عُثِرَ عليه بالصدفة.. تطورات جديدة في قضية الرجل المفقود منذ حوالي 30 سنة بالجزائر    السلطات الاسبانية ترفض رسوّ سفينة تحمل أسلحة إلى الكيان الصهيوني    عاجل: لأول مرة: تونس تصل المرتبة الثانية ضمن التصنيف الدولي للبيزبول    الديبلوماسي عبد الله العبيدي يعلق على تحفظ تونس خلال القمة العربية    في ملتقى روسي بصالون الفلاحة بصفاقس ...عرض للقدرات الروسية في مجال الصناعات والمعدات الفلاحية    يوميات المقاومة .. هجمات مكثفة كبّدت الاحتلال خسائر فادحة ...عمليات بطولية للمقاومة    فتحت ضدّه 3 أبحاث تحقيقية .. إيداع المحامي المهدي زقروبة... السجن    المنستير .. المؤبّد لقاتلة صديقها السابق خنقا    ارتفاع عجز الميزان الطاقي    رفض وجود جمعيات مرتهنة لقوى خارجية ...قيس سعيّد : سيادة تونس خط أحمر    دخول مجاني للمتاحف والمواقع الأثرية    دغفوس: متحوّر "فليرت" لا يمثل خطورة    وزارة الفلاحة توجه نداء هام الفلاحين..    العدل الدولية تنظر في إجراءات إضافية ضد إسرائيل بطلب من جنوب أفريقيا    تعزيز نسيج الشركات الصغرى والمتوسطة في مجال الطاقات المتجددة يساهم في تسريع تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية للانتقال الطاقي قبل موفى 2030    كاس تونس - تعيينات حكام مباريات الدور ثمن النهائي    الترفيع في عدد الجماهير المسموح لها بحضور مباراة الترجي والاهلي الى 34 الف مشجعا    جلسة بين وزير الرياضة ورئيس الهيئة التسييرية للنادي الإفريقي    فيفا يدرس السماح بإقامة مباريات البطولات المحلية في الخارج    إمضاء اتّفاقية تعبئة قرض مجمع بالعملة لدى 16 مؤسسة بنكية محلية    وكالة (وات) في عرض "المتوسط" مع الحرس .. الموج هادر .. المهاجرون بالمئات .. و"الوضع تحت السيطرة" (ريبورتاج)    طقس الليلة    سوسة: الحكم بسجن 50 مهاجرا غير نظامي من افريقيا جنوب الصحراء مدة 8 اشهر نافذة    القيروان: إنقاذ طفل إثر سقوطه في بئر عمقها حوالي 18 مترا    تأمين الامتحانات الوطنية محور جلسة عمل بين وزارتي الداخليّة والتربية    كلمة وزير الخارجية التونسي نبيل عمار أمام القمة العربية    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    توزر: تظاهرة احتفالية تستعرض إبداعات أطفال الكتاتيب في مختتم السنة التربوية للكتاتيب بالجهة    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    صفاقس تستعدّ للدورة 44 لمهرجانها الصيفي    صفاقس: هدوء يسود معتمدية العامرة البارحة بعد إشتباكات بين مهاجرين غير نظاميين من دول جنوب الصحراء    جندوبة: وزير الفلاحة يُدشن مشروع تعلية سد بوهرتمة    "فيفا" يقترح فرض عقوبات إلزامية ضد العنصرية تشمل خسارة مباريات    هل سيقاطعون التونسيون أضحية العيد هذه السنة ؟    عاجل: "قمة البحرين" تُطالب بنشر قوات حفظ السلام في فلسطين..    106 أيام توريد..مخزون تونس من العملة الصعبة    اليوم : انطلاق الاختبارات التطبيقية للدورة الرئيسية لتلاميذ الباكالوريا    ناجي الجويني يكشف عن التركيبة الجديدة للإدارة الوطنية للتحكيم    سوسة: الإطاحة بوفاق إجرامي تعمّد التهجّم على مقهى بغاية السلب باستعمال أسلحة بيضاء    قيس سعيد يُؤكّد القبض على محام بتهمة المشاركة في وفاق إرهابي وتبييض أموال    المعهد الوطني للإحصاء: انخفاض نسبة البطالة إلى حدود 16,2 بالمائة    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    رئيس الجمهورية يبحث مع رئيس الحكومة سير العمل الحكومي    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    ظهورالمتحور الجديد لكورونا ''فيلرت '' ما القصة ؟    محمد بوحوش يكتب...أدب الاعتراف؟    الأيام الرومانية بالجم . .ورشات وفنون تشكيلة وندوات فكرية    الخُطوط التُونسية في ليبيا تتكبد خسائر وتوقف رحلاتها.    زلزال بقوة 5.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    بطولة اسبانيا : أتليتيكو يهزم خيتافي ويحسم التأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    إصدارات.. الإلحاد في الفكر العربي الإسلامي: نبش في تاريخية التكفير    استشهاد 3 فلسطينيين بنيران جيش الاحتلال في الضفة الغربية    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ندوة الدولة التونسية في أواخر الحكم البورقيبي والقيادات السياسية العربية : الصّعود والانحدار (2)
