عُثِرَ عليه بالصدفة.. تطورات جديدة في قضية الرجل المفقود منذ حوالي 30 سنة بالجزائر    السلطات الاسبانية ترفض رسوّ سفينة تحمل أسلحة إلى الكيان الصهيوني    عاجل: لأول مرة: تونس تصل المرتبة الثانية ضمن التصنيف الدولي للبيزبول    الديبلوماسي عبد الله العبيدي يعلق على تحفظ تونس خلال القمة العربية    في ملتقى روسي بصالون الفلاحة بصفاقس ...عرض للقدرات الروسية في مجال الصناعات والمعدات الفلاحية    يوميات المقاومة .. هجمات مكثفة كبّدت الاحتلال خسائر فادحة ...عمليات بطولية للمقاومة    فتحت ضدّه 3 أبحاث تحقيقية .. إيداع المحامي المهدي زقروبة... السجن    المنستير .. المؤبّد لقاتلة صديقها السابق خنقا    ارتفاع عجز الميزان الطاقي    رفض وجود جمعيات مرتهنة لقوى خارجية ...قيس سعيّد : سيادة تونس خط أحمر    دخول مجاني للمتاحف والمواقع الأثرية    دغفوس: متحوّر "فليرت" لا يمثل خطورة    وزارة الفلاحة توجه نداء هام الفلاحين..    العدل الدولية تنظر في إجراءات إضافية ضد إسرائيل بطلب من جنوب أفريقيا    تعزيز نسيج الشركات الصغرى والمتوسطة في مجال الطاقات المتجددة يساهم في تسريع تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية للانتقال الطاقي قبل موفى 2030    كاس تونس - تعيينات حكام مباريات الدور ثمن النهائي    الترفيع في عدد الجماهير المسموح لها بحضور مباراة الترجي والاهلي الى 34 الف مشجعا    جلسة بين وزير الرياضة ورئيس الهيئة التسييرية للنادي الإفريقي    فيفا يدرس السماح بإقامة مباريات البطولات المحلية في الخارج    إمضاء اتّفاقية تعبئة قرض مجمع بالعملة لدى 16 مؤسسة بنكية محلية    وكالة (وات) في عرض "المتوسط" مع الحرس .. الموج هادر .. المهاجرون بالمئات .. و"الوضع تحت السيطرة" (ريبورتاج)    طقس الليلة    سوسة: الحكم بسجن 50 مهاجرا غير نظامي من افريقيا جنوب الصحراء مدة 8 اشهر نافذة    القيروان: إنقاذ طفل إثر سقوطه في بئر عمقها حوالي 18 مترا    تأمين الامتحانات الوطنية محور جلسة عمل بين وزارتي الداخليّة والتربية    كلمة وزير الخارجية التونسي نبيل عمار أمام القمة العربية    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    توزر: تظاهرة احتفالية تستعرض إبداعات أطفال الكتاتيب في مختتم السنة التربوية للكتاتيب بالجهة    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    صفاقس تستعدّ للدورة 44 لمهرجانها الصيفي    صفاقس: هدوء يسود معتمدية العامرة البارحة بعد إشتباكات بين مهاجرين غير نظاميين من دول جنوب الصحراء    جندوبة: وزير الفلاحة يُدشن مشروع تعلية سد بوهرتمة    "فيفا" يقترح فرض عقوبات إلزامية ضد العنصرية تشمل خسارة مباريات    هل سيقاطعون التونسيون أضحية العيد هذه السنة ؟    عاجل: "قمة البحرين" تُطالب بنشر قوات حفظ السلام في فلسطين..    106 أيام توريد..مخزون تونس من العملة الصعبة    اليوم : انطلاق الاختبارات التطبيقية للدورة الرئيسية لتلاميذ الباكالوريا    ناجي الجويني يكشف عن التركيبة الجديدة للإدارة الوطنية للتحكيم    سوسة: الإطاحة بوفاق إجرامي تعمّد التهجّم على مقهى بغاية السلب باستعمال أسلحة بيضاء    قيس سعيد يُؤكّد القبض على محام بتهمة المشاركة في وفاق إرهابي وتبييض أموال    المعهد الوطني للإحصاء: انخفاض نسبة البطالة إلى حدود 16,2 بالمائة    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    رئيس الجمهورية يبحث مع رئيس الحكومة سير العمل الحكومي    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    ظهورالمتحور الجديد لكورونا ''فيلرت '' ما القصة ؟    محمد بوحوش يكتب...أدب الاعتراف؟    الأيام الرومانية بالجم . .ورشات وفنون تشكيلة وندوات فكرية    الخُطوط التُونسية في ليبيا تتكبد خسائر وتوقف رحلاتها.    زلزال بقوة 5.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    بطولة اسبانيا : أتليتيكو يهزم خيتافي ويحسم التأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    إصدارات.. الإلحاد في الفكر العربي الإسلامي: نبش في تاريخية التكفير    استشهاد 3 فلسطينيين بنيران جيش الاحتلال في الضفة الغربية    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب :ثقافة الخبر: د.أحمد محمد المزعنن
نشر في الفجر نيوز يوم 28 - 12 - 2009


دكتور أحمد محمد المزعنن الفجرنيوز
المبحث الأول
مقدمة في التربية والخبر والثقافة
تطوير مفاهيم
تمهيد
من مظاهر التجديد في حياة الأمم المراجعة الدائمة لثوابت ثقافتها لما لهذه الثوابت من أهمية مطلقة للحفاظ على شخصيتها وتأكيد مقومات وجودها،والثقافة العربية بعد أن كرَّمها الله لتكون وعاء وحيه إلى خاتم رسله صلى الله عليه وسلم ، تقوم على مجموعة ثوابت تكون بناءً منهجيًا للصدق والموضوعية وخصائص الخطاب الفكري الوسطي الذي يناسب الفطرة النقية الطاهرة ، وتستمد قيمتها من كونها في البعدين الزمني والمكاني لرحلة الإنسانية الحضارية اختصها الله بأمانة خبر السماء ، وأناط بها واجب تبليغه .
كانت الجزيرة العربية والأقطار التي تقع في محيط تأثيرها وإشعاعها محضن الخبر الصادق في رحلة الإنسانية عبر التاريخ،ولم تفلح كل محاولات حصارها وإعاقتها عن دورها الأزلي،وفي الوقت الراهن تتعرض ثوابت الأمة للغزو الفكري والمادي كان للبعض من ينتمون إليها نصيب من الإسهام فيهما مع الغزاة الذين وظفوا كل أساليب الكذب والتزييف لحشد التأييد والأنصار لهذا الغزو،ولا زلنا نعيش حالة يمكن أن نطلق عليها ثقافة الكذب الممنهج حيث يتمايز في الوقت الراهن هذا النوع من الثقافة التي عمل الخلل الوظيفي والأخلاقي في التعامل مع الخبر الإعلامي المعاصر بدرجة كبيرة على بلورته وتشكييله،ويوشك أن يصبه في قوالب تلغي المفاهيم الكلاسيكية للثقافة،وتخرج عن الحدود المنهجية التي أقرتها الدراسات والبحوث الأنثروبولوجية ،وكانت عمليات التلفيق والكذب الممنهج للأحداث والأخبار التي سبقت ورافقت غزو العراق وتدميره واحتلاله عنوة ،والمنطق التبريري المدعوم بالقوة من الدوافع التي جعلت من الضروري إعادة النظر في الطبيعة الإنسانية للخبر والثقافة التي يجري تشكلها ،والتذكير بمجموعة الضوابط المنطقية والأخلاقية لهذا المركب الفكري البشري.
إن مفهومنا للخبر ينطلق من الأولوية المنطقية في الصدق والثبات لخبر الوحي الديني وصورته العامة الإسلام،وشكله التعبيري اللغة العربية في آخر صورة لها وهي لغة قريش التي استغرقت كل اللغات(الأحرف التسعة)العربية في القرنين السابقين على بدء الوحي الإلهي على محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء بمكة المكرمة (نحلة ،2002) .
نشرت الصورة الأولية لهذه المقدمة في فصل تمهيدي لكتاب للمؤلف عنوانه :الخبر الإعلامي والبديل الإسلامي (الرياض ،2004) وفيما بعد حدث تطوير لمفاهيم هذا الفصل ليصبح المبحث الأول في هذه الدراسة.
ولا تنفصل المفاهيم التي ستتم مراجعتها ومناقشتها وتطويرها عن قضية المعرفة العامة التي يصوغها ويشكلها الخبر الإعلامي المعاصرالذي كان في الكثير من جوانبه عامل هدم لثوابت الثقافة العربية التي يجري تسطيحها وإهمالها بشكل متعمد ، وغزوها بالتعليم الأجنبي تحت مسميات خادعة،كانت المرحلة الفارقة فيها غرس الكليات والجامعات الأجنبية،وظل الغزو ينسحب تنازليًا حتى وصل إلى رياض الأطفال ،وما قبل الروضة في الحاضنات والمربيات الأجنبيات في البيوت اللاتي يقمن فيها بالدور الثقافي البديل للأم العربية.
ومن الضروري إعادة النظر في الكثير من التحولات والأشكال المعرفية التي تكتنف الحياة العربية الحالية ،ومن أوضح الأمثلة على ذلك الاختراقات المعرفية للكود الدلالي العربي للصراع مع العدوان الصهيوني،وطروحات الفكر اليهودي والأنجلو سكسوني خاصة في تشويه الفكر العربي وهز ثوابته واحتلال مواقعه في التأثير الفكري والمعرفي،وما يتم تسريبه حاليًا للقبول بنتائج الأمر الواقع الناتج عن حالة التفكك والضعف،ومن الضروري في أي عملية مراجعة البدء بالمستويات الأولية التي تشبه المسلمات الواقعية وأولها تحليل المكونات الأولية للخبر والثقافة ومفاهيمها وعلائقها ووسائطها.
*****
تجيب هذه المقدمة عن السؤالين التاليين :
أين وكيف ومتى يبدأ الوعي لاكتساب الخبر في عملية التربية والتنشئة،وكيف يتطور هذا الوعي ؟
وما علاقة ذلك بتكون وتشكل الثقافة والمعرفة لدى الفرد في المراحل المختلفة التالية؟
*****
إن ما يُطْلَق عليه الخبر عنصر من عناصر المعرفة،ومادة أولية للكل الذي يطلق عليه الثقافة،وهو كذلك أداة من أدواتها،والثقافة حالة أو محتوى عام للموروث الإنساني للفرد أو للمجتع أو للإنسان ككل،وهذا الكل الموروث ذو جانبين:الجانب المادي والجانب المعنوي،وهذا الكل يستغرق الحياة الإنسانية الواعية،ويعبر عن أثر أفعال العقل والفكر في الوجود،وهو في مدلوله النهائي دليل على ما نطلق عليه:الحياة،فنحن أحياء لأننا نمتلك شكلاً ما من الثقافة،ونحن أيضًا بشر لأننا كائنات ثقافية .
