلة ميّزت قمة نشاط هذه النقابة خلال السبعينات والثمانيات، فإن الأستاذ الكحلاوي أراد وضع الأمور في نصابها بتقديم قراءة كاملة لتاريخ العمل النقابي – طبعا من وجهة نظره – ليحاول وضع نضال هذه النقابة ضمن مسار الحركة النقابية التونسية، ومن ثمة يستخلص إيجابيات وسلبيات ما قامت به النقابة العامة للتعليم الثانوي طيلة تاريخها.
وضع الأستاذ الكحلاوي نشأة العمل النقابي التونسي ضمن سياق مقاومة التونسيين للمحتل الفرنسي منذ ولوج جنوده البلاد في شهر أفريل 1881 وتوقيع الباي اتفاقية 12 ماي 1881 ، إذ يقول الأستاذ الكحلاوي "منذ اليوم الأول للاحتلال الفرنسي في تونس برز تونسيون يرفضون الاحتلال ويواجهونه بالمقاومة المسلحة، وانفصل عديد الجنود عن جيش الباي والتحقوا بهذه المقاومة".
وأشار إلى بداية الحراك السياسي والثقافي الذي شهدته البلاد منذ مطالع القرن العشرين مع علي باشحامبة، وبالخصوص مع عبد العزيز الثعالبي الذي اعتبره الأستاذ الكحلاوي أب الحركة الوطنية التونسية ومؤسسها الأول، مضيفا أن الثعالبي عندما قرّرت سلطات الاحتلال الفرنسي نفيه إلى مصر قال "إننا في تونس لسنا شعبا أعزل بل نحن فرع من أمة عظيمة، لو عرف الحاكم الأبله من نحن لما قرّر إبعادي من وطني إلى وطني".
وتحدث الأستاذ الكحلاوي عن الدور الوطني الذي قام به عبد العزيز الثعالبي في تحريض التونسيين على التضامن مع الثورة الطرابلسية ضد الاحتلال الايطالي سنة 1911 وعن دوره في فلسطين خلال الثلاثينات (مؤتمر القدس 1931). وذكر أن الفلسطينيين اعتبروا الثعالبي ابن خلدون جديدا، وتحدث عنه المجاهد عز الدين القسام قائلا "إنه بطل عربي عظيم شارك معنا في الثورة المسلحة". وهنا عبّر الأستاذ الكحلاوي عن أسفه لمحو بورقيبة سنة 1956 اسم الثعالبي من أحد شوارع العاصمة. وشددّ الكحلاوي على البعد العربي الإسلامي لنضال عبد العزيز الثعالبي الفكري والسياسي، إذ درّس الرجل في بغداد ودمشق وعاش في القاهرة وجاهد في فلسطين.
وخلص الأستاذ أحمد الكحلاوي إلى أن هذه الظروف الوطنية والمناخ الفكري العام المرتبط بالأصول العربية والإسلامية هي التي نشأ فيها العمل النقابي التونسي على يد محمد بن علي بن مختار الحامي [محمد علي الحامي]. وبعد أن ذكّر بظروف نشأة الحامي في الجنوب التونسي وتنقله مع أبيه إلى العاصمة إثر وفاة والدته والتحاقه بأخيه في العمل بالسفارة النمساوية وتلقنه اللغة الألمانية، تحدث الأستاذ الكحلاوي عن مساهمة محمد علي في الثورة الليبية ومعايشته لأنور باشا قائد تلك الثورة.
وذكر أن محمد علي حاول المشاركة في المقاومة المغربية التي كان يقودها عبد الكريم الخطابي لكن الفرنسيين منعوه من ذلك، فتحول إلى مصر ثم إلى الأستانة في آخر الحرب الامبريالية الأولى. ثم انتهى به المطاف إلى مدينة برلين، حيث تابع دروسا في الاقتصاد السياسي وكانت ألمانيا تعيش حراكا نقابيا وسياسيا وثقافيا كبيرا يغلب عليه الطابع اليساري.
وعند عودته إلى تونس سنة 1924 وبعد تجارب فاشلة في إنشاء شركات تعاضدية، وعدم نجاح تجربة تعاضديات الاستهلاك التي أنشأها لعمال المناجم في فقصة، صحبة ابن بلدته الطاهر الحداد، قرّر محمد علي تكوين نقابة تونسية (جامعة عموم العملة التونسيين)، تدافع عن العمال التونسيين، وذلك لما رآه من حيف النقابات الفرنسية تجاه العمال التونسيين. فقصد مدينة المتلوي وخطب أمام العمال خلال شهر نوفمبر 1924 مستعملا خطابا أصيلا يفهمه العمال إذ قال لهم إن الله تعالى يقول "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر". وبعد أن حدثهم عن أمجاد الأمة العربية الإسلامية وعن معاناتهم وشقائهم قال لهم "فرأيت أن علاجكم يكون بتأسيس نقابة لكم".