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

في ندوة الدولة التونسية في أواخر الحكم البورقيبي والقيادات السياسية العربية : الصّعود والانحدار (2)
* إعداد : خالد الحدّاد
توقف الدكتور بن يوسف في محاضرته حول وسيلة بورقيبة عند نشأة وسيلة بنت محمد بن عمار (من مواليد العاصمة سنة 1913 بنهج بوخريص) وسط أسرة أصيلة الكاف والتي تخلت مبكرا عن الدراسة لتتزوج من أحد المالكين العقاريين الصغار، أتى المحاضر على تفاصيل علاقتها بالزعيم بورقيبة والتي بدأت أولى فصولها في 12 أفريل 1943 عندما تحول الزعيم الى مدينة حمام الأنف لزيارة بعض أقاربه وأصدقائه بعد اطلاق سراحه صحبة 6 من رفاقه الوطنيين السجناء بحصن «سان نيكولا» بفرنسا، وفي بيت الدكتور الصادق بوصفارة الذي كانت تربطه به علاقة وطيدة منذ أيام الصبا وفترة الدراسة بباريس كانت السيدة وسيلة بن عمار من بين النساء اللاتي جئن للترحيب بعودة الزعيم الى أرض الوطن بعد غياب دام قرابة ال5 سنوات كاملة. يقول الباحث استنادا الى عدة مراجع :
«ومنذ النظرة الأولى حصلت بين الرجل والمرأة الرجة التي يعبّر عنها باللغة الفرنسية Le coup de fondre حيث بدأت منذ ذلك اليوم علاقة بينهما ستستمر على امتداد أكثر من 40 سنة، وعن سرّ اعجاب بورقيبة بهذه المرأة يقول الزعيم : «إن فيها شيئا ما يذكّرني بوالدتي» وبدت له عند لقائها الأول وهي مرتدية الزي التونسي التقليدي كأنها كما يقول هو تونس بأسرها.
ونظر الباحث في مختلف ما يروج من أخبار عن سرّ هذا الارتباط بين وسيلة والزعيم بورقيبة وخاصة حول ما قيل من أن هذه المرأة انما كانت صنيعة الاقامة العامة الفرنسية التي حرصت على تقديمها للزعيم حتى تسهل مراقبة تحركاته ونشاطاته ومواقفه الأمر الذي جعل صالح بن يوسف ينبّه بورقيبة الى الأمر. وقد كلّف بورقيبة البشير زرق العيون بالتثبت من هذه المسألة والذي أفاد بأن ما قيل هو مجرد شائعات واتهامات باطلة على أن الباحث أكد أنه بدون الاطلاع على بعض التقارير السرية للسلطات الفرنسية فلا يمكن الجزم بذلك لأنه لا يمكن نفي سعي هذه السلطات الى لعب ورقة وسيلة بن عمار للتأثير على زعيم الحزب وإيجاد مخرج سياسي للأوضاع المتأزمة التي أصبحت عليها البلاد.
وانطلاقا من شهادة محمد الصياح الذي استقاها من بورقيبة فإن صورة وسيلة لم تغب عن مخيلة الزعيم وهو يعبر الصحراء الليبية في طريقه الى مصر للتعريف بالقضية التونسية، وفي سنة 1948 قرّرت وسيلة التحول الى الحج لأنه بإمكانها التوقف بمصر ورؤية زعيم الحزب المقيم في القاهرة منذ 1945، لكن وجود زوجها معها لم يترك لها أية فرصة للفسحة ولا الحديث مع الزعيم وهو ما حزّ في نفسية بورقيبة الذي صرّح لحسين التريكي بأنه «لم يظفر حتى بمجرّد قبلة منها بحسب شهادة الأستاذ محمد مزالي الذي استقاها بدوره عن المناضل الحسين التريكي» وهذه الشهادة يراها الباحث عادل بن يوسف تأكيدا واضحا على عمق تأثير هذه المرأة ووقع حبها على نفسية زعيم الحزب، ويقول الباحث ان المطلع على نص الرسائل التي كان يبعث بها بورقيبة الى وسيلة من مصر أو من منفاه بتونس منذ 1952 من رمادة وجالطة أو من فرنسا بجزيرة لاقروا يلمس بشكل لا يدعو الى الشك عمق هذا التأثير ومتانة العلاقة الغرامية بين الطرفين بعد أن أحكمت وسيلة اثارة عواطف الحبيب بورقيبة الذي كان يقول لأصدقائه بأن حبه لوسيلة ينير له طريقه وينير له حياته وأن كل قصص الحب الشهيرة في التاريخ لا توازي حبه بل وأكثر من ذلك فقد صرح لأحدهم عام 1951 بأنه مستعد لتنفيذ كل ما تطلبه وسيلة بما في ذلك تخليه عن العمل السياسي والحياة العامة.