وتتشابك في كل من الخبر والثقافة أدوات ومجالات الغايات والوسائل،وتكمن الصعوبة في دراستهما من هذه الخصوصية المميزة لهما،وهي كونهما أمورًا يصعب تشخيصهما على الرغم من توفر العنصر المادي فيهما،ولكن الجانب غير المادي هو الذي يجعلهما يستعصيان على التشخيص والبحث الأمبيريقي.
اكتسبت قضية الخبر أهمية كبيرة منذ فجر المعرفة الإنسانية،وكان همُّ المفكرين والحكماء منذ القدم ضبط الكلام الإنساني الذي كان المظهر التعبيري الأول للإدراك،ووضع القيود على القول والنطق بحيث يتصف بدرجة عالية من الصدق والموضوعية،وخاصة عندما يتعلق الأمر بموضوع علميٍّ أو عقيدي أو أخلاقي،بحيث لا يخرج عن الغرض منه في نقل العلم،ووصف الحدث وصفًا أمينًا،والإخبار عنه بأبسط وأوضح وأدق صيغة،ذلك لأن القول ميدان خصب للأهواء،وفيه احتمالات واسعة ليُسْتَخْدَمَ في الأذى والضرر اللذين قد يتعديان الذات إلى الآخرين،وسارت هذه العملية في خطين متوازيين:خط الرسالات السماوية التي تتابعت وحيًا من الله سبحانه وتعالى؛ليظل المخلوقون من البشر على اتصال بخالقهم،وعلى بينة بما يرضيه وما يغضبه،والخط الآخر خط فعل العقل بالفكر والقوى الأخرى التي جعلها الله ملكة وقوة في الإنسان،وقسمها بينهم على درجات متفاوتة لحِكَمٍ بعضها معلوم ملموس والكثير منها جزء من المقادير التي لا يعلمها إلا الله وحده،ولكن الهدف الظاهر من استقراء فعل العقل والأدلة الواردة في القرآن الكريم هو عبادة الله وفق ما يرضيه ، وعمارة الرض إلى أجل مسمًى عنده.
وعلى المستوى النظري والعملي كان هدف الفلاسفة والعلماء منذ القدم رد المعارف والأخلاق إلى عدد من الضوابط والمباديء والقوانين الموضوعية التي يلتزم بها الناس،ويحترمها المجموع بلا تمييز،وربط هذا الغرض بعملية التربية ربطًا صارمًا،فاهتم المربون على مستوى الأسرة وعلى مستوى المجتمع بتطبيقه،وجعلوه هدفًا لا حيدةَ عنه للتربية العقلية والأخلاقية،وكان منهج الإسلام في ذلك غاية في الدقة والكمال،كيف لا؟وهو منهج من إبداع خالق الكون ومبدع الإنسان،فهو أعلم بمن خلق،وبما يصلحه،وبما يُقوِّم حياته،ويضمن سعادته،وعلى هذا المنهج قامت الحضارة الإسلامية،ونمت الثقافة الإسلامية في ظله طوال العصور.
أما الثقافة فهي عملية تراكمية تخضع لتأثير عوامل كثيرة تساعد على التشكيل الخلقي والعقلي والاجتماعي في مستوى البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية،وتشكل عوامل دافعة ومكونة لمظاهر الإبداع بمختلف أشكاله،وهي وثيقة العلاقة بالخبر كما حددنا الهدف منه في الفقرة السابقة،فإن من الأهداف الأساسية لعملية التثقيف أن تبلغ درجة من الدقة والموضوعية بحيث تصدر أقوال الإنسان وأفعاله عن مجموعة من المباديء والضوابط العامة الملزمة للجميع،والتي تنال احترامهم،وفي هذه الحالة فإن أعلى درجة من الالتزام الواعي للسلوك هي تلك الدرجة التي يصدر فيها السلوك عن إرادة واعية بقيمة الضابط أوالقانون أو النظام دون أن يساور الإنسان أدنى شك في جدواه،وهذه الحالة الفكرية هي أيضًا ذات صلة وثيقة بالتربية .
الخبر أبسط من الثقافة،بل يمكن اعتبار الأخبار الوحدات الأساسية واللبنات التي تكوِّن المركب الذي نطلق عليه الثقافة، فما علاقة هذين التكوينين بالتربية؟
1 فجر المعرفة:
يبدأ الإنسان حياته كائنًا صغيرًا يحمل في كيانه مجموعة ًمن الاستعدادات والاحتمالات التي جاءته عن طريق العوامل الوراثية من جهة أمه ومن جهة أبيه،وفي الشهور الأولى بعد الولادة تعتمد حياته بشكلٍ كليٍّ تقريبًا على علاقته الحيوية بأمه من خلال عملية الرضاعة والروابط النفسية الأولية المصاحبة لها،وتعمل الاستعدادات الجسمية والانفعالات وحالة الحساسية العامة في شخصيته على تكيفه للظروف والمتغيرات البيئية الطبيعية،ولا يكاد يُلحَظُ وجود مباشر للخبر أو للثقافة في شخصيته في هذا الطور المبكر،ولكنه يكون موضوعًا لهما وهدفًا لتاثيرهما يظهر على سلوك الذين يحيطونه بالرعاية والتربية والتنشئة الاجتماعية،فتأثيرهما في هذه المرحلة يكون بالواسطة،وتلعب علاقته البيولوجية والنفسية بالأم في هذه المرحلة على تحقيق النمو والاستقرار من خلال العمليات البيولوجية الأخرى المترتبة على الرضاعة كالنوم وتنظيم عمليات الإخراج،وحمايته من كل المؤثرات الطبيعية الضارة،وعندما تبدأ في التدخل في دائرة علاقاته عناصرُ جديدةٌ كالأب والأخوة والأقارب تتنوع استجاباته وتبدأ الاستعدادات تتخصص،وتتكون نتيجة لذلك الروابط العصبية والنفسية التي تتمحور حول الأشخاص الذين يتعاملون معه،والموضوعات المختلفة التي تؤمن الحياة والاستقرار والتوازن الحيوي،ويبدأ العقل والجهاز العصبي في العمل لتنظيم الاستجابات لهذه الموضوعات عندما تتدخل في المجال الحسي والإدراكي للطفل،ويتشابه الأطفال في هذه الخصائص العامة تقريبًا،باستثناء بعض المتميزين في الاستعدادات العقلية والجسمية حيث يبدون أكثر استعدادًا للتهيج،وأكثر نجاحًا في استجاباتهم التي تعبر عن نفسها أثناء عملية التكيف الأوليِّ للظروف الطبيعية والبيولوجية والنفسية.
وفي هذه المرحلة أيضًا لا تكاد تُلْحَظُ مركبات سلوكية أو معرفية لتلك العلاقات الأولى أكثر من الضحك والبكاء والمناغاة والأصوات العامة وبعض الحركات اللإرادية التي تعبر عن الاستعدادات الكامنة في الأجهزة الصوتية والسمعية والنطق،والتي ستلعب عما قريب دورًا كبيرًا وفاعلاً في التنشئة الاجتماعية،ومن ثم في النمو المعرفي والتطور الثقافي،وعندما يتقدم الطفل في النمو الجسمي تتسع دائرة علاقاته وتتنوع المؤثرات التي تشكل مصادر للاستثارة،وهذا يعمل على تمركز انفعلاته حول موضوعات أكثر تنوعًا،وتباشر بذور العواطف والعادات والمركبات السلوكية الأخرى في التكون بمساعدة العمليات الإدراكية الحسية والعقلية،ويحدث ذلك كله في المرحلة التي تسبق تعلم اللغة الصوتية أولاً،فتبدأ العناصر الأولى للعمليات الإدراكية ذات التأثير في التشكل الثقافي عن طريق الانفعالات المرتبطة بالغرائز والدوافع الفطرية،وتنمو مدركاته كمًا ونوعًا عن طريق ملاحظته لانفعالات مَنْ هم في محيطه ومَنْ يتعاملون معه،وتعتبر تلك الروابط العصبية العناصر الأولى للمعرفة،ومن ثم للثقافة التي هي صورة راقية ومتقدمة ومتطورة للوعي،ونتيجة تراكمية للخبرة وتعبير عن المعرفة والإدراك.
ومن المؤكد أن الصغير يبدأ في الفهم والإدراك قبل أن يكون قادرًا على التعبير عن المدركات التي تتراكم يومًا بعد يوم،فإذا نما سليمًا من العاهات،متمتعًا بقسط وافرٍ من الصحة فإنه يسير بنجاح خطوة خطوة في مراحل التنشئة الاجتماعية التي تعمل على إكسابه صفاته الإنسانية حسب المقاييس الاجتماعية لمجتمعه ،وتعرف هذه العملية بالتنشئة الاجتماعية ،وتتدخل في هذه العملية عوامل كثيرة من أهمها في الطفولة الأولى تعلم المشي واللغة الصوتية مترافقين معًا في الظهور والنمو والترقي ثم اللعب والتقليد.
يساعد المشي على اتساع دائرة نشاطه،وإثراء بيئته بالمثيرات المنشطة للاستعدادات، وإثبات ذاته كباقي الذوات الكبيرة الحجم المتنوعة النشاط التي يتعامل معها،بل ويفوقها في نشاطه لأن الآخرين يكفونه مؤونة العيش،ويعمل التقليد على ربطه بالنماذج الإنسانية التي توائم بين ذاته وبين الآخرين،وتساعد اللغة الصوتية بشكل مباشر على ترميز الأشياء والأشخاص في العالم المحيط به،ومن ثم زيادة النمو العقلي والمعرفي تدرجيًا والارتفاع في البناء الدلالي لبنة لبنة،وفي أثناء التعامل مع العالم الخارجي فإن الخبرات والتجارب تزداد كمًا ونوعًا،ويتم ذلك من خلال التجارب الحسية مدفوعًا بعوامل عقلية ونفسية تدفعه إلى الرغبة في الاطلاع والكشف والتعلم،وتضع هذه العمليات الأولى اللبنات الأساسية للثقافة،وهي أيضًا الوحدات الأولية للبناء المعرفي، وتعمل عمليات الأمر والنهي والثواب والعقاب وقوانين التشئة الاجتماعية الأخرى على المراجعة الدائمة للمدركات،وإقرار وتثبيت ما يشجعه المجتمع وما يحبذه،واستبعاد ما يعارضه، ويزجر فاعله أو يعاقب،وتلك العمليات هي أيضًا العمليات الأولى للتقويم والتعديل الذي يساعد على نمو جزءٍ متعالٍ من الوعي وتشكيل قوة ذاتية ضابطة للسلوك متحكمة بالشخصية،وهي بدايات الضمير أو النفس اللوامة،ويتم ذلك إذا سار النمو بلا مشكلات اجتماعية أو نفسية أو بيولوجية تحول بين عمل العوامل المختلفة التي تتدخل في النمو،وتنحرف بالشخصية عن الإطار الموضوعي الذي يحقق شروط النمو الطبيعي.