ويضيف الأستاذ الكحلاوي أن محمد علي اتهمته السلطات الفرنسية عند اعتقاله سنة 1925 بالدعاية الدينية فرد عليها قائلا "إن هؤلاء الناس الذين التقيت بهم في المتلوي.. يحفظون القرآن وكلهم مسلمون. وهذا هو السبيل الوحيد لفتح مسالك أذهانهم ليسيروا منها إلى نور الحياة". ويستنتج الكحلاوي من سيرة محمد علي النقابية أن العمل النقابي الوطني ارتكز في نشأته على عاملين اثنين:
- الأول هو الاستقلالية إذ تفطن محمد على إلى أهمية تكوين نقابة مستقلة عن النقابات الفرنسية التي اعتبرها الأستاذ الكحلاوي سلاحا من أسلحة الاستعمار تستعمل لاضطهاد التونسيين وذكّر بالثلث الاستعماري الذي كانت النقابات الفرنسية تقبل به.
- أما العامل الثاني فهو الأصالة إذ رد على تهمة الدعاية الدينية بأنه استنجد بدينه وعروبته وقيمه حتى يقنع الناس بأهمية الانخراط في نقابة تونسية عربية أصيلة.
ونظرا لخطورة مثل هذا العمل الوطني على الاستعمار فإن هذه القيادة النقابية حوكمت ووقع نفي أغلب عناصرها.
وفي مواصلة لاستعراض تاريخ العمل النقابي التونسي تطرق الأستاذ أحمد الكحلاغوي إلى تجربة جامعة عموم العملة التونسيين الثانية التي قادها بلقاسم القناوي (1936 – 1939 ) فقال "رغم الموقف الانعزالي لرئيس هذه النقابة تجاه الإضراب الذي دعا له قادة المغرب العربي، احتجاجا على جرائم الاستعمار وعمليات التقتيل في حق الوطنيين المغاربة، فلقد برز في هذه الجامعة وطنيون، واستولى الحزب الدستوري الجديد على هذه النقابة واقتحم مقرها الهادي نويرة، وهؤلاء الوطنيين جمعوا بين المواقف الوطنية والدفاع عن الملف الاجتماعي من أمثال حسن النوري ذو الأصول الجزائرية.
التأسيس الثاني للعمل النقابي التونسي على خطى التأسيس الأول: استقلالية وأصالة أيضا
في حديثه عن تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل بعد تجربة جامعة عموم العملة التونسيين الأولى والثانية تطرق الأستاذ أحمد الكحلاوي إلى الأسباب التي قادت النقابيين التونسيين إلى تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل، خاصة وأن أبرز من ستفرزهم هذه العملية كقادة للمنظمة الجديدة كانوا منخرطين في النقابات الفرنسية. وركّز حديثه حول فرحات حشاد.
يقول الأستاذ أحمد الكحلاوي إن حشاد كان منخرطا في نقابة "الكنفدرالية العامة للشغل" الفرنسية (CGT) عندما كان يعمل بشركة النقل بالساحل، وهذه النقابة خطُّها استعماري وثقافتها استعمارية تغطى بشعارات الاشتراكية وتتحدث عن التقدمية وتمارس جرائم الاستعمار (الثلث الاستعماري [وهو أن العامل الفرنسي يتقاضى زيادة بثلث الأجر عن العامل التونسي وذلك مقابل نفس العمل وهي ضريبة تمييزية استعمارية تشجع بها فرنسا مواطنيها على المجيء إلى البلاد التونسية لترسيخ استعمارها وإدامته]).
واستمر انخراط حشاد مدة عشر سنوات. وفي آخر مؤتمر شارك فيه حشاد بعد رفع المنع القانوني أمام مشاركة الأهالي (les indigenes) في قيادة تلك المنظمة النقابية ترشح حشاد لقيادة إقليم صفاقس، إلا أنه أُسقِط، فاتصل به محمد النافع (قيادي في الحزب الشيوعي التونسي آنذاك) وطلب منه الصعود مكان شيوعي تونسي فرفض حشاد. وإثر ذلك قدم نقابيو صفاقس التونسيون انسلاخا جماعيا من النقابة الفرنسية وانطلقوا في تأسيس نقابات مستقلة. وتكونت النقابات المستقلة في الجنوب وفي الشمال.