وعلى صعيد آخر وعلى الرغم من وجود بورقيبة خارج البلاد لم تنقطع العلاقات بين أفراد عائلته ووسيلة بن عمار وذلك عن طريق ابنتي شقيقته سعيدة ساسي وخاصة شاذلية بوزقرّو، فقد كانت وسيلة وشاذلية في مقدمة مظاهرة احتجاجية نسائية بمدينة باجة في 15 ديسمبر 1952 وتمّ ايقافهما صحبة 16 متظاهرا وكانت تلك أول مشاركة لوسيلة في مظاهرة سياسية وطنية ويرى الباحث أن وسيلة قد أرادت من خلال مشاركتها تلك أن تثبت للزعيم حسّها السياسي وإيمانها القوي بالقضية الوطنية واستعدادها للخروج الى الشارع والتظاهر اذا ما تعلق الأمر بالوطن.
ووجد بورقيبة في جالطة التي نقل إليها في 21 ماي 1952 الكتابة الى عشيقته وسيلة خير ملاذ للتخفيف من أعباء البعد عن الأهل والأصدقاء وقسوة المنفى. «تطلبين مني أن أمزّق رسائلك.. إن مسودّاتك اللطيفة تؤثرّ فيّ الى درجة أنه من الصعب عليّ الابتعاد عنها وإذا ما نشرت يوما ما فإن الناس سوف لن يجدوا فيها سوى حبّ نزيه نقيّ وجادّ، حبّا كبيرا لم يثنني البتة عن واجبي تجاه وطننا».
واعتبارا لكل ما تقدم يخلص الباحث الدكتور عادل بن يوسف الى أنه لم يكن من الغرابة أن يكون لهذه السيدة تأثير كبير على مواقف بورقيبة من عديد القضايا وأن يفكر جديا في الارتباط بها بعد سنة 1956 ليتوّج فرحة الظفر بالاستقلال بفرحة الاقتران بالحبيبة التي ربطته بها علاقة تعود الى سنة 1943 خاصة وأنه ما انفكّ يهمس الى المقربين منه : «لي عشيقتان، تونس ووسيلة» بحسب شهادة السيد الطاهر بلخوجة.
من وسيلة بن عمار الى الماجدة وسيلة بورقيبة
يورد الباحث حقائق عن أن وسيلة قد أصبحت منذ سنة 1955 «رفيقة» الزعيم بورقيبة لا تغادره في المواكب الخاصة أو شبه الرسمية وقد سعى بورقيبة منذ صائفة 1955 الى ترتيب انتقال زوجته الأولى ماتيلد الى منزل جديد بضاحية مونفلوري حتى يتسنّى له استقبال حبيبة القلب في بيته بساحة جامع الهواء.
ويتطرق الباحث الى أن النقاد والملاحظين لا يشككون لحظة واحدة في دور وسيلة في التأثير على الزعيم بورقيبة ودفعه الى القيام بالخطوة الريادية الهامة في المجال الاجتماعي بإعلانه في 13 أوت 1956 عن مجلة الأحوال الشخصية أشهرا قليلة فقط بعد حصول البلاد على استقلالها ويقول الدكتور بن يوسف : «مكانتها المتميزة في نفسية بورقيبة والطابع التحرري للشخصيتين تجد ما يبررها في بنود هذه المجلة ولا سيما في كل ما يتعلق بمسائل الزواج والطلاق وخاصة حرية اختيار الزوجة لشريك حياتها وامكانية الانفصال عنه متى شاءت، كما حرصت وسيلة عقب الاطاحة بالنظام الملكي الى أن تنال نصيبها من كنوز البيت الحسيني (مجوهرات، تحف، وهدايا..) وتنفيذا لهذه الرغبة أعطى الرئيس بورقيبة إذنا كتابيا بفحص محتوى الكنوز وتقييمها غير أنها اختفت ولم تعد الى القصر الا بعد أن أصبحت وسيلة سيدة البلاد الأولى بينما كان من الأجدى أن توضع على ذمة الخزينة العامة للدولة..».