2 انبثاق اللغة :
تعتبر اللغة أهم مظاهر النشاط العقلي في الإنسان،وأول بداياتها في الظهور هو ما يطلق عليه الأصوات الوجدانية،التي يدرب فيها الطفل أجهزة الصوت لديه:أولاً بشكل تلقائي غير مقصود مدفوعًا بنداء الفطرة،ثم يصبح هذا السلوك مقصودًا بالتكرار والشعور الأوليِّ بالرضا والسرور الذاتيين أو الموجهين إليه ممن حوله،وإن التجربة الإنسانية الأولى التي يستطيع فيها الطفل التعبير عن المدرك عن طريق رمز شكلي وتحويله إلى نص صوتي لهي تجربة في غاية الأهمية والحيوية،وقد تستغرق وقتًا أطول مما يعتقد،ولكنه وقت قصير قياسًا إلى العمر وإلى فوائد اللغة في عمليات الاتصال اللازمة لحياته،أو في أهميتها البالغة كمظهر لتميز الكائن الإنساني بالنطق الذي يتجلى فيه عمل العقل وإبداعه،ويتيح الفرصة لقوى الإنسان الأخرى للظهور والتميز،وتمكن الكائن الجديد من تكوين وتطويرالعلاقات الحيوية مع محيطه الطبيعي والاجتماعي،ولا تظهر هذه العملية فجأة،ولكنها تمر بمراحل تكاد تكون متقاربة عند معظم الأطفال مع اختلاف في بعض التفاصيل الشكلية،أي في نوع الكلمات وطريقة التعبير عنها،ويكون تعلم الطفل لها أولاً عن طريق التقليد ( التقليد الصوتي ) ثم بتنامي التجربة وتطورها يدخل عليها التعديلات الإبداعية الذاتية؛فتتوافر لها خصاص ذاتية وموضوعية في نفس الوقت،فهي ذاتية لأنها ليست متشابهة تمام التشابه في الأفراد في فئة العمر الواحد والبيئة الواحدة،وموضوعية لأنها قابلة للتشخيص والقياس والضبط والتحكم والتحليل والتفسير كظواهر منفردة مستقلة،وقد أمكن اكتشاف القوانين والضوابط المنظمة لها في كل مرحلة نمو،وتساعد اللغة على فهم الأشياء الخارجية ومسمياتها وخصائصها،ويكون ذلك أول عمل منظم يدخل في التكوين الثقافي للإنسان،منظم لأنه ينتج من عمل حسي وعقلي يكون غالبًا مقصودًا؛لأنه مرتبط بإشباع الدوافع وإثبات وجود الذات المستقلة،ويلاحظ أن الأسماء الحسية تسبق معرفتها المعنويات،والاسم عادة يسبق الفعل في إدراك مدلوله،وسبرغور مفهومه،وما له علاقة بإشباع الحاجات الأولية مقدم على غيره ، وما يجلب له الرضا والتشجيع مقدم على ما يجلب اللوم والتقريع ويسبب الألم ، ولكن ثقافة الطفل ليست خالية تمامًا من المعنويات أو الأفعال،ولكنه يعبر عنها بلغة خاصة به يبدعها عقله،ويساعده على تكوينها الموروث الإنساني لمجتمعه،والثقافات الشعبية السائدة في الأسرة والمجتمع عامة،فبعض أنماط التربية تُدْخِلُ في ثقافة الطفل كثيرًا من الصفات المعنوية الموجبة والسالبة في وقت مبكر،وأحيانًا يستخدمها الطفل ولا يعرف معناها إلا إذا ارتبط اكتسابه لها وقت التعلم والتقليد بمؤثرات حسية،وشحنات انفعالية تعزز عملية الاكتساب،مثل أن يقلد الطفل أباه بقوله:أنا بطل ! وحين النطق بها وتكرارها يلح عليه والده أن يرفع قبضته عنوانًا للقوة،أو حين يطلب منه القيام بعمل ما فيلقنه بعض الألفاظ والصفات البذيئة،أو يوجه إليه بعض عبارات الزجر والتقريع من أي نوع،ويتوقع منه أن يستخدمها فيما بعد بنفس الهيئة التي اكتسبها عليها،وهذا المثال يبين لنا بوضوح طريقة انتقال الثقافة الإنسانية ،ويوضح دور الكبير في نقل الخبرة ،وفي تكوين الشخصية،وفي الجانب الآخر من الصورة يظهر النتائج المأساوية المترتبة على الإهمال أو النقص في العلاقة بين الوالدين والأطفال ،ويدعو إلى الحاجة الملحة بضرورة العناية بالأبناء حتى يصبحوا قادرين على الاعتماد على أنفسهم في مواجهة مواقف الحياة.
ومن ناحية أخرى فإن أنماط المعاملة والأساليب التي يتم بها تعزيز اكتساب الطفل للغة في مرحلة تبعيته للكبار تعكس البعد الأخلاقي للجانب الانفعالي والوجداني للتربية ،إن الملابسات المرتبطة بعملية التعلم ترافقها عملية تكوين العواطف المادية والمعنوية ،وذلك عن طريق تمركز الانفعالات حول موضوعاتها نتيجة للتكرار والتعزيز الدائم لاكتساب الخبرة في قالب معين ،ويوضح في هذه المرحلة وباستخدام اللغة أسس البناء الأخلاقي باستثمار (ما نحب وما نكره،وما نميل إليه وما نبتعدعنه ) هنا تبذر بذور القيم والاتجاهات ،وفي هذه المرحلة تعمل اللغة على تحديد ما سيكون عليه الطفل في المستقبل في عقائده ووجهات نظره،وتتحدد علاقاته مع غيره ،هنا يتعلم الحب والتسامح والحوار وقبول الآخر،وسعة الأفق والنقاش المثمر وبدايات التفكير المنطقي ، أو يحشوه الكبار والظروف المحيطة به بالكراهية والتعصب والفكر التسلطي ،ورفض الآخر ،وضيق الأفق والعنصرية والتفكير المضطرب وبذور الشخصية السيكوباتية أو الانحرافية .
لقد عدد عالم اللسانيات الأميريكي تشارلس هوكت Charles Hockett ثلاث عشرة خاصية للغةِ الإنسانية،تشترك في تسعٍ منها مع لغات الحيوانات العليا في المملكة الحيوانية (شعبة الرئيسيات) وتنفرد بخواص أربع هي:1 القابلية لاستخدامها في الإخبار عن الماضي والتعبير عن الأحداث الماضية مما لا يستطيعه الحيوان 2 الخاصية الإنتاجية: أي القابلية لإنتاج كلمات جديدة 3 خاصية الانتقال عن طريق التقليد 4 خاصية ازدواجية النمط .
ويهمنا في هذه المقدمة الخاصية الثالثة على وجه التحديد،أي الخاصية التي تُظْهِر أثر التقليد في انتقال اللغة وهذه الخاصية هي التي تربط اللغة بالثقافة ويرى هوكت " أن اللغة تكتسب بالتعلم،على الرغم من أن القدرة العامة على النطق بها عملية بيولوجية صرفة،ولهذا تتمثل العملية الثقافية في اللغة في قابليتها الانتقال من جيل إلى جيل،فتعفي المتعلم من الخبرة المباشرة،أي التعلم عن طريق المحاولات الفردية،إن العملية التعليمية للغة ذات قيمة حيوية لأن الطفل يستطيع أن يتعلم تجنب المخاطر قبل أن يواجهها بالفعل " . [i]
وأعظم الأمثلة على الطبيعة الصوتية السمعية للغة ودورها في تشكيل الثقافة وبناء المدركات العقلية ،ومن ثم آثارها العظمى في تشكيل السلوكك وبناء الشخصية ،ورسم مسارات التارسخ الإنساني أن الإسلام الدين الخاتم وهو أكمل الأديان ،ورسوله أعظم الرسل وسيدهم وإمامهم ، تلقى الدين وحيًا سمعيًا من الله سبحانه وتعالى،وقد خالف الكتب السماوية السابقة لحكمة إلهية بالغة ،فالتوراة نزلة جملة واحدة مكتوبة في ألواح موسى عليه السلام ،والإنجيل نزل دفعة واحدة ،اما القرآن الكريم فنزل وحيًا سمعيًا على قلب محمد عليه الصلاة والسلام على مدى ثلاث وعشرين سنة ،نجومًا على الأيام والأحداث والمناسبات ، ولم تتم عملية جمعه وكتابته إلا إملاءً من النبي الأمي الذي تلاقاه ووعاه ،وكان جبريل عليه السلام يتعهده بالملااجعة في رمضان من كل عام ،الشهر الذي بدأ فيه نزوله ذات يوم في غار حراء ،ويطلق العلماء على الدليل الشرعي مصطلح الدليل السمعي أو النقلي تمييزًا له عن الدليل العقلي الوضعي الذي يتوصل إليه الإنسان نتيجة لعمل العقل،وفي إطار ثقافة الخبر فإن الدليل العقلي الصحيح المتفق في نتائجه النهائية مع ما جاء به الوحي في الكتاب والسنة النبوية يمكن اعتباره دليلاً سمعيًا ؛لأن العقل نعمة من الله سبحانه وتعالى ،وينبغي أن تحكم عمله القيود الشرعية التي جاء به الشرع بغية منعه من التطرف والجموح ،أ, الجمود والتصلب والمرض .
3 اللغة والخبر والثقافة :
لا يعرف على وجه الدقة الوقت الذي يستخدم فيه الطفل الخبر في التعبير اللغوي ، ولكن يفترض أن مجرد استخدامه للغة في عملية التواصل في السلوك البشري ، أو في التعبير عن نفسه ومشاعره وأحاسيسه ، أو في إصدار الأحكام على الأشياء والأشخاص والعلاقات والسلوك ، كل هذا هو في حقيقته من قبيل الأخبار ، وأبسط أمثلة يمكن أن نسوقها في هذا المجال هو أنك لو طلبت منه نقل معلومة ما لأمه أو لأي شخص آخر ، فإن عمله هذا يتضمن استخدامًا لأسلوب الخبر ، ولو سألته عن مكان شيء ما فأخبرك ، فهذا هو الخبر ، ولو سألته عن اسمه فأجابك ، فهذا أيضًا خبر ، ويصدق ذلك على كل المواقف الاجتماعية والعملية ، ولو سألته عن أخيه فأجاب فهذا خبر ، ولو لاحظت عليه الفتور والإعراض عن اللعب مع طفل لا يحبه ، وأخبرك عن السبب فهذا خبر ، وعندما يسأل هو أيضًا فإنه يمارس شكلاً من ثقافة الخبر ، ومن أهم الأخبار التي يتقنها الطفل ويستخدمها تلك التي تتمحور حول الذات فيصبح قادرًا على الإخبار عن اسمه وجنسه وعمره وأسماء إخوته وأخواته وأهله وأقاربه وكل ما يتعلق به من الأشياء كالألعاب والملابس وأنواع الطعام والأدوات ، وما يحب وما لا يحب ، وهذه الأخبار هي بداية ثقافة الخبر بالمعنى المقصود من الخبر ، وكلما نما محصوله اللغوي ، واتسع قاموسه كلما أصبح قادرًا على ممارسة ثقافة الخبر بفعالية وكفاءة واقتدار ، ويلعب نمط التربية الأسرية دورًا فاعلاً في تنشيط طاقات الطفل أو تثبيطها وإعاقتها، وتوجد في هذا العرض مناسبة لنطلب فيها من كل أب وكل أم أن يراقبا أبنائهما بطريقة مقصودة ومنهجية لاكتشاف الملاحظات الإمبيريقية التي تمكنهما من فهم نموهم بطريقة علمية منهجية ،توفر عليهم الكثير من أعباء التربية التي أصبحت حاليًا من أخطر الواجبات نتيجة لانتقالها إلى المؤسسات والفراد الآخرين من الجنسين في عالم اليوم الذي أصبح التعليم وظيفة مستقلة على درجة علاية من التخصص في كل مراحل العمر .