ويشير الأستاذ الكحلاوي إلى أن هذه النقابات لم تكن أول النقابات المستقلة، لأنه كانت هناك الجامعة العامة للموظفين التونسيين التي تأسست سنة 1936 وفيها حوالي عشرين نقابة (منها العدلية والبريد والأشغال العامة...).
وأكد الكحلاوي أن دور رجال التعليم كان هاما في تأسيس الجامعة العامة للموظفين التونسيين، وأن تأكيدهم على استقلالية العمل النقابي كان واضحا. وشدّد على دور مدرِّسي جامع الزيتونة في إنشاء تلك الجامعة النقابية. وهنا بيّن أن الصراعات التي كانت بين الطلبة الزيتونيين الدستوريين والطلبة الزيتونيين الإسلاميين كانت في إطار مجهود إضعاف قدرة الأمة على المقاومة وخُطط الاستعمار والصهيونية في فصل المغرب العربي عن مشرقه. وطالب بضرورة فتح ملف الزيتونة التي قال عنها "إنها أنجبت أغلب قادة الثورة الجزائرية من أمثال عبد الحميد المهري وغيره".
وبيّن الكحلاوي الدور الهام الذي قامت الجامعة العامة للموظفين التونسيين صحبة اتحاد النقابات المستقلة بالجنوب واتحاد النقابات المستقلة بالشمال في تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 20 جانفي 1946، مضيفا أن رئاسة الشيخ الفاضل بن عاشور للاتحاد لم تكن مهمة شكلية. فالرجل كان نقابيا في نقابة جامعة الزيتونة ومدرسا وموسوعة. وكان له دور في تأسيس الجامعة العامة للموظفين التونسيين التي كان عضوا فيها، وكاتبها العام كان وراءه الشيخ محمد الفاضل بن عاشور. وخلال سنتين من رئاسته للاتحاد أقام الشيخ الفاضل بن عاشور الاجتماعات وزار العمال في جهاتهم. وأثناء زيارة إلى مدينة صفاقس ردّ الشيخ الفاضل بن عاشور على سؤال: كيف لرجل معمَّمٍ أن يرأس نقابة؟ قائلا: "إن الشريعة الإسلامية قد أزالت كل معاني الفرقة لتجسيم وحدة الأمة في مواجهة الأخطار المهددة لكيانها، والمدمرة لمقوماتها، ونحن في حاجة إلى الوحدة، والعمل النقابي في حاجة إلى الوحدة".
وفي حديثه عن الزعيم النقابي والوطني فرحات حشاد أكد الأستاذ أحمد الكحلاوي أن نفس الأفكار التي انطلق منها محمد علي الحامي هي التي ارتكز عليها فرحات حشاد في نضاله النقابي وهي أفكار تأصيل العمل النقابي، إذ قال حشاد أمام مؤتمر "جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين" في ديسمبر 1946 "إن الاتحاد مستوحى من النظرية الاجتماعية الإسلامية الواردة في القرآن الكريم".
وبيّن الأستاذ الكحلاوي الدور الهام الذي لعبه الشيخ الفاضل بن عاشور في الدفاع عن هوية تونس العربية الإسلامية وعن قضية فلسطين مثله مثل الثعالبي. وكان حضور الشيخ الفاضل بن عاشور بارزا خلال مؤتمر ليلة القدر أوت 1946 الذي اعتبره الأستاذ الكحلاوي مؤتمرا وطنيا حقيقيا جمع كل الوطنيين من نقابيين ودستورين قدامى ودستورين جددا، ونادى لأول مرة في تاريخ العمل السياسي التونسي بالاستقلال التام للبلاد التونسية. ويورد الأستاذ الكحلاوي تعليقا لبورقيبة حول المؤتمر، بعد أن أبلغوه أن نجم مؤتمر ليلة القدر كان الشيخ الفاضل بن عاشور، جاء فيه [باللهجة التونسية] "هذا خطر كان تسيبوه توا يهرب بالبلاد" (لو تركتموه لأصبح قائد البلاد وموجهها).
ويعود الأستاذ أحمد الكحلاوي للحديث عن الزعيم فرحات حشاد قائلا: "إن عدة عوامل تظافرت لتجعل من قرار اغتيال حشاد الذي نفذ صباح الجمعة 5 ديسمبر 1952 أمرا لا مناص منه بالنسبة للسلطات الاستعمارية. إذ في ظرف أربع سنوات من قيادة العمل النقابي تمكن حشاد من تهميش النقابات الفرنسية ونقابات الشيوعيين التونسيين (اتحاد نقابات القطر التونسي الذي أسسه بعيد تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل الحزب الشيوعي التونسي، الذي كان يسمى الحزب الشيوعي في القطر التونسي بما يحيل إلى ارتباطه بالحزب الشيوعي الفرنسي). كما تمكن من إرسال المتطوعين إلى فلسطين في حرب 1948 وجمع التبرعات لفائدتها. ثم قاد المقاومة المسلحة التي اندلعت في تونس يوم 18 جانفي 1952 في تونس بعد اعتقال القيادة الدستورية".