ويرى المحاضر أن الزيارة التي أداها الزعيم بورقيبة الى أمريكا بداية من يوم 3 ماي 1961 صحبة زوجته ماتيلد زادت قناعة الزعيم بضرورة الانفصال عن زوجته الأولى التي كانت تكبره ب10 سنوات والارتباط بإمرأة أصغر منها سنّا يكون لها حضور متميز على الساحتين الداخلية والخارجية، وفي خضم حرب بنزرت الساخنة استدعى بورقيبة يوم 21 جويلية 1961 السيدين الباهي الأدغم وجلولي فارس ليحضرا إعلان طلاقه من ماتيلد على الرغم من اسلامها وحملها لاسم مفيدة منذ 25 أكتوبر 1958 بعد أن خصص لها جراية قارة ومنزل خاص بها بالبلفدير، وحرص الزعيم ايمانا منه بفضائل هذه المرأة على أن تدفن لاحقا (21 أكتوبر 1976) بتربة آل بورقيبة بالمنستير.
وعلى الرغم من الخطوة التي قطعها بانفصاله عن ماتيلد فإن بورقيبة قد تردد كثيرا قبل أن يتخذ قراره بالارتباط بوسيلة حيث اتصل بعدد من وزرائه وأصدقائه لمعرفة رأيهم ففي الوقت الذي شجعه عمر شاشية عارضه المنجي سليم وجلولي فارس حيث قال له الأول «دعك من الزواج منها» فيما قال له الثاني «أمن قلّة النساء؟..».
وفي نفس اليوم الذي التقى فيه بورقيبة لأول مرة بوسيلة بحمام الأنف (12 أفريل 1943) من سنة 1962 وبقصر السعادة بالمرسى بحضور عدد قليل من كبار المسؤولين في الحزب وفي الدولة وكامل أفراد آل بن عمار والمقربين من بورقيبة تم عقد القران بتوقيع الطيب المهيري وزير الداخلية ورئيس بلدية المرسى وبشهادة الباهي الأدغم وجلولي فارس. وبذلك تمّ رسميا تقنين هذه العلاقة التي استمرت على امتداد 19 سنة كاملة.
ويؤكد الباحث أنه وخلافا لما يُعتقد فإن طلاق وسيلة من زوجها الأول وزواجها من بورقيبة لم يتم تحت التهديد وتحديدا من قبل سعيدة ساسي ابنة أخت الرئيس ولكن على الأرجح أنه تمّ بتمهيد من شقيق وسيلة الأستاذ المنذر بن عمار الذي أحبّه بورقيبة نتيجة لموقفه وقلّده مناصب وزارية مختلفة على امتداد أكثر من ثماني سنوات (من 3 1 1961 الى غاية 8 9 1969) ثم اقترح عليه بعد مدة عدة مناصب ادارية عليا نذكر من بينها مديرا عاما للديوانه لكن المنذر بن عمار فضل الابتعاد عن المناصب الرسمية والتفرّغ للمحاماة.
ويعتقد الدكتورين يوسف أنه من الصعب الاقرار بأن الارتباط كان نتيجة أسباب عاطفية فقط بل انه شعور مركب وليد عدة حسابات وعوامل متداخلة، اذ لا يمكن حسب رأي المحاضر نسيان كون بورقيبة من وسط اجتماعي متواضع فقد ولد بأسرة كثيرة العدد تنحدر من أصول طرابلسية وبوصفه آخر اخوته فقد عانى من غياب الدفء العائلي نظرا للجراية المحدودة التي كان يتلقاها والده المتقاعد من جيش الباي، وقد مكنته دراسته بالعاصمة من اكتشاف أجواء العائلات الأرستقراطية التي كانت أغلب قيادات الحزب الدستوري القديم تنتمي إليها مثل عائلات الخلادي وفرحات وختاش والقليبي والمستيري والثعالبي وخير اللّه والصافي وشلبي والتي كانت تربطها الى بعض علاقات قرابة ومصاهرة وملتقيات في الصالونات الاجتماعية والسياسية المنتشرة في مدينة تونس وبضاحيتي المرسى وحمام الأنف وهي أجواء لم تكن معروفة بالساحل ولا سيما بمدينة المنستير مسقط رأسه.