ومن استقراء وملاحظة لغة الطفل في سنواته الأولى ، ورصد أساليب التعبير الأولى نلاحظ أن الخبر هو أبسط أشكال التعبير الإنسانية،وأكثر التراكيب اللغوية تعبيرًا عن النشاط العقلي والحاجات النفسية الأساسية للإنسان،ولأنها تظهر في وقت مبكر من عمر الطفل فإن هذا الأسلوب له صفة العمومية؛لذلك يصح أن نعتبر الخبر أسلوب تعبير إنساني عن التوق إلى المعرفة،ومظهرًا مبكرًا للنشاط العقلي الذي يعبر عن حب الإنسان للاستطلاع والدفاع عن البقاء.
ومن الأمور التي تحفز النمو والتشكل الثقافي في مرحلة الطفولة أشكال الثواب والتشجيع المادي والمعنوي،وربط الصغير بجهاز القيم والمثل العليا والمعايير المعنوية لأسرته ومجتمعه؛بحيث يتعلق قلبه بالأمور المعنوية المتعالية عن المحسوسات،وفي ذلك يبرز أهمية دور القدوة السلوكية في كل الذين يتعاملون معه،وتظهر أهمية ذلك في السنوات ما بين 4 7 سنوات حيث يجمع رجال التربية وعلم النفس على أن بذور الشخصية لكل من الفتى والفتاة تتكون في هذا العمر،وبعد السابعة في الغالب تتمايز شخصية كل منهما ليتجه هو إلى عالم الرجال،وتتجه هي إلى العالم النساء .
4 ثقافة الخبر المكتوبة:
إن النقلة القوية في تعلم الخبر تظهر في المدرسة فيما يتعلمه بأسلوب تقريري، فمعظم العلوم التي يدرسها في المدرسة تلح على ضرورة اكتسابها كتقارير إخبارية،وعلى هيئة أحكام تقريرية،بعيدًا عن الأحكام المعيارية،باستثناء دروس الفنون والأدب وبعض دروس التربية الدينية التي يطلب منه فيها إصدار أحكام معيارية للتأكد من اكتسابه لقدرة تمييز الخير من الشر،والحكم على ما يجب وما لا يجب من أنماط السلوك لديه ولدى الآخرين،وحتى في هذه المواقف يلح المربون على أن تتضمن أحكامه بعض الأحكام التقريرية أي الأخبار حتى يعتاد فيها على الصدق والحكم بناءً على معلومات صحيحة،والاختبارات المختلفة بعد نهاية كل عمل تربوي أو تعليمي أو تدريبي وسائل فعالة في تدريب الطفل على النقد العلمي،وإصدار الأحكام الصائبة على المواقف المختلفة.
نقصد بالخبر هنا شيئًا أشمل مما يفهم دارسو الإعلام،أو المهتمون بجهاز الأخبار في أي مؤسسة إعلامية،إنه أمر متعلق بعملية التربية في مرحلة اكتساب أصول المعرفة التي سيبنى عليها البناء المعروف بالثقافة.
والخلاصة:هي أن استخدام الخبر في سياق التشكيل الثقافي عملية مستمرة،لا تفارق الإنسان،تدوم مع الحياة،وباستمرار تدفق الأخبار من كل نوع عن الوقائع والأحداث في الحياة .
إن التجربة المدرسية في تعلم اللغة المكتوبة إلى جانب اللغة الصوتية تجربة في غاية الثراء والأهمية،ففي المدرسة تتفتح الطاقات اللغوية،ويساعد عليها فورة النمو واطراد وتسارع وتيرته،وتجلي مظاهره في كل نواحي الشخصية الإنسانية،وتعدد الأنشطة في المواقف التعليمية اليومية في الجدول المدرسي ، وأنواع النشاط النظري والعملي،وفي تعدد الكبار والصغارالذين يتعامل معهم في المدرسة،وكل منهم له نفس الهموم،ويندمج بكل قواه في العمل الذي يقوم على المنافسة والتعاون .
ومن رحمة الله بالإنسان أن يسر للطفل في مرحلة التعلم والتلقي وفي كل مرحلة من العمر خصائص مغروزة في تكوينه الذاتي كشخصية متميزة،وفي طبيعة الأشياء حوله،وفي العالم الخارجي،وفي مجاله السلوكي من العوامل التي تجعل نموه متوازناً،ومن تلك الخصائص اللعب،وهو ميل أصيل في الكائنات،حتى في الحيوانات والطيور وغيرها،ويساعد اللعب على التدرب على الحياة الاجتماعية،وتمايز الأدوار في وسط طبيعي،وهو بذلك مجال خصب لإثراء الثقافة وتنوعها، وقد درس العلماء والباحثون هذا الميل،وعملت نتائج الأبحاث والدراسات على زيادة الاهتمام باستغلاله استغلالاً مقصودًا في الإعداد للحياة المستقبلة ، ويوفر اللعب المنظم فرصًا كاملة للتدرب على الحياة من خلال المواقف الواقعية والتمثيلية،ويكتسب الطفل العادات والنظم ويتعرف على قواعد وضوابط السلوك والعمل ضمن فريق ، ويتيح له اللعب الفرصة للتعرف على خصائصه كشخصية مستقلة متميزة تمارس السلوك بحرية وباقصى ما تسمح به فروقه الفردية .
وتمثل المدرسة وهي بيئة التربية المقصودة والتعليم المبرمج الهادف مرحلة نقلة نوعية لفوران الثقافة المنظمة التي تكتسب في ظروفٍ مصممة سلفًا،وتوجه لإحداث تغيرات وصفات محددة في شخصية الطفل،وتتنوع العوامل الثقافية التي توجه سهام تأثيرها نحو هذا الكائن من كل حدب وصوب في هذه المرحلة،وتشترك الأسرة وبيئتها والمجتمع وعوامله وأوساطه في تلك العملية الإنسانية المتشعبة التي تحكمها النظم، وتضبط عواملها التقاليد، وتنظم النتائج التي تريدها أن تتجسد في شخصية الطفل ، وهنا تتابع مراحل عملية التشكيل الثقافي المقصود،وتستقر بنهاية مرحلة التعليم العام وقد أصبح الطالب على أبواب الرجولة،فتضمن المجتمعات بذلك درجة معقولة من التجانس الثقافي ، والتناغم الاجتماعي ، وهما من العوامل الهامة للاستقرار والثبات التي تسعى جميع المجتمعات إلى الوصول إليها في وضعها الراهن،والتي كانت في الماضي تتحقق بشكل تلقائي نتيجة لمحدودية المهارات والخصائص التي كان يحتاج إليها الصغير ليدخل عالم الرجولة ، وفي الكثير من المجتمعات الرعوية لا توجد إلا فواصل محدودة تفصل عالم الطفولة عن عالم الرجولة الذي يدخله الطفل في سن مبكرة،ونفس الأمر يقال عن أطفال مجتمعات الصيد البري والبحري ،ومجتمعات الجمع والالتقاط ،والمجتمعات التي تهمل التعليم الرسمي للطفل نتيجة لظروف التسرب المدرسي بالانقطاع عن الدراسة حيث يدخل الصغير ميدان العمل في سن مبكرة ويكون لزامًا عليه أن يدخل ميدان العمل بخصائص الرجولة القسرية إذا جاز التعبير ،وفي كل هذه الحالات تتشكل نوع من الثقافة الإجبارية التي تضطرب اضطرابًا شديدًا ،وتصبح من العوامل التي تتسبب في الانحرافات بأنواعها مع تزايد الضغوط على الأسرة والتي ينتقل تأثيرها بشكل مباشر إلى الأطفال .
ومن الأمور الملاحظة في التربية المعاصرة طول الفترة الزمنية التي تتطلبها عملية الصقل والتشكيل والإعداد ؛ نتيجة لتشعب العلوم والمعارف وتنوعها،وكثرة فروع المعرفة التي تتطلبها الوظائف وتنوع الأدوار الاجتماعية في المؤسسات المدنية وغير المدنية في المجتمعات الإنسانية المعاصرة التي تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم،وهذا يزيد من أهمية الخبر وثقافة الخبر،وتضع مزيدًا من الأعباء والمسؤوليات على عاتق المسؤولين عن التربية عامة،وتجعل مهمة الاختيار والانتقاء عملية شاقة تحتاج إلى جهود تعاونية على كل المستويات في الأنساق الاجتماعية،وزاد من عبء المسؤولية التغيرات العالمية التي وجدت فيها الكيانات الاجتماعية نفسها في خضم بحرها الزاخر بالاحتمالات الكبرى .
ولا شك أن الاتجاه العلمي في البحث والدعوات المستمرة إلى عقلنة الحياة تلح بأسلوب أو بآخر على ضرورة اعتماد الأساليب التقريرية التي تنحوها ثقافتنا المعاصرة وذلك بسيطرة المناهج الرياضية والفيزيائية والتي كانت آخر تطبيقاتها علوم الحاسب الآلي على التفكير الإنساني؛ فتفقده يومًا بعد يوم المسحة الرومانسية الشاعرية التي كانت من عوامل تجميل الحياة وتبسيطها وتخفيف أعبائها،فلا عجب أن تنتشر العلل والأمراض النفسية في المجتمعات الحالية بشكل يكاد أن يستعصي على الحل،ويعلق كل مهتم بالحياة والتطور والتغير على شماعة الثقافة كل ما يتوهمون أنه سبب من أسباب ما لا يستطيعون استيعابه من مظاهر التغير السريع في الحياة الإنسانية المعاصرة،والتي أسهمت التكنولوجيا والآلة عمومًا في ظهورها .
وبهذا نرى أن ثقافة الخبر لا تقتصر على الآثار الثقافية لأجهزة الأخبار في وسائل الإعلام،بل يتعدى الأمر إلى جميع أشكال الثقافة المكتسبة على هيئة أخبار وتقارير يعبر بها الإنسان دائمًا عن حيوية جهازه الإدراكي،وقد أدى تركيز وسائل الإعلام إلى سيطرة النموذج الإخباري التقريري للمعرفة والثقافة من خلالها ، ومنحه الطبيعة الثابتة التي تتبادر إلى الذهن كلما تفوهنا بكلمة خبر؛ويرجع ذلك إلى خصائص الوسيلة الإعلامية والشروط التي فرضتها طبيعة مهنة الصحافة والإعلام عامة على الخبر بدافع اقتصادي أو مهني فرضته المنافسة والسرعة ودواعي التخصص الدقيق في الحياة على المستوى العملي والنظري إلى جانب العوامل الأخرى.
