طالعت في تونس نيوز الغرّاء الصادرة بتاريخ 2 جوان 2012، مقالا منقولا عن صحيفة "الصحافة" الذائعة الصيت، بذات التاريخ، للصحفي العَلَم زياد الهاني (وزياد عندي من تلك الأوراق التي تساقطت بعد الثورة) بعنوان "لم تقتله الرصاصة.. ولكن قتله الضيم واليأس"، يحكي فيه جملة عن المرحوم حسن السعيدي الذي ألهمه موته كتابة المقال ويورد فيه نصّا طويلا عن القادمين من وراء البحار "المتسردكين" في البرامج التلفزيّة والإذاعيّة، أولئك "القطط" الحاكين انتفاخا صولة الأسود كما وصفهم!... وقد رأيت الوقوف عند المقال أناقش صاحبه ما قدّم فيه، وقد رجوت لو وقع حصر قائمات الجرحى وتصنيفهم حسب الانتماءات. وهو تصنيف لا يرغب فيه أحد من العقلاء. غير أنّي رجوته افتراضا كي يتبيّن النّاس مدى صدق ما ورد في المقال من معطيات اعتمدها الهاني لتثوير النّاس على النّاس مستعملا سلاح التحزّب البغيض الذي يفرّق ولا يجمّع ويضعف ولا يقوّي. والمشركون هزموا لمّا غزوا المدينة أحزابا. والمسلمون هزموا لمّا باتوا هم أيضا أحزابا!... يفتتح المقال بجملةٍ خبرٍ وفيها: "أقدم الشاب حسن السعيدي على وضع حدّ لحياته بتناوله كمية كبيرة من الأدوية التي وضعها له طبيب في مستشفى الرازي...". ثمّ لا يتوقّف هنا عند مسؤوليّة الطبيب – إن صحّ الخبر – في وضع هذه الكمّية الكبيرة من الأدوية على ذمّة المريض، فقد كان يجب أن تُعطى الوجبة (La dose) الموصوفة المحدّدة في موعدها وحسب أوقاتها، بدل أن يمكّن المريض من كمّية تساعد عليه نفسه التي وصفها الهاني باليائسة، لا سيّما إذا لوحظ على المريض بعض الاضطراب الذي لا يجعله مسؤولا على تصرّفاته!.. كما أنّه لا يحكي عن الأسباب المباشرة والملابسات التي ألجأت المريض إلى مستشفى الرّازي سوى ما ذكره من اليأس، وصدى اسم الرّازي عند النّاس معلوم!... يفضّل الهاني عدم الوقوف عند ذلك كلّه وهو مهمّ لاجتناب المفاسد المؤدّية إلى الانتحار كما في صورة الحال. ولكنّه يوجّه سهامه مسنّة إلى مَن سهل ركوبهم هذه الأيّام بفعل مكائد التافهين، محتميا - كما يفعل الجميع - بإله التثبيت الجديد في تونس "الثورة"!... فالهاني يكذّب مقالة أنّ الموت واحد وإن اختلفت الأسباب، ويُرسي أفضليّة "موت الثورة" (وهو كذلك لو كان موتا في سبيل الله لا يُرجى من ورائه جاه ولا سمعة ولا حميّة ولكن إعلاء لكلمة الله تعالى)!... ف"الثائر" إذا مات عنده كان شهيدا وإن انتحر وبادر الله بنفسه. وقد فاجأنا بإضافة ما أضاف لقاموس "الشهادة" – وهذا سبق يحسب له – عندما صنّف "الشهيد المنتحر"!... ليعلم القارئ الرّصين أنّ الهاني يكتب عمّا لا يعلم ويحدّث بما لا يعلم كي يقال إنّه كاتب، وقد قيل! عياذا بالله تعالى... تضامَن الهاني مع ملهم مقاله المرحوم حسن السعيدي الذي أسأل الله لأهله الصبر والسكينة والتعويض الحسن فيه، وله الرحمة والمغفرة – فلعلّه لم يفعل ما ردّده الكتبة الوطنيون ولم ينتحر كما أشيع -، لم يمنعه من أن يكون شوكة على "القطط" المنتفخين أولئك "المتسردكين" (وقد شهدتُ حصّة تلفزيّة جمعته ذات مساء مع أحد السراديك وشكرت له إبّانئذ ثبات الدجاجة أمام السردوك) (*)، فيستصرخ النّاس ويؤلّبهم عليهم ويثوّرهم معدّدا مواقع المظالم وصنوف الظلم التي تمارسها حكومة "الترويكا". تلك التي – حسب زعمه - أنكرت الكفاءة وحكّمت القرابة والموالاة!... قرّبت المنافق وأبعدت البارّ المخلص!... أبعدت المجاهدين الثائرين ووظّفت في المناصب المناضلين الافتراضيين!... أهانت أهل البلاد الأصليين ورحّبت بالقادمين على البلاد من وراء البحار في غفلة قاتلة من أبي التونسيين وحامي حماهم والدّين!... أجاعت فما أشبعت وعرّت فما كست وتجاهلت النّاس فما اعترفت لهم بالفضل!... لبس أفرادها ملابسهم الجديدة «السينيي» وما اكترث رئيسهم ساكن القصر لربطة عنق تشرّف "التونسي"!... ويختم الهاني مقاله بإبداء حزنٍ خيّم على صنف من التونسيين – وأحسب أنّه لم ينفرد به -، منذ منتصف يناير / جانفي 2011، فقد كان ذلك التاريخ بداية عودة المناضلين الافتراضيين الذين وضع الله تعالى لهم القبول في الأرض بما قدّموا من دمائهم ومهجهم وشبابهم أيّام كانت القطط والكلاب النجسة تخمش وجوه الرّجال الصامدين في وجه الطغاة المقامة عليهم اليوم سرادقات العزاء، وتخدش أعراضهم وتنتهك حرماتهم!... ولو كنت مقلّدا الهاني لعبّرت عن حزني لمستويات متردّية بلغ بها تعلّقها بالدّنيا النّظر إلى ما يلبس النّاس فيموتوا غيظا على تحقّق الافتراضي!... فما كانت الثورة في تونس حقيقة بل كانت افتراضيّة ثمّ حقّقها الله تعالى. وما كان انتهاء سلطة الحاكم بشريعة الشرّ (اللهمّ بارك في لطفي السنوسي، صاحب اللفظ) منتظرا بل كان افتراضيّا قدّمه الله. وما كان وصول المضطهدين إلى الحكم واردا بل كان افتراضيّا يسّره الله تعالى وحقّقه. وما كان قبول بعض التونسيين غيرهم من المناضلين الحقيقيين مستساغا بل كان "شرّا" عليهم ألزمهم الله ثمّ فرضته عليهم صناديق الاقتراع مكرهين!... نحن في تونس محتاجون إلى أمر مهمّ جدّا!... ذلك هو الرّجوع إلى الله تبارك وتعالى وإفراده بالعبادة والخوف منه!... ويوم يسكن الرّقيب في الصدور، ونعلم علم اليقين أنّ الله لا يقبل من العمل إلّا ما كان خالصا صوابا وأنّ الدين النّصيحة، يومها تصلح كتاباتنا فتستقيم كلماتها وتتسع نظرتنا فنضع تونس في حدقات العيون وسويداء القلوب!... والله من وراء القصد، ولا نامت أعين الجبناء ولا استطاع فاسد تقويض عمل المصلحين، وما حيِيَ وما آمن من أمسى يائسا!... ------------------------ (*): ليعلم غير التونسيين أنّ "السردوك" هو الدّيك.