قال السيّد راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة في افتتاح الندوة التي أقامها المنتدى العالمي للوسطية في تونس أوّل أمس بالعاصمة إنّ الثورات العربية أعادت الأمة الإسلامية إلى قلب عملية المبادرة وصنع التاريخ بعد التهميش الذي عانته من قبل . وأشار إلى أنّ البعض استكثر عليها أن تقوم بمبادرات وبدؤوا يصورون هذه الثورات كما لو كانت مؤامرات غربية ويستدلون على ذلك بقبول تعامل الدول الغربية مع الأوضاع الجديدة الناشئة فيها وسبب ذلك شكّ البعض منا في الذات وفي القدرة على التغيير.
وأفاد المتحدّث أنّ الثورات العربية لا فضل لأحد في الغرب عليها، فقد فاجأ الشباب الأنظمة الظالمة بعد تولد الشعور بفشل عملية الإصلاح من داخل هذه الأنظمة وتزييف الانتخابات فيها، كما أن ردة الفعل العنيفة في الجزائر لم تقد إلى الحل بل زادت الوضع تعقيدا وأدى كل هذا إلى انسداد كبير في الوضع قامت الثوراتُ بتحقيق الانفراج فيه، وقال إنّ الشعوب استرجعت حقوقها بنفسها من الأنظمة الظالمة، وبعض الأنظمة الأخرى تحاول اليوم إصلاح أوضاعها حتى لا تحل بها ثورات جديدة. وأضاف قائلا: «بعض المشككين في الثورات العربية يشككون فيها مستدلين بما وقع في ليبيا ، ونحن نقول ان الثورة الليبية كانت مبادرة شعبية سلمية لكنها تلقت كما هائلا جدا من العنف، فكان الرد الشعبي مسلحا ولم يكن هدفا في حد ذاته».
واعتبر الغنوشي أنّ الديمقراطية طافت العالم كله إلا منطقتنا بسبب موقعنا الجغرافي في وسط العالم وبسبب الدعم الغربي الهائل للطغاة حماية لمصالحه وهذا الغرب ليس له أصدقاء دائمون بل مصالح دائمة ولهذا اضطر الغرب للقبول بالثورات العربية لتأمين مصالحه.
وتساءل المتحدّث: لماذا كلما أقيمت انتخابات نزيهة يفوز فيها الإسلاميون؟؟ ليُجيب: «هو العدالة الإلهية التي مكنتهم من ذلك بعد الظلم الشديد الذي تعرضوا له على يد الطغاة، كما أن كثيرا من الحداثيين كانوا حلفاء لهؤلاء الطغاة، وأنّ الرصيد النضالي والشرعية التاريخية تنفد بعد الانتخابات الأولى وما يبقى هو ما يقدمه المنتخَبون من تحقيق لأهداف الثورة ومن نجاح في التنمية».
تحديات الحكم ومسؤوليات
وخصّص الغنوشي جزءا من مداخلته للحديث عن التحديات بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم التي قال إنّها كبيرة، ومنها: تحدي الحكم : كيف نصوغ نظام حكم حديث رغم ضعف ما خلفه الأقدمون من أدبيات في هذا المجال ، ورغم كون فقه السياسة كان أضعف فروع الفقه الإسلامي ورغم كون الأحكام السلطانية مجرد وصف للواقع في زمانها ؟.
واعتبر الغنوشي في هذا المجال أنّ الديمقراطية هي أفضل ما قدمه العقل البشري لتحقيق الشورى وإخراجها من حيز كونها مبادئ ومواعظ إلى حيز التطبيق وحل مشاكل الخلاف بين المسلمين دون تحاكمهم إلى السيوف، واضاف: «أصّل العلماء والمصلحون لمبدإ الاقتباس من الغرب من أجل الحد من سلطة الحاكم بقانون وبدأ التراكم الإصلاحي منذ القرن 19م وجاءت الثورات العربية لنفض الغبار عن ذلك التراث وهناك من عاد إلى مؤلفات ابن رشد وابن تيمية والشاطبي لتبيين أسس الحكم في الإسلام».
وأشار الغنوشي إلى أنّ النهضة تتبنى النظام البرلماني لاجتثاث الحكم الاستبدادي ورغم ذلك قبلنا بالنظام المعدّل وقبلنا بالانتخاب المباشر لرئيس الجمهورية من أجل تحقيق المصلحة العليا للبلاد ، وأيا كان النظام المعتمد فإنه يجب ان يستمد شرعيته وتفويضه من الشعب من أجل تأسيس دولة مدنية.
كما تطرّق إلى تحدّي كتابة الدستور بما يقتضيه من نقاش لمسائل مثل المساواة بين الجنسين وحقوق الأقليات، وقال في هذا الصدد: «مسودة الدستور شبه جاهزة وفي نهاية الربيع نخرج من الوضع الانتقالي عن طريق انتخابات رئاسية وبرلمانية».
كما تحدّث عن تحدّي الوضع التنموي والاقتصادي، وقال: «فقد فُرض على البلاد منهج ليبرالي أفسد الوضع وأفضى إلى ثورة، والحكومة لن تواصل نفس النهج السابق وما يعنيه ذلك من تكرار للفشل بل تسعى إلى تغييره من أجل تحقيق الكرامة للمواطنين وقسمة الثروة بشكل أعدل بينهم».
وأتّى المتحدّث على كيفية إدارة الحوار رغم الاختلافات بين الفرقاء حيث أوضح: «في السابق، كانت تحل الخلافات بالعنف أما اليوم فقد فرّ السجّان ونريد إدارة الحوار دون العودة إلى القمع وعن طريق التوفيق بين الحرية والنظام، وما نراه الآن هو إسراف في الحرية تجلى في الحرق والتكسير والإضراب العشوائي مما أدى إلى الفوضى والإجرام وهذا ما يدعونا إلى تعلم الحرية من جديد حتى يصبح كل واحد منا يتوقف عند إشارة المرور الحمراء تلقائيا دون الحاجة لمراقبة الشرطة.
وانتهى إلى الخوض في التحدي الرابع وهو كيفية مواجهة التطرف العلماني والغلو الديني دون العودة إلى أسلوب العنف السابق مشيرا: «البعض يريدون اليوم مقاومة الطرف المقابل بالعنف ودفع للتصادم الشامل ، ونحن نرى أن دولة القانون لا تأخذ الناس بجريرة بعضهم لأن الذنب فردي ومن أخطأ يتحمل وحده تبعات خطئه ولا يتحمله تيار بأكمله ، ونحن نريد ان نجعل من الشورى ثقافة بين الناس وتحويل الشورى إلى تطبيقات فعلية وليس مجرد مبادئ ومواعظ، توجد أحلام مجهضة مثل حلم الوحدة التي تأخرت بسبب الضغط الأجنبي مما يقتضي وضع خطة لتفعيلها ولو عن طريق التدرّج، وأيضا حلم تحرير فلسطين الذي بات أقرب من ذي قبل»، وأضاف: «الثورات ليست تغييرا للأنظمة فحسب بل هي إحياء للقيم كالحرية والكرامة ترافق معها انتعاش الدين والإيديولوجيا التي ادعى مفكرو الغرب انتهاءها بسبب الخواء الفكري والقيمي الذي تعيشه مجتمعاتهم، وكلنا إيمان بالمستقبل