يقول عالم الإعلام المشهور ماكلوهان إن الوسيلة هي رسالة (Media is a message .) ولم يقل هذا العالم الكندي الكبير هذا القول عبثًا،وإنما نتيجة إدراكه لعمق تأثير الوسيلة الإعلامية كجهاز معقد في مضمون الرسالة بحيث أصبحت تتدخل في أساليب الإقناع والعمليات النفسية المرتبطة بها والمتعلقة بآلياتها.
5 التناغم وعدم التناغم الثقافي:
يؤدي التجانس الاجتماعي على مستوى الأسرة والمدرسة والمجتمع،والثبات في أجهزة المعايير والقيم إلى حالة من التناغم والانسجام الثقافي في شخصية الإنسان منذ الصغر،ويعمل على تثبيت هذه الحالة تفرد مصادر التثقيف والتشكيل والتنشئة الاجتماعية،فالطفل الذي ينشأ لأبوين عربيين مسلمين في مجتمع عربي مسلم ويتلقى تعليمه في مدرسة عربية مسلمة،يتصف بالحالة التي أطلقنا عليها:التناغم الثقافي،في حين تقل فرصة حصول ذلك لطفل يختلف أحد أبويه في منابع ثقافته عن الآخر،وخاصة إذا اتصفت العلاقات بين الأبوين بالاضطراب وعدم الاتفاق على نوع التربية التي يقرران أن يتلقاها طفلهما في مراحل تعليمه،ولعدم التناغم الثقافي حالات تطبيقية كثيرة،وتزداد ظهورًا لدى فئات المهاجرين الشباب الذين تضطرهم الظروف إلى الزواج من الأجنبيات تحت ضغط الحاجة إلى الحصول على حقوق الإقامة،كما تظهر هذه الحالة في الأسر التي جاء كل من الأب والأم من أسر ذات مستويات اجتماعية وثقافات واتجاهات متباينة أو عندما يفرض على الطفل في سنوات عمره الأولى تعلم لغة قبل أن يكتسب لغته الأم،وغالبًا ما يؤدي فقدان التناغم أو ضعفه إلى ظهور مشكلات سلوكية لدى الأطفال يلاحظها المربون والعالجون النفسانيون .
6 قد يكون التقرير كاذبًا:
وما دمنا سلمنا أن ثقافة الإنسان في هذا العصر تعود كما بدأت بتحولها إلى ثقافة التقرير فإننا لا بد أن ننتبه إلى أمر هام وهو في غاية الخطورة على مستوى حياة الإنسان الفرد ، وعلى الجماعة وعلى الإنسانية عامة وهي:أن التقرير الذي يبدأ الإنسان قوله أو كتابته أو تأليفه أو استخدامه في الخبر قد يكون تقريرًا كاذبًا!وهذا في الحقيقة هو أهم أمر يلقي على عملية التربية بجميع أطرافها واجبًا أخلاقيًا،بأن يدربوا الصغير منذ بداية ممارسته الثقافة التقريرية على الصدق وقول الحقيقة،مهما كان التقرير المطلوب كتابته أو إلقاؤه قصيرًا ولو كان يقوم على فكرة واحدة فقط،وهذا ما يعتمده المعلمون في عمليات التقويم العلمي اليومي أو الفصلي،ويتطلب ذلك أحيانًا التسبب ببعض الآلام،والتنازل عن الأغراض الأنانية،والمصالح الذاتية للطفل،وهذان هدفان أصيلان من أهداف التربية الصحيحة،إن وظيفة أساسية من وظائف التربية أن نخلص الطفل من أنانيته الملازمة لتأثير الدوافع الفطرية ،الالتي تكون ضرورية للنمو في السنتين الأوليين ،ولكن الحياة لا تبقى فردية ،بل يزداد يومًا بعض يوم ،وبتكاثر البشر وزيادة فرص الانفتاح بين الأجناس والشعوب والدول التحول إلى الخصائص الاجتماعية،وهذا يتطلب غرس القيم الإنسانية العامة في الناشئة ،وهي عملية ضرورية للعيش في العالم المعاصر.
وأكبر ما يخشاه الآباء والأمهات في الجو الإعلامي الحالي المشحون بالكذب والتدليس والتضليل بكل أشكاله وألوانه أن يمتد تأثيره إلى التربية في ظل التفسخ الأسري المتزايد،والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة،إن التدفق الإعلامي والكثافة في المواد الإعلامية ،والإصرار على الهبوط الدائم بالمستويات في الشكل والمضمون،وانهيار القيود في ضبط التعرض لتأثير هذا العمل التراكمي للإعلام،والانفتاح الذي لا ضوابط له ،وسهولة افتتاح القنوات الفضائية،وانسحاب المال من المجالات الاستثمارية الفعالة التي يستفيد منه الجمهورالعريض من المواطنين،وتوسع القاعدة الإعلامية وتحولها من مجالات التوجيه والمعرفة البناءة إلى اللهو والترفيه الرخيص ،كل ذلك وغيره كثير عوامل سحبت البساط من الوظيفة المعرفية والتثقيفية والبنائية للأسرة،وعلاج ذلك لا يكون إلا بطريق واحد لا ثاني له،وهو الرجوع إلى القيم الدينية ، والإسلام في ذروتها باعتبار أنه دين الخبر الحق،دين التقرير الموثق ذي المصداقية المطلقة في تقديم المعلومة الصحيحة عن الموضوعات المركزية الرئيسة للفكر الإنساني:الله والعالم والنفس،إن الإسلام بهذا الصفة يقوم بالدور البنائي الوظيفي التي تتبناه النظريات الاجتماعية في تفسير الفعل والسلوك الاجتماعي في ظل التحولات الكبرى للبشرية من العزلة والتباعد إلى الانفتاح وتشابك العلاقات والمصالح،والوظيفة المعرفية المنظمة للدين الإسلامي تعطي تقدم للبشرية بناءً وظيفيًا رصينًا [ii]من الأيديولوجيا والسلوك الفردي والاجتماعي المنضبط الذي يقي من الوقوع في مزالق الإثارة الإعلامية التي تؤسس حاليًا لثقافة الكذب في السلوك الفردي والجمعي والدولي.
7 الأهلية([iii]):
وتعتمد كافة الصفات والأفعال الإنسانية في ظهورها والاستعداد للقيام بها على حالة تسمى الأهلية ، "والأهلية نوعان : الأول : أهلية وجوب ، أي الاستعداد الفطري والنمو الزمني للتكليف أو استحقاق الحقوق ، أي صلاحية الإلزام والالتزام ، والثاني :أهلية الأداء ،وهي من أدى الأمانة إذا أوصلها ، وأدى الدين : إذا قضاه .
والمراد بأهلية الأداء : صلاحية الشخص لممارسة الأعمال التي يتوقف اعتبارها الشرعي على العقل .
وتمر أهلية الأداء في الإنسان بمراحل ثلاث : المرحلة الأولى تكون فيها أهلية الداء منعدمة ، وتمتد هذه المرحلة من علوق الإنسان في رحم أمه حتى بلوغه سن التمييز ، ففي مرحلة ما قبل التمييز لا تصح عقود الصبي ولا تصرفاته المالية ... والمرحلة الثانية تكون فيها أهلية الأداء ناقصة ، وتمتد من التمييز إلى البلوغ ، وفي هذه المرحلة تصح تصرفاته الدينية كالصلاة والصوم ، وأما تصرفاته المالية (ففيها تفصيل ) ... والمرحلة الثالثة ، وفيها تكتمل أهلية الأداء ، فتعتبر أقواله وأفعاله شرعًا ، وتبدأ هذه المرحلة من البلوغ مع الرشد ، وتستمر إلى الموت ، مالم يعترضها ما يزيلها من جنون أو عته أو حجْر لسفه أو مرض أو فلس " .([iv])
النوع الثاني أي أهلية الأداء التي تلح على درجة من الاستعداد الفطري للتلقي والقيام بالسلوك،فلكي يقوم الإنسان بسلوك معين فلا بد أن يكون مؤهلاً لهذا السلوك،والخبر نشاط عقلي يحتاج إلى درجة من الأهلية للقيام به وأدائه،بصرف النظر عن قبوله أو رده،وهذه الأهلية حيوية بالنسبة للثقافة أيضًا من حيث أن تشكلها على مستوى الفرد يبدأ ببلوغ درجة من النمو والوعي بطاقات وحاجات الذات ، وإدراك الوسط الذي يكون فيه الإنسان في زمن محدد .
8 الثقافة والتربية والتعليم:
تتشابك المفاهيم في هذه المجالات الثلاثة كما تتشابك المجالات المتعددة لها،وتتداخل هذه العمليات في تشكيلها للفرد منذ بدء الحياة وإلى آخر العمر،غير أن الباحثين يميزون تمييزًا دراسيًا بين المفاهيم الثلاثةالتي اشتمل عليها عنوان هذه الفقرة من موضوعنا.
التربية:كل ما يشتق في اللغة من مادة(ربَّ،أو ربب)([v] )تعني الزيادة،عملية تنشئة تامة كاملة متكاملة شاملة مستمرة للكائن الحي،ومن ثم للإنسان،منذ أن يتكون خلية وحيدة لحظة العلوق،وحتى الوفاة،وتهتم التربية بكل جوانب الشخصية الإنسانية:الجسمية،والعقلية،والنفسية،والاجتماعية،وتخضع التريية لتأثير العوامل المقصودة وغير المقصود:الطبيعية ،والاجتماعية،وقد تتخلل هذه العملية المستمرة بعض الإشكالات،أو تعوقها بعض العوائق،ولكنها لا تتوقف،بل قد تنحرف عن مسارها،وحينئذ يكون للأمر مفهوم آخر في علوم الإنسان.
أما التعليم:فهو جزء من عملية التربية في رأي المتخصصين يتعلق بالناحية العقلية،وبعض الباحثين لا يفصل بينهما، ولا يفرق بين المفهومين،كما يستعمل في اللغة الإنجليزية education ليدل على كلا العمليتين،وكما هو الحال في وزارة التربية والتعليم هنا في المملكة العربية السعودية،وفي كثير من اللاد العربية،إذ أن علم التربية يسمى بيداجوجي،وليس هو المقصود من مسمى التربية والتعليم الذي يطلق على النظر والعمل في العمل التربوي،وغني عن القول أن التعريف الضيق للتعليم يتضمن الطرق والوسائط التي تستخدم في العملية،وتعرف حاليًا بتقنيات التعليم،وعلى نحو آخر يعبر عنها بوسائل الإيضاح،أو الوسائل المعينة.
وقد يكون من المفيد أن نعرف شيئًا عن التعلمأيضًا؛إذ هو لصيق الصلة بعمليتي التربية والتعليم.