مؤتمر الحزب الدستوري الجديد في صفاقس أو انحراف الاتحاد عن المبادئ المؤسسة له
اعتبر الأستاذ أحمد الكحلاوي أن اتفاقيات الاستقلال الداخلي التي عقدتها الحكومة التونسية مع سلطات الحماية الفرنسية سنة 1955 قد مثلت نقضا للميثاق الذي أمضى عليه قادة مكتب المغرب العربي بالقاهرة سنة 1947، وكتبه عبد الكريم الخطابي بخط يده، وأمضى عليه علاّل الفاسي من المغرب والمكي من الجزائر وبورقيبة وثامر والرويسي وحسين التريكي، وتكوّن بمقتضاه جيش تحرير المغرب العربي بقيادة عز الدين عزوز.
واعتبر الأستاذ الكحلاوي أن ردّ فعل أغلب التونسيين كان ضد هذه الاتفاقيات التي جاءت مناقضة لمد ثوري كان يعيشه الوطن العربي آنذاك. وكان من أهم تمظهراته قيام ثورة 23 جويلية 1952 في مصر واندلاع الثورة الجزائرية المسلحة يوم 1 نوفمبر 1954. وقد عكس إمضاء تلك الاتفاقيات توجه بعض التونسيين إلى الغرب فكريا وثقافيا، وربما كانت وراءه أشياء أخرى. وبقي بورقيبة ينتظر الدعم ستة أشهر كاملة وهو في عزلة تامة، في الوقت الذي انفصل فيه صالح بن يوسف عن الحزب بإرادته وشكل الأمان العامة.
وفي ما اعتبره الأستاذ أحمد الكحلاوي أول انحراف شهدته الحركة النقابية عن خطها الاستقلالي والتأصيلي جاء إنقاذ بورقيبة من الحبيب عاشور القيادي في الاتحاد العام التونسي للشغل، وكان فرنسي اللسان درس الكهرباء في معهد إميل لوبي وعمل فنيا في بلدية صفاقس، وكان والده حارس صيد بحري في إدارة فرنسا. وقد تعهد عاشور بحماية مؤتمر صفاقس للحزب الدستوري الجديد وذلك لتمرير خيارات اتفاقيات الاستقلال الداخلي.
وحسب الأستاذ أحمد الكحلاوي - أمام القطيعة التي كان يعيشها بورقيبة- كان أغلب المشاركين من نقابة البطالين في صفاقس وهم نقابيون أطّرهم كاتب عام تلك النقابة محمد الدامي وكان ملاكما وزملاءه في قيادتها كانوا في أغلبهم من الملاكمين. ويعتبر الأستاذ الكحلاوي أن الطُعْمَ الذي قُدِمَ للقيادة النقابية المركزية كان تبني الحكومة لبرنامج الاتحاد العام التونسي للشغل.
ويؤكد الأستاذ أحمد الكحلاوي أن الاتحاد منذ ذلك التاريخ أصبح لعبة بيد بورقيبة والحكومة، واستفاد بورقيبة من صراع الرؤوس فاستعمل الجميع ونكّل بالجميع (أحمد بن صالح وأحمد التليلي والحبيب عاشور...). وأكد أن كل محاولات الانشقاق بدء من الاتحاد التونسي للشغل مع الحبيب عاشور وإلى الجامعة العامة للشغل مع الحبيب قيزة كانت وراءها السلطة والتمويل الخارجي. واعتبر الأستاذ أحمد الكحلاوي أن التحاق منتسبي اتحاد نقابات القطر التونسي سنة 1956 بالاتحاد العام التونسي للشغل كانت فرصة لدخول ما سماه "بالجرثومة" إلى جسم الاتحاد، لأن هؤلاء لعبوا دورا هاما عندما سيطروا على نقابة التعليم العالي، وتمّ توظيف النقابة لغايات غير وطنية.
وبيّن الأستاذ أحمد الكحلاوي أن انحراف 15 نوفمبر 1955 النقابي المتمثل في حماية المؤتمر الذي ركز سلطة بورقيبة كان ضمن مسار تصفية التيار القومي العربي في تونس. ورغم قبول صالح بن يوسف العودة إلى تونس كمعارض إثر تهنئته لبورقيبة بمناسبة جلاء الجيوش الفرنسية عن بنزرت فإن بورقيبة اغتال بن يوسف ونكّل بأنصاره.