واعتبارا لذلك فإن انتماء وسيلة لهذا الوسط «البلدي» ساهم في مزيد تقريبها الى الزعيم الذي كان يردد لأصدقائه بأن زواجه من وسيلة هو حلم كبير وإنجاز ضخم سيسعى الى تحقيقه عاجلا أم آجلا.. لا سيما وأن منافسه العنيد والوجه الثاني في الحزب صالح بن يوسف قد تزوج من احدى بنات عائلة زهير، صوفية المقيمة ببيت درغوث بالعاصمة، وفي المقابل فإن آل عمّار بإمكانهم التدخل بحكم تلك الزيجة في بعض قرارات الرئيس وتوجيهها لصالحهم.
مراقبة نشاطات الرئيس والحد من سلطات الوزير الأول
يقول الباحث أن وسيلة قد ركزت جهودها في البداية على العناية المتواصلة برئيس الدولة وبصحته وبمواعيده اليومية المهنية كالاجتماع بالوزراء وأعوان الدولة وترؤس المجالس الوزارية واستقبال الشخصيات الأجنبية رغم كونها من مشمولات مدير ديوانه، وقد مكنها هذا العمل الدؤوب من الاطلاع العميق على كل مجريات الوضع السياسي بالبلاد وأسرار كل الشخصيات البارزة والوقوف عند أهم القضايا والملفات الساخنة، وقد حرصت وسيلة على إحاطة الرئيس علما صباح كل يوم بمستجدات القضايا اثر تناوله فطور الصباح وقبل الالتحاق بمكتبه بداية من الساعة الثامنة بما أنها كانت تسيقظ منذ الساعة الخامسة لتستمع الى الأخبار بأبرز الاذاعات الدولية.
ومنذ مرض بورقيبة في مطلع التسعينات تضاعف دور وسيلة لتصبح سيدة القصر بما أن كل من يدخل الى الرئيس أو من يخرج من عنده لا بدّ أن يمرّ عبرها أو عبر السكرتير الخاص لبورقيبة
السيد علالة العويتي، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد فقد أقامت وسيلة بمكتب الرئيس منذ تلك الفترة جهاز تنصّت ومكتبا خاصا بها إلى جوار مكتبه. ويقول الباحث إن جهاز التنصت قد وضع رسميا خلال زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون لتونس حيث رأى بعض مستشاري الرئيس بحكم التطرق إلى قضايا دولية واقليمية هامة وفي مقدمتها قضية الشرق الأوسط من الضروري أن يكون هناك تسجيلا صوتيا كاملا للحديث الذي سيدور بين الرئيسين غير ان وسيلة قد دأبت استخدام هذا الجهاز لفائدتها للاطلاع على مضمون الحديث الذي يدور بين الرئيس وزوّاره حتى تتمكّن من اتخاذ التدابير والاحتياطات التي تتماشى مع مصالحها بحسب شهادة السيد الطاهر بلخوجة الذي استند إليه الباحث في جزء كبير من حديثه.
وكانت وسيلة كثيرا ما تنبّه مقربيها وثقاتها من انفعال الرئيس وتوتر مزاجه فيرجئون مقابلته أو تتدخل لاحقا للتخفيف من غضبه لتقترح عليه تعيين أحد مقربيها الآخرين في حالة اعفاء الأول. ويرى المتحدث انه وخلافا لبورقيبة فإن وسيلة كانت تتسم بطابع الرصانة وقلة الانفعال حيث غالبا ما تقوم بتعديل بعض المواقف الحرجة وتهدئة الأجواء فقد لعبت كما شبهها أحد وزراء بورقيبة «دور المعدل Un rôle régulateur» كما كانت حريصة على حماية الرئيس ففي أعقاب زيارته إلى فلسطين على سبيل المثال تخوفت وسيلة من امكانية اغتياله فبذلت جهودا أمنية لتأمين سلامته في جميع تنقلاته داخل البلاد وخارجها.
كما حرصت على تأكيد حضورها الرسمي في المناسبات الرسمية ومرافقة الرئيس في زياراتها الداخلية والخارجية بالاضافة إلى اشرافها على ترؤس واختتام مؤتمرات وندوات بعض المنظمات الوطنية والمنظمات ذات الصبغة الاجتماعية التي تولت رئاستها بنفسها مثل «دار الرضيع» التي تأسست منذ سنة 1958 كما تولت الاشراف على برامج مقاومة الأمية والتنظيم العائلي وتحديد النسل وتدشين دور الطالبات والمبيتات الجامعية ورياض الأطفال ودور رعاية المسنين، وقد جلب لها هذا النشاط والحضور المكثف شعبية لدى عامة الناس وكذلك احترام عديد الوزراء ورؤساء الدول والملوك حيث كان بورقيبة يرسلها لزيارة بعض الدول التي لم يكن هو يرغب في التحول إليها.