والتعلم في أبسط معانيه عندما يعرفه المتخصصون تعريفًا عامًا شاملاً:يعني التغير في أداء الكائن الحي،أي التغير في سلوكه،فهو عملية تحدث بتأثير حيوية وإيجابية الكائن الحي،وتنبع من داخله،استجابة للدوافع أو الغرائز أو الحاجات،واستخدامنا لتعبير(الكائن الحي) هنا ذو دلالة؛لأنه حتى الحيوانات والحشرات وجد العلماء والباحثون عن طريق الملاحظة العلمية والتجريب أنها قابلة لتغير أداءها،أي سلوكها،وبمعنى آخر هي قابلة للتعلم Learning،وقد أتاحت لنا وسائل الإعلام وخاصةً التلفاز فرصة الاطلاع على الكثير من التجارب التي كانت في الماضي موضوعًا من موضوعات الخيال العلمي .
والآن قد يكون اتضح لنا بعض الشىء العلاقة بين تلك العمليات الإنسانية،وأنها لا تنفصل عن بعضها،بل هي كل لا يتجزأ،فالثقافة ثمرة التربية والتعلم والتعليم،وهي وعاء العمليتين،ومنبع الخبرات التعليمية والتعلمية، وفي ضوء المعايير والأحكام التي تتضمنها يتم انتقاء واختيار وتحديد المناهج والخبرات المرغوب في تعلمها وتعليمها،وتلعب الأعراف والعادات والتقاليد دورًا حاسمًا في عملية التربية،وإعداد الناشئة للحياة الحاضرة والمستقبلة.
ولكن الثقافة تزيد قليلاًً عنهما في أنها ذات خصائص فائقة في علاقتها بالأمة أو الشعب أو الإنسان علي إطلاقه،وفي التاريخ البشري عامة،وقد كشف لها تلك الخصائص الباحثون والعلماء المغرمون بالتحليل والتفسير،فأثروا بذلك المعرفة الإنسانية عن الإنسان وحضاراته،على الرغم من أن العالم إلكسيس كارليل في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) الذي نال عليه جائزة نوبل في ستينيات القرن العشرين الماضي لا يوافق على ذلك،فلا زال الإنسان سرًا مغلقًا في رأيه،وما نعرفه من الحقيقة لا زال بعيدًا حتى عن قشرة البرتقالة،وهذا التعبير من عندي،ولكنه خلاصة رأيه.
9 الخبر :
ما الخبر ؟ ما طبيعته ؟ وما علاقته بالثقافة ؟
ماذا نقصد بالثقافة ؟ وما طبيعتها ؟
وكيف ارتبط الاهتمام الإنساني بمجريات الحياة بمجموعة الأخبار التي كونت وتكون الثقافة الإنسانية ؟
وكيف تشكلت الحياة الإنسانية طوال مراحل تاريخها بفعل الخبر ، بمفهومه البسيط ، وبمعناه الفلسفي العام ؟ ببعده الديني ، أو طبيعته الإعلامية ؟
وماذا يقدم البحث في طبيعة كل من الخبر والثقافة من تقدم في قضية المعرفة ؟ أو في الأزمة الفكرية التي تواجهها الإنسانية في ظل الأحداث الراهنة ؟
* إن الخبر معلومة ( الخبر من خبر والمعلومة من علم ) عن شخص أو شيء أو أمر ما ، كنا قبل معرفتنا بهذه المعلومة أو العلم عنه نجهل وضعه أو حاله ، فأصبحنا بعد نقل هذه المعلومة عنه في حالة معرفة ووعي وإدراك ، وصرنا نعرف عنه بعد أن كنا نجهل ، وحينئذ يمكننا أن نقول بأن هذه المعلومة أو هذا الخبر أصبح جزءًا من مدركاتنا ، واستقرت في عقولنا بعد أن دخلت من طريق واحد أو أكثر من منافذ المعرفة الحسية والعقلية ، وهذا أبسط ما يمكن أن نفهم به الخبر ،
وحسب منهج هذا الكتاب فإن الخبر خبران :
خبر ديني وهو أخبار الوحي الإلهي ، ويشمل ما جاء به الرسل والأنبياء تبليغًا عن الله سبحانه وتعالى ، وهو الخبر الثابت الأولي الشامل الذي يؤمن به المؤمنون أتباع الأديان السماوية فيها جملة وتفصيلا،مع اختلاف في درجة الطاعة والالتزام،ويسمى الخبر السمعي،أو الخبرالمنقول، وأصح صيغة لهذا الخبر،وأدق صورة له هو ما جاء به الإسلام،الدين الخاتم،الدين الحق الكامل الصحيح .
وخبر بشري : وهو من قبيل ما يتعامل به الناس في حياتهم،وما ينتج عن عمل العقول والحواس الإنسانية في أمور الحياة ومجرياتها،وكثير من الأفراد والجماعات البشرية تعزل هذا الخبر عن التأثيرات الدينية بدعوى الموضوعية والحياد،عن جهل منهم بأن جميع ما يصدر عن الإنسان من قول أو عمل إنما هي أقدار مقدرة من الله سبحانه وتعالى،والله وحده هو الذي وهبهم العقول والحواس والقوى المدركة.ثم إن الناس في تعاملهم اليومي ومنذ فجر الحضارات وإلى يومنا هذا إنما يستخدمون المادة المعرفية التي جاءت في خبر الوحي،وتشكل عناصر الفكر الديني معظم ما يشغل الناس من القضايا،فكل ما يتداوله الناس في الحياة يرتكز إلى أصل ديني سواء من النصوص الدينية الصريحة،أو مما تأسس على الدين من الأعراف والمعتقدات والمعاملات والمفاهيم،وخاصة في الجانب المعنوي من الحياة الإنسانية.
وهذا الخبر البشري هو أخبار كل جماعة أو أفراد لا يتخذون الدين السماوي مرجعًا فكريًا وسلوكيًا تصدر عنه أقوالهم وأفعالهم،على كثرة المسميات التي تطلق عليهم كالعلمانية والدهرية أو الشيوعية المادية او الوجودية وغير ذلك من المذاهب الوضعية،وهو أمر مشترك بين الناس جميعًا.
وهذا التقسيم تقسيم عام ومنهجي بحت،يتجاهل بالضرورة التفاصيل الصغيرة التي تكون الواقع العملي للتنوع في الحياة البشرية التي يمثل الخبر أحد أهم أساليب التعبير عن بعدها الثقافي ، ذلك البعد الذي يتمايز يومًا بعد يوم في ظروف الحياة المعاصرة التي صارت المعلومات عمودها الفقري،وصار للإعلام دوره الذي لا ينكره أحد .
وبين هذين النوعين تقع أخلاط من المعتقدات الذاتية ، والأفكار شخصية ، والمذاهب الوضعية لدى كل من اختلطت لديهم الثقافات والمعايير والمرجعية الفكرية ؛ نتيجة لعوامل يصعب حصرها ، أدت إلى تشابك الخيوط الإنسانية ، وما آلت إليه البشرية حاليًا من استخدام مقاييس غير المقاييس الإسلامية أو حتى مقاييس لها علاقة بالأديان الأخرى؛ذلك لأن الناس يتجهون حاليًا إلى وضع ثقافي يكون فيه الإنسان مقياس نفسه،وهو عصر لا نجد له شبيهًا في تاريخ الفكر إلا عصر سيطرة مقولات السوفسطائيين في أثينا على الفكر الإغريقي القديم على زمن سقراط الحكيم، والذي كانت نتيجته أن دفع هذا المفكر الفيلسوف حياته ثمنًا لمواجهتهم .
10 الثقافة:
لأن الثقافة في مجملها عمل يحكمه العقل،أرى قبل الخوض في الموضوع أن أقدم أنموذجين من التفكيريلقيان بعض الضوء على المنطلق الفكري الذي تنبع منه الثقافات،وأحد هذين الأنموذجين بشري المنشأ من بلاد الإغريق(اليونان القديمة)والثاني وحي إلهي من منابع الفكر الإسلامي،والأنموذجان لهما علاقة بأصل الأشياء،وأصل الثقافات،مع التحفظ بأن التوفيقات الإلهية للبشر عندما يتوصلون إلى الحقيقة إنما هي من الله سبحانه وتعالى الذي وهب للإنسان العقل ووفقه إلى الخير.
*الأنموذج الأول بعنوان: جزيئات أو تجزيئات أنكسماندرAnaximander Fragments وأنسكماندر فيلسوف إغريقي عاش بين عامي (611و546 قبل الميلاد) ،والأفكار الرئيسة عنده هي:
برز الكون إلى الوجود من كتلة لانهائية متجانسة.
المادة الأساسية للكون لم تكن واحدة من العناصر الأربعة المعروفة:الأرض والهواء والنار والماء،ولكنه شىء وسطي.
تكون العالم عندما انفصل كل من الحار والبارد من اللانهائي أو المطلق بواسطة حركته الداخلية.
تشكلت الأرض كطبلة محاطة بأغلفة مملوءة بالنار والضباب، وبها ثقوب من داخلها:الشمس والقمر والنجوم.( [vi])
أما الأنموذج الثاني: فهو ما يقوله القرآن عن نشأة العالم:
نتأمل ذلك في هذه الصورة المعبرة من القرآن الكريم قال تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } (الأنبياء 30)
ونتأمل أيضًا الحديث الشريف :" الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت،والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني."
ما أوردناه سابقًا هو من العناصر الأساسية التي تكون هذا المركب الذي يشبه البحر في اتساعه،وهو ما اصطلح عليه بالثقافة،وأستطيع القول:إن الوقوف على ساحل هذا البحر أمر ممكن،ولكن يكاد يكون من المستحيل الخوض في غماره دون أن نتزود بمراكب الصبر والحصافة والقدرة على الانتقاء والاختيار والفرز والتصنيف،وتحديد الهدف بكل وعي ودقة وموضوعية،ودون أن يكون لدينا إلمام بأوليات التاريخ ومبادىء الفكر الإنساني والبدهيات التي تقوم على التنوع الفكري،والتباين في إطار الوحدة الموضوعية العضوية التي تستند إليها فطرة الإنسان،وطبيعته الاجتماعية،ودون أن ندرك: دوافع الإبداع وسيكلوجية الابتكار،ونؤمن بقيمة العقل الإنساني وطاقاته الكبيرة،وقيمة الحرية في حياتنا.
الثقافة هي ما نحن عليه في واقعنا،وما نتطلع إليه في المستقبل،وما نطل عليه بكل الحنين من نافذة الحاضر إلى الماضي،هي الحياة المتجددة الصاعدة،ولكن هل هذا يكفي لتعريف الثقافة والإلمام بجوانبها،وقد أسلفنا أنها بحر بلا شواطىء،بعيد غوره،صعب اجتيازه؟ لا! فالإجابة ليست بهذه البساطة.
فما الثقافة يا ترى؟
للمصطلح "ثقافة" استخدمان رئيسان :
1 يمكن أن نعني به الإنتاج الحضاري عالي المستوى:كالأدب والفلسفة ،كما هو الحال في الاستخدام الدارج في وصف الأشخاص المتعلمين تعليمًا عالي المستوى بقولنا:فلان رجل مثقف.