وخلص الأستاذ أحمد الكحلاوي إلى أنّ هذا الانحراف أدى بالمنظمة النقابية إلى لعب دور أساسي في سياسات معادية للأمة العربية، جعلته يتحول إلى هيكل لا روح فيه مثلما هو حاله الآن. وأن الاتحاد لن يتغيّر دون التحالف مع القوى الوطنية في الأمّة.
انتهينا إلى التصالح مع عروبتنا وإسلامنا
اعتبرت مجلة أقلام أون لاين أن الأستاذ أحمد الكحلاوي بدأ شهادته على منبر مؤسسة التميمي من – ربما- آخر محطة وصلت إليها مسيرته النقابية والثقافية والسياسية، مما يجعل المتابعين لحديثة يصفون قراءته بخلاصة تقدم لأول مرّة بهذا الشكل المتناسق لتجربته الشخصية والجماعية التي انطلقت منذ أكثر من أربعين عاما، خاصة أن الساحة السياسية والنقابية في تونس والمتابعين يحسبون الأستاذ الكحلاوي – إلى وقت قريب- على التيار الماوي، والبعض يعتبره ضمن خط فصيل الشعلة الماركسي اللينيني الماوي، الذي نشط في الساحة السياسية والنقابية خلال السبعينات والثمانيات، والذي لا يعرف الباحثون في تاريخ الزمن الحاضر، فضلا عن عامة الناس، الكثير عن أفكاره وتفاعلاته الداخلية وعلاقته بما كان يعتمل داخل الساحة الجامعية والنقابية.
وكانت إجابة الأستاذ أحمد الكحلاوي واضحة جدا عندما قال "إن فلسطين هي التي حملتني إلى ما أنا فيه الآن". وأضاف أن الصراع في السبعينيات كان بين صف وطني قومي عروبي إسلامي وصف آخر، مؤكدا أن أهم سلاح لمواجهة الوظيفة التي من أجلها أنشئت مؤسسة الكيان الصهيوني في فلسطين التي عبّر عنها الوزير البريطاني كامبل بنرمان سنة 1919 عندما قال نزرع كيانا غريبا يفصل الغرب عن الشرق هو هويتنا العربية الإسلامية.
وشدد الأستاذ الكحلاوي على "أننا أمة عظيمة سرّ قوتها ليس في ثرواتها بل في هذا العمق العروبي الإسلامي، ولقد أضعنا كثيرا من الوقت في صراعات بين العروبة والإسلام، والخطأ وقع ارتكابه من الطرفين، العروبي من جهة والطرف الإسلامي من جهة أخرى. وقال الكحلاوي لا يجب أن ننسى أن محي الدين القليبي عندما رجع من حرب فلسطين سنة 1948 باع داره في تونس وعاد إلى فلسطين وبنا سورا أما المسجد الأقصى يقي المصلين رصاص العصابات الصهيونية الغادر وتفرغ لتدريس المقدسيّين.
وأضاف الكحلاوي أن من جعلني أُحب فلسطين هو ماو تسي تونغ الذي يذكر عنه الشقيري عندما زاره في الصين أنه سأله: هل تذهبون إلى المساجد؟ فرد عليه الشقيري: أنت ماركسي وتسألني عن المساجد. فأجابه ماو قائلا: لكم خمس اجتماعات في اليوم وتجمعا عام كل يوم جمعة ولا تستغلون ذلك. وأعلمه أن حرب العصابات تعلمها من عبد الكريم الخطابي، ومحاصرة الريف للمدينة أتى بها من تجربة الرسول في حصار مكة.
وتساءل الكحلاوي إنه من الغريب أن يكون ماو تسي تونغ قد درس القرآن وتجربة المسلمين، وعتاة الماركسيين عندنا لا يقرؤون التاريخ الإسلامي. وختم الأستاذ أحمد الكحلاوي كلامه - متحدثا عن التيار الذي ينتمي إليه - بالقول "نحن رجعنا إلى التاريخ ووجدنا أننا مارسنا أخطاء من مثل الصراع بين العروبة والإسلام، وقد حان الوقت للكفّ عن ذلك. ولقد انتهينا إلى التصالح مع عروبتنا وإسلامنا وليس لنا من غاية سوى النهوض بأمتنا لإنجاز مهمات التحرير والحرّية".
موقع أقلام أولين محجوب في تونس
العدد الخامس والعشرون
السنة السابعة/ ماي - جوان 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.