الإطاحة ببن صالح ورفضها لمنصب نائب رئيس الجمهورية
ويرى الباحث أنه ونتيجة للدور الكبير تبلورت حول وسيلة كتلة سياسية ما فتئت تتسع من يوم إلى آخر لتصبح أقوى الكتل السياسية الفاعلة في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات والتي كانت تتكون من الطاهر بلخوجة ومحمد المصمودي وادريس قيقة وحسان بلخوجة والباجي قايد السبسي والحبيب الشطي والصادق بن جمعة والمنجي الكعلي وتوفيق ترجمان وغيرهم من كبار الموظفين في الإدارة المركزية والجهوية.
وفي أواخر جوان 1967 تخلت وسيلة عن الوزير الطموح أحمد بن صالح الذي تسبب لها في قطيعة مع الرئيس بسبب ما راج من سوء تصرف صهرها في أمول الشركة الوطنية للمحروقات التي كان يديرها آنذاك الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقة بين الرئيس وزوجته وأطردها لأول مرة من القصر والذي عادت إليه بعد أن قدمت اعتذارا وفق ما نصحها به المنذر بن عمار، غير ان وسيلة لن تغفر لهذا الوزير وستعمل لاحقا على الإطاحة به.. ففي 8 سبتمبر 1969 وعلى اثر بلاغ اذاعي تم تقسيم كتابة الدولة للاقتصاد التي كان يديرها بن صالح إلى 3 وزارات دون أن تسند أية واحدة منها له وتم تكليفه بوزارة التربية القومية إلى غاية شهر أكتوبر. وخلال شهر نوفمبر 1969 عبّر بورقيبة لوسيلة ومحمد المصمودي عندما كان في باريس للتداوي عن رغبته في اغتيال أحمد بن صلح مثلما فعل مع بن يوسف وتعيين وزير أول جديد لاحداث رجة سياسية بالبلاد غير ان عديد العوامل أدت إلى العدول عن الفكرة وتم الاكتفاء بالمحاكمة وبرغم أن بورقيبة قد رغب في مطلع سنة 1973 في تصفية أحمد بن صالح الموجود بالسجن إلا أن وسيلة تدخلت وأعلمت الدكتور محمد بن صالح بالخطر المحدق بشقيقه الأمر الذي عجل بترتيب عملية فرار أحمد بن صالح من السجن متنكرا في اتجاه الجزائر وبذلك تسجل موقفا ايجابيا لفائدتها رغم خلافها القديم مع هذا الوزير ويأتي ذلك في إطار بحثها عن مزيد من الثقة والنفوذ.
وخلال سنة 1973 وعلى اثر مرض الرئيس وتردده المتكرر على الخارج وحصول الجدل حول امكانية بعث منصب لنائب الرئيس يتولى الأمور في حالة شغور منصب رئيس الجمهورية وهو الأمر الذي لم يرض سيدة تونس الأولى التي كانت ترى فيه خطرا وقد تراجع الهادي نويرة عن مساندته للمقترح بعد تدخل وسيلة وأعلن تمسكه بمنصب الوزير الأول المؤهل لسد الشغور ان حصل كما أبدى بعض التحفظ على الاحترازات ضد الحد من سلطة الرئيس من قبل مجلس النواب ليؤكد من جديد يوم 12 أفريل على ضرورة وضع قيود أمام المسار الديمقراطي لأن الشعب غير مؤهل لذلك وان الوحدة الحقيقية هي في الالتفاف حول بورقيبة وهكذا أمكن لوسيلة كسب معركة تعديل الدستور واحداث منصب نائب رئيس وأقنعت الهادي نويرة بذلك برغم كونه ليس من كتلتها إلا أن الموضوع يخدم الطرفين على حدّ السواء.