2 وتستخدم من قبل الأنثروبولوجيين وغيرهم من الدارسين للإنسان لدراسة الخصائص المميزة للتاريخ الإنساني والوجود ، وخاصة الأفكار،والعادات،والموضوعات المادية،وكل ما من شأنه أن يساعد على التكيف للبيئة الطبيعية.
ففي الاستخدام الأول نميز ما بين المتحضر وغير المتحضر،والمتعلم وغير المتعلم.
أما الاستخدام الثاني فإن المصطلح: ثقافة يميز بين الإنسان وغيره من الأنواع الحيوانية.
ووفق المفهوم الثاني فإن للثقافة ثلاثة جوانب:
الثقافة كعملية تطورية،ومن هذا المنطلق درس علماء الأنثروبولوجيا الإنسسان منذ نشأة الحضارة وفي مراحل تطورها دراسة مقارنة.
الثقافة كعملية وصفية،وهو ما ظهر في عمل العلماء في دراساتهم المقارنة للجماعات البدائية،والشعوب التي وجدها المستكشفون الجغرافيون في البلاد التي كانت مجهولة في أستراليا وأفريقياوآسياوالعالم الجديد،منذ القرن الخامس عشر الميلادي وما بعده.
الثقافة بوصفها تعبيرًا عن سلوك الإنسان وطابع حياته ومن هذا المنطلق درس العلماء الثقافة كظاهرة اجتماعية،أو باعتبارها سقًا اجتماعيًا يظهر في المعايير والقيم والأخلاق والفنون ،وغيرها من مظاهر الحياة الإنسانية،وما أبدعه العقل من المخترعات .([vii])
والثقافة في اللغة: من ثقِف الشيء إذا حذقه، ورجل ثَقْفٌ وثَقِف:ْ بَيِّنُ الثقافة، إذا كان ضابطًا لما يحويه قائمًا به . وثقِفَ الشيء إذا ظفر به ، والثقف : الفطِن ، فالثقافة الصقل والحذق والفطنة والأخذ ،ثَقَّفَ الشىء:أقام المعوج منه وسواه،والثقافة:العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق فيها.([viii])
وكلها صفات إيجابية ، نتيجتها بالضرورة تغيرٌ إلى الأفضل،وحالة متقدمة من التفكير والسلوك في الإنسان الذي يوصف بأنه مثقف،وفي حديث الهجرة في وصف أم المؤمنين عائشة لأخيها عبد الله رضي الله عنهما عندما كان يأتي بأخبار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أثناء اختفائهما في الغار بأنه : " ثَقِفٌ لَقِن ٌ " . وفي حديث أم حكيم بنت عبد المطلب : "إني حَصانٌ فما أُكَلَّم ، وثَقافٌ فما أُعَلَّم ". ([ix])
فتعريف كلمة "ثقافة" تعريفاً دقيقاً أمر غير متاح، وذلك لأن المعنى اللفظي لهذه الكلمة يضيق عن استيعاب مدلولها المتشعب، ذي الدلالات الكثيرة، والأبعاد غير المتناهية؛ لأنها كلمة جديدة لا تتصل بالمدلول اللغوي الذي ذكرته معاجم اللغة العربية، إلا من قبيل التأويل والمجاز.
وترجع كلمة cultureإلى الفعل اللاتيني colere ويعني فعل الزراعة،وهو ليس بعيدًا عن المدلول الحقيقي للثقافة، فهي زراعة ونمو وتهذيب وحصاد.
وهناك خلط بين كلمتي:ثقافة وحضارة civilizationفقد استخدمت الكلمة الثانية بمعنى الثقافة نتيجة للكشوف الجغرافية في القرن الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين من قبل علماء الأنثربولوجيا الذين درسوا الجماعات البدائية،واستخدموا ثقافاتهم في محاولة بناء معارف علمية عن تاريخ ثقافة الإنسان وتطوره عبر مراحل التاريخ،ولكن العلماء الألمان فرقوا بين الكلمتين،وقصروا لفظ ثقافة على النواحي الدينية والأخلاقية والتربوية ومظاهر الحياة الروحية،أما الحضارة فتطلق على النواحي المادية والتطور العلمي والاكتشافات العلمية،ولا سيما الظواهر التقنية والفنون الصناعة([x])
والحقيقة أن الثقافة تشمل الجانبين: المعنويات والماديات،ويشتمل الجانب المعنوي على القيم الاجتماعية وقواعد السلوك(الأحكام) والجوانب المعرفية في حياة الفرد والمجتمع،أما الماديات فأمرها معلوم محسوس.
أما في الاصطلاح: فقد كان العلامة الإنجليزي تايلور أول من عرف الثقافة،وذلك في كتابه:الثقافة البدائية (1871م)،فعرَّفها بقوله:الثقافة ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات وغير ذلك من القدرات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوًا في المجتع.
ومن المعاني المتداولة لكلمة ثقافة:المشاركة البارعة في فروع شتى من المعرفة وبلوغ الفرد والجماعة مستوى عالٍ في كسب المعلومات.
وقد شغلت قضية الثقافة الكثير من المفكرين منذ القدم ، وخاصة علماء الأنثروبولوجيا الذين كانوا يدرسون ثقافات الجماعات البدائية الذين تم اكتشافها في قارة آسيا وأفريقيا واستراليا والأمريكيتين على يد المكتشفين والمغامرين،وهي ما كان يسميه العرب الأدب،وما أطلق عليه كتاب القرن السادس عشر الميلادي تدريب العقل،ووصفها فولتير الفيلسوف الفرنسي الشهير بتكوين الروح،واعتبرها كل من كنت وهيجل ونيتشه مظهرًا للوعي البشري،وأولاها المفكرون في العصر الحاضر اهتمامًا خاصًا لأنها أصبحت مسؤولية اجتماعية في دولة المؤسسات.
وعرَّفها أحد الكتاب بأنها:
"مظهر للوعي الذي يستوعب الإنسان من خلاله ، فردًا أو جماعةً العالم ويفهمه ويجعله شفافًا أي قابلاً للتمثل في الذهن أو هي استجابة لواقع موضوعي قائم خارج الذهن يفرض نفسه بصرف النظر عن الفكرة أو الصورة التي يصنعها له الوعي".([xi])
وورد تعريف الثقافة في معرض تعريفهم للتراث والموروث الشعبي بمقولة شمولية هي: كل ما تركه السلف للخلف، ويتضمن هذا الموروث عناصر عديدة منه العادات والتقاليد والمعتقدات يتركها السلف للخلف، والألعاب والحرف والأهازيج والأمثال والأشعار والآداب وكل أاشكال الإبداع الإنساني.
حيث تؤكد هذه الأشكال الثقافية مراحل التطور التاريخي لأية أمة أو شعب،ونجد أن هذا التعريف جاء متسقاً مع تعريف الثقافة الذي جاء في إعلان مكسيكو الصادر في أغسطس 1982م حيث عرف الثقافة بمعناها الواسع "بأنها جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان والنظم والقيم والتقاليد والمعتقدات."([xii])
ويطلق أنصار الاتجاه البيولوجي في دراسة الثقافة مصطلح:الوراثة الاجتماعية،ويقصدون بذلك:أن الإنسان يرث ثقافته كما يرث جيناته الوراثية،وقد واجه هذا التعريف معارضة شديدة من أنصار المذاهب الاجتماعية الذين يركزون على تأثير البيئة وتفاعل شخصية الإنسان مع عناصر البيئة.([xiii])
وفي مجال آخر لتعريف الثقافة نجد أنها:
حصيلة مجتمع ما وما استوعبه في مجال التعليم والمعرفة والوعي العام.
وهي أيضًا الرقي بشخصية الانسان وحسن تنميتها وتهذيبها والارتفاع بها على المستوى – الروحي والمعنوي والمستوي المادي. كسب الفرد والمجتمع في الآداب والفنون ابداعاً ورقياً وإثراء لوجدان الامة اساليب وطرق وانماط الحياة من ملبس ومأكل ومشرب وعادات وتقاليد وموروثات وأساليب حديثة تسهل سير الحياة في مجملها في هدوء وسلام. ([xiv])
وعند (ريكارت) أن الثقافة تشمل جميع الأمور والشوؤن والمسائل ذات العلاقة بالقيم والمبادئ الإنسانية.
خصائص الثقافة:
للثقافة خصائص ذكرها العلماء المتخصصون في دراسة هذا الجانب الإنساني،وخلاصة ما توصلوا إليه ما يلي:
أنها تتكون من نوعين، ثقافة ظاهرة، تبدو في الهياكل البنائية في المجتمع،وضمنية،ويقصد بها الوجه التجريدي الذي يمكن استخلاصه من النماذج السلوكية المميزة للجماعة،والمتمثلة في السلوكيات التي تحدث بانتظام.
أنها قابلة للاكتساب والتعلم:وهذه الخاصية هي التي دفعت المجتمعات إلى العناية بالنظم التعليمية التي تتخذها وسيلة للمحافظة على استمرارها وبقاء شخصيتها المتميزة.
قابليتها للانتقال والتحول:فالثقافات تنتقل من فرد إلى آخر عن طريق التعلم والتقليد والتقمص،وتنقل من مجتمع إلى آخر ،ومن أمة إلى أخرى،وفي أغلب الأحوال فإن الثقافة في انتقالها تتمحور وتتحور وتتشكل وتكتسب طابعًا متميزًا في البيئة الجديدة.
الخاصية الاجتماعية:للثقافة علاقة وثيقة بالدوافع الإنسانية والحاجات المادية والاجتماعية،ومن هنا فإنها لصيقة بالخصائص الاجتماعية للجماعة،وقد لقيت الثقافة بوصفها نسقًا اجتماعيًا عناية كبيرة من علماء الاجتماع والتربية والدعاة؛لما لها من دور كبير في أداء الوظائف الاجتمائية،وتقوية الانتماء،وتوثيق عرى العلاقات بين افراد المجتمع.
قابليتها للانتقال والتحول تكتسب الثقافة هذه الخاصية من خلال عمليات التوجيه والتنشئة الاجتماعية،بدءًا من الأسرة فالمدرسة فالمؤسسات الاجتماعية وبيئة المجتمع العام بأنظمتها ومعاييرها وقيمها وأحكامها؛فيتشرب الناشىء الثقافة،وتتصلب وتتماسك مع استمرا الشخصية في النمو والثبات.
التكامل:تعمل العناصر الثقافية والأنساق الفكرية في المجتمع بشكل متكامل،وإلا حدثت مظاهر عدم التناغم التي تكمن فيها بذور الصراعات والخلاف،وهما أمران يعمل كل مجتمع بكل الوسائل على مقاومتهما،والتخفيف من آثارهما.
الديناميكية:بمعنى أن العناصر المختلفة تتفاعل،وينتج عن ذلك حركة دافعة،وهذه الحركة تولد المزيد من السمات والأنماط والأنساق.
التبادلية:وهذه الخاصية هي التي تتيح الفرص لانتقال الثقافة بأشكالها المختلفة بين الأفراد والجماعات،ومن أمة إلى أخرى
أنها تتكون وتنتقل بطريقة شعورية أو لاشعورية،تبعًا للدافع والموقف.([xv])
من أهم خصائص الثقافة علاقتها القوية بالعقائد:سواء ما كان منها مصدره الوحي الإلهي المتمثل في تعاليم الأديان السماوية،وما كان منها من صنع البشر،كالفلسفات والمذاهب البشرية الوضعية،وتكتسب الثقافة من هذه العلاقة خصائص ذاتية من أهمها:قوة التماسك وصلابة التكوين والثبات والعموم،وقوة التأثير على من يعتنقونها،وكلما كانت العقيدة واضحة ومنطقية وتقدم تفسيرات مقبولة للقضايا الأساسية في الحياة الإنسانية اليومية،أو على المستوى الإنساني العام،كالولادة والموت والمصير،والعلاقات الاجتماعية وتنظيم الحياة والدفاع عن الذات والجماعة،فإنه يكون لها تأثير أقوى على المكونات الثقافية على مستوى الفرد والجماعة،ويظهر أثر ذلك التأثير في الإنجازات الحضارية والثقافية التي تميز الجماعة عن غيرها،وتفسر هذه العلاقة بين الثقافة والعقيدة التباين الحضاري بين الأمم والجماعات في زمن معين،والتباين بين حالات لأمة معينة في عصور مختلفة.
ويظهر التأثير الطاغي للعقيدة على الثقافة ومن ثم على السلوك الإنساني الفردي والجمعي عندما تدعو الحاجة في ظرف ما إلى التضحية وقت الأزمات والكوارث والحروب والتحديات التي تواجه الجماعة،ففي هذه الحالة تصطبغ الثقافة بالخصائص العقدية الصرفة،وتحيد العناصر الضعيفة منها،وتعلي من قيمة القيم المعنوية،وتستثمر القيادات هذه الخصائص في استنهاض روح الجماعة،وبعث الحماس والحمية والرغبة في التضحية،بالتذكير بما تمتاز به من المكونات العقدية التي تدفع إلى التضحية دفاعًا عن المثل والقيم والمكونات الفكرية والثقافية حتى لو كانت عقائد باطلة أو وهمية أو سحرية أو غير عقلانية بعيدة عن المنطق،وتوظف التاريخ والمكونات الشعبية والموروث الثقافي والحضاري للجماعة بما ينشط الطاقات ويحشد الجهود ويوجهها لتحقيق الغايات والأهداف التي تدعو الحاجة إليها في مرحلة ما من حياة المجتمع
11 الثقافات: صراع أم تفاعل ؟
الثقافة كالكائن الحي، تنمو وتتكون وتتكيف وتتشكل وتتمحور،وتتغير،واحيانًا تقاوم،وأحيانًا أخرى تذوى وتذبل وتموت،ويحكمها قانون البقاء للأصلح،والأصلح في قوانين الطبيعة هو الأقوى في مناسبته للفطرة وفي قربه من الحقيقة،وفي جدواه في تحقيق مصالح الناس.وعندما ننظر إلى رحلة الإنسان على الأرض نكتشف حقيقة هامة في ميدان الثقافة،وهي أن المعارف الإنسانية رغم التباين بينها إلا أنها تتفاعل وتتبادل المؤثرات والعناصر،وينتج عن ذلك المركب الذي نطلق عليه الحضارة،فالإنسان يعيش في عالم محدود ولا زال الجزء المعمور من الأرض منذ آلاف السنين على ما كان منذ الحضارات الأولى،وما حدث كان هجرات دفعت إليها عوامل تاريخية زمنية أو طبيعية او اجتماعية،باستثنا اكتشاف نصف الكرة الغربي وأستراليا.
وحتى أولئك الذين يروجون لفكرة صراع الحضارات، يدركون أن المحصلة النهائية للصراع فترة هدوء تعود الإنسانية بعد ذلك إلى نفسها،وتعيد حساباتها،عندها يفكر الجميع في وزن الأمور بميزان المصالح، لتبادل المنافع،في جو من التصالح،ورغم ما كان يحدث في أعقاب الحروب من سيطرة ثقافة الغالب على المغلوب،إلا أن الأمر أعقد من ذلك بكثير،وحتى الغالب فإنه يكتسب من المغلوب بعض عناصر ثقافته،فالأمبراطور قسطنطين الذي كان إمبراطورًا على الدولة الرومانية في القرن الرابع الميلادي أمر دولته باعتناق الدين المسيحي،مع أنه كان وثنيًا،وتيمورلنك ملك المغول،اعتنق الإسلام وأمر دولته باعتناقه،وفي العصر الحديث نجد الأمة الألمانية وما لحقها من الدمار والخراب،وقد سقط منها من ضحايا بالملايين على مدى نصف قرن تقريبًا،ولكن الثقافة الألمانية ظلت حية،وكذلك حدث لليابان، وقد جربت فيها القنبلتان النوويتان في هيروشيما ونجازاكي،لأول مرة في التاريخ البشري،وأخذت الدولتان من ثقافة الأمم القاهرة المنتصرة،ولكنهما تفوقتا عليها في الثقافة العلمية التجريبية التي وصلت إلى درجة عالية من الإبداع والتطور وبشكل قياسي،وكذلك الحال بالنسبة للبلاد التي كانت مستعمرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر،فقد أخذت الكثير من ثقافات الشعوب التي استعمرتها،وما يتم في المجتمعات العربية حاليًا،وعلى وجه الخصوص في منطقة الخليج والجزيرة العربية ليس استثناءً من القاعدة.
.يحدث الصراع بين الثقافات على كل المستويات،وتحت كل الظروف،على مستوى الفرد،وعلى مستوى الجماعات الصغيرة،والتنظيمات والأنساق،وعلى مستوى المجتمع عامة،وعلى مستوى البشرية كلها.والأمر غني عن البيان فهو مشاهد ملموس محسوس،قد يكون التغير عالي الدرجة في بعض الأفراد حيث تعمل الثقافة الجديدة على هزيمة الثقافة القديمة،وعلى مستوى المجتمع،يكون التغير بشكل عام جزئيًا محدودًا أو متدرجًا،ولكنه قد يكون كليًا وكاسحًا عندما تتدخل السلطة في عملية التغيير،كما حدث في دول المعسكر الشرقي تحت الحكم الشيوعي،وعلى مدى سبعين عامًا ،وفي الصين الشعبية أبيدت الملايين من أجل تغيير جذري في الثقافات التي كانت سائدة،وكما حدث بعد تفتت الاتحاد السوفييتي والتحول إلى اقتصاد السوق،وما حدث في تركيا على يد نظام أتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى(1914م 1919 م)،والأمثلة على ذلك كثيرة لا تقع تحت حصر.
والخلاصة أن الذي يحدد الحالة التفاعلية أو الصراعية في العلاقات بين الثقافات أمور وقوانين وسنن من الصعب الإلمام بها،فمنها ما هو كامن في خصائص الفكر والثقافة الإنسانية عامة،ومنها ما يتعلق بالظروف الزمنية أو المكانية لمجتمع دون آخر،كالعوامل الاقتصادية والسياسية،والدولية،والحروب وعمليات الغزو، أو خصائص معينة في ثقافة معينة.
وفي رأيي:إن الحقيقة الكاملةعن هذا الكائن المعروف بالإنسان لا يملكها إلا الله خالقه،سبحانه وتعالى،وهذا لا يمنع أن نتعلم ونزداد علمًا عن كل شىء ما دمنا أحياء،وما دام هدفنا الحق والخير والجمال،كقيم مطلقة وليست قيمًا حسيةً في نطاقها الضيق المؤقت المرتبط بالزمن والمكان والحال.وليس ذلك هروبًا بالإحالة إلى المطلق كتعبير عن العجز عن الإحاطة بالموضوع،ولكن رغبة في التبسيط الذي يرد الأمور التفصيلية إلى المبادىء الأولى.
*****
الحواشي
1. زين كامل الخويسكي ، لسانيات من اللسانيات ( الإسكندرية : دار المعرفة الجامعية ، 199م ) ص ص 68 .
2. أهلية الإنسان للشىء:صلاحيته لصدور ذلك الشىء،وطلبه وقبوله إياه،وفي لسن الشرع:صلاحيته لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه.انظر:محمد علي التهانوي،موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم،تحقيق:علي دحروج،ترجمة :عبد الله الخالدي،تقديم وإشراف ومراجعة:وفيق العجم،الطبعة الأولى،بيروت:مكتبة لبنان،1416ه 1996م،صفحة 278.
3. عبد العزيز بن سطام بن عبد العزيز آل سعود،اتخاذ القرار بالمصلحة،الطبعة الأولى،الرياض ،جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)1424 ه 1425 ه ،صفحة 170.
4. جاء في اللسان:تقول:ربَّ الولدَ،والصبيَّ:يربُّه ربًّا،وربَّبه تربيبًا وتِربةً،بمعنى:ربَّاه ،وترببه وأرتبه وربَّاه تربية:أحسن القيام عليه،ووليه حتى يفارق الطفولية،كان ابه أو لم يكن،انظر (محمد بن مكرم بن منظور،لسان العرب،نسقه وعق علي ووضع فهارسه:علي شيري،الطبعة الأولى،المجلد الخامس،بيروت:دار إحياء التراث العربين1408ه 1988م،صفحة 96)
5. [vi] Frank N. Magill and Ian P. McGreal(Editors),Masterpieces Of World Philosophy,New York:Harper and Row Publishers,1961,P.4
6. [vii] Encyclopedia International,volume 5,Golier:New York,1971,P 358
7. إبراهيم مصطفى وآخرون،المعجم الوسيط،الطبعة الأولى،إستانبول:دار الدعوة،1410ه 1990م،1/98
8. ابن منظور ، لسان العرب ، الطبعة الأولى ، بيروت : دار إحياء التراث العربي ، 1408ه 1988م ، 2/ 112.
9. عبد الحميد محمود سعد،دراسات في علم الاجتماع الثقافي،الطبعة الأولى،القاهرة:مكتبة نهضة الشرق،1400ه 1980م،صفحة75
10. برهان غليون ، اغتيال العقل ، الطبعة الثانية ، ( بيروت : دار التنوير للطاعة والنشر ، 1407ه 1987م) صفحة 86
11. قباري محمد إسماعيل،علم الاجتماع الثقافي :ومشكلات الشخصية في البناء الاجتماعي،الطببعة الأولى،الإسكندرية:منشأة المعارف،د.ت.ن.صفحة1
12. بدرية الشامسي، موقع بيان الثقافة ، شبكة الإنترنت ، إبريل 2003ه .
13. المصدر : شبكة الإنترنت:موقع: د .عبد الله الشيخ ، صحيفة الرأي العام ، الاربعاء 27 ربيع الأول1424ه الموافق28 مايو 2003 م العدد 2076)
14. محمد أحمد بيومي،الأنثروبولوجيا الثقافية،الطبعة الأولى،بيروت:الدار الجامعية للطباعة والنشر،1403ه 1983م،صفحة10


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.