دورها في اندلاع أحداث 26 جانفي 1978
ويواصل الباحث حديثه بالتطرق إلى تحول الهادي نويرة إلى الشخصية المستهدفة من قبل سيدة قرطاج عقب تقدم بورقيبة في السن ومرضه المتواصل، ولم يكن بورقيبة نفسه يعارض استراتيجية زوجته بل أصبح يستخدمها لتعديل بعض الأوضاع والحد من صعود نجم وزرائه وفي مقدمتهم الوزير الأول، ومع تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية منذ سنة 1975 وتعدّد الاضرابات العمالية وحركات الاحتجاج الشعبي في كامل القطاعات وفي كامل أنحاء البلاد ولم يكن الأمين العام للاتحاد الحبيب عاشور إلا أحد أبرز عناصر كتلة وسيلة التي تضم كذلك وزير الداخلية الطاهر بلخوجة ونشأت تبعا لذلك ثنائية داخل الطبقة الحاكمة وسيلة بلخوجة ساهمت في تصعيد عديد من المعارضين لنويرة بالداخل والخارج خاصة مع كل من ليبيا والجزائر بحكم تعثر مشروع الوحدة مع طرابلس في 1974 وتأييد تونس لاتفاقيات مدريد بين اسبانيا والمغرب وموريطانيا حول الصحراء الكبرى في 14 أكتوبر 1975، وتأكيدا لذلك وبإذن من وسيلة أعطى بلخوجة منذ ربيع 1976 تعليماته إلى الشرطة بعدم الدخول في مواجهات مع المتظاهرين في المقابل فقد تمحور الشق الموجود حول الوزير الأول نويرة ومدير الحزب الصباح، وعندما بلغت الأزمة بين اتحاد الشغل والحكومة أوجها نصحت وسيلة الطاهر بلخوجة بأن يقترح على بورقيبة جمع نويرة وعاشور بحضوره وهو ما تم غير ان الأوضاع تأزمت من جديد بسبب اطلاق رجال الأمن النار على المتظاهرين (قصر هلال في 10 أكتوبر 1977) وهو ما أوجد حالة من الفوضى والاضطراب بالقرى المجاورة.
وزادت هذه الأحداث في تغذية حرب الكتل القائمة من قبل وعبر وزير الداخلية عن استعداده لمغادرة الحكومة وهدّد 5 من وزراء مقربين من وسيلة بتقديم استقالاتهم لخلق أزمة لعزل نويرة الذي استطاع تنحية الطاهر بلخوجة وعيّن بورقيبة عبد اللّه فرحات خلفا له، وسقطت حسابات وسيلة وكتلتها في الماء وتدعم نفوذ الهادي نويرة واعتبر اتحاد الشغل ما جرى تصلبا في موقف الحكومة وقدم 5 وزراء استقالتهم احتجاجا على تنحية بلخوجة لكن لم تنجح الخطة.
وتطورات المسألة بالحملة التي شنتها الحكومة على اتحاد الشغل الذي أقر يوم الخميس 26 جانفي اضرابا عاما حصلت خلاله صدامات عنيفة، ويرى الباحث انه مهما تعددت التحاليل فإنه لا يمكن اقصاء دور حرب الكتل بين وسيلة وجماعتها والوزير الأول وجماعته في اندلاع احداث يوم الخميس الأسود، وخرجت وسيلة منهزمة من هذه المعركة وكونت حكومة جديدة من قبل نويرة ضمت الحبيب بورقيبة الابن الذي عين وزيرا مستشارا للرئيس وفي ذلك اضعاف لدور وسيلة في قصر قرطاج بما ان ابن الرئيس كان يرى فيها المرأة التي انتزعت مكانة والدته من حياة والده غير ان وسيلة لم تخسر كل المعركة (!) إذ تمكنت على اثر احداث قفصة الدامية التي اندلعت في 26 جانفي 1978 من اقناع الرئيس بضرورة تغيير المشرفين على وزارة الداخلية واقترحت عليه تسمية أحد المنتمين إلى كتلتها السيد ادريس قيقة (سفير تونس ببون) ووجد مقترحها لديه صدى طيبا وعينه في 1 مارس 1980 وزيرا للداخلية وكانت تلك واحدة من الضربات التي نجحت في تسديدها لخصمها وهو ما يمكنها لاحقا من احكام المراقبة من جديد والعودة بقوة على الساحة السياسية الداخلية والخارجية.
وأثناء مرض الهادي نويرة تمكنت وسيلة من فرض تعيين محمد مزالي خلفا له على الرغم من أن بورقيبة كان يرغب في تعيين محمد الصياح الذي كانت تربطه به علاقات قوية وكان يرى فيه ذكاء وفطنة تذكره بصغره هو ونشاطه واستعانت وسيلة بحسب الرواية التي أوردها الدكتور بن يوسف بالبشير زرق العيون الذي أثنى بورقيبة على عزمه وعين في أفريل 1980 مزالي وزيرا أول.. وقد استندت وسيلة في رفضها لتعيين محمد الصياح إلى كونه يمتلك الكثير من العداوات في النقابة وفي الجامعة ومع الطلبة وفي أغلب المنظمات في حين أن محمد مزالي المقترح هو شخصية ثقافية ليس لها طموح سياسي وكانت تعتبره من بين الوزراء الأقل خطرا من غيره.. لكنها تفطنت لاحقا إلى أنه لم يكن كذلك حلقة ضعيفة وعجزت في استدراجه إلى صفها وفي المقابل كسب مزالي شعبية كبيرة من خلال أسلوبه الخطابي ومنحه لهامش من الحريات والتراخيص لبعض الأحزاب واطلاق سراح المساجين وكسب شعبية بلغت الشعبية التي نالها بورقيبة وهو ما دفع بوسيلة لبدء التخطيط للإطاحة به وكانت أحداث الخبز والأزمة مع ليبيا فرصة ملائمة لتنفيذ ذلك.
«مؤامرة الخبز» وطرد العمال
يذكر المحاضر أن محمد مزالي قد تحدث له بأنه عندما كان في منزله بسكرة يوم 3 جانفي 1984 اتصل به آمر الحرس عامر غديرة ليعلمه بأنه موفد من قبل ادريس قيقة وانه يبلغه نصحه له بتقديم استقالته، كما يذكر أنه تم اطلاق سراح ما بين 400 و500 سجين من سجن تونس ومنحهم رخصة بأسبوع وهو ما يحدث لأول مرة في التاريخ (!) ويبيت لخلفيات أخرى بالاضافة إلى سحب السلاح عن البوليس بتونس أيام 1 و2 و3 جانفي 1984 ويذكر المتحدث ان ادريس قيقة قد وبّخ والي نابل حينها وأقفل في وجهه الخط الهاتفي عندما أعلمه بسيطرته على الوضع في الجهة (!) كما يذكر ان ادريس قيقة ورغبة منه في التأثير على بورقيبة لعزل مزالي قد كلف 100 حافلة بنقل المواطنين وتوجيههم إلى قصر قرطاج يوم 5 جانفي يوم التراجع عن اعلان الزيادة في الخبز إلا ان «المؤامرة» فشلت وسعت وسيلة إلى افهام مزالي بأن عبد العزيز لصرم هو المسؤول عن «المؤامرة» وتمّت تنحيته برفقة ادريس قيقة وثبت مزالي في منصبه وأضيفت له حقيبة الداخلية.
واعتمادا على شهادة علي عبد السلام التريكي سفير ليبيا السابق بنيويورك وباريس أورد الباحث ما يفيد رغبة وسيلة في عرقلة عمل حكومة مزالي حيث يذكر التريكي انه حضر قدوم مبعوثين من وسيلة (أحدهما المرحوم أحمد الصيد والثاني مايزال على قيد الحياة) يطلبان من القذافي في صائفة 1985 تخريب حكومة مزالي.
دور خارجي
وعدد المحاضر تدخلات وسيلة على المستوى الخارجي وركز بالخصوص على دورها في افشال معاهدة الوحدة مع ليبيا عبر اتصالها بهواري بومدين الذي رفض قبول مبعوثي بورقيبة ووضع القوات العسكرية الجزائرية على أهبة الاستعداد على الحدود للضغط على بورقيبة الذي أعطى بتأثير من زوجته تعليماته بمنع دخول الليبيين من بوابة رأس جدير كما أصر في مكالمة هاتفية له مع القذافي على ضرورة القيام باستشارة الشعب قبل الاقدام على الوحدة، وتمكنت وسيلة من إدخال الوحدة المشار إليها طي التاريخ.
وفي خضم اجتياح الجيش الاسرائيلي لجنوب لبنان في صيف 1982 عبرت وسيلة عن استعداد تونس لقبول الفلسطينيين واستطاعت برغم تحفظات بورقيبة وبدعم من الولايات المتحدة الأمريكية (السفير بتونس والتاركوتلر) التي أعطت الموافقة على المشروع الذي أكسب وسيلة ثقة الفلسطينيين وخاصة الأمريكان (إبعاد القيادة عن منطقة النزاع وحرصت وسيلة على التحول بنفسها إلى مدينة بنزرت للمشاركة في استقبال الفلسطينيين والتلويح معهم بعلامة النصر وهي مرتدية لعلم فلسطيني يتدلى من رقبتها.
غير ان كل ذلك لم يشفع لوسيلة التي تكاثر خصومها وهو ما أفقدها في الأخير ثقة زوجها بعد دخول عدة عناصر جديدة إلى قصر قرطاج فكان طلاقها منه في أوت 1986 وخروجها من الحياة السياسية التونسية من الباب الصغير إلى غاية وفاتها في جوان 1989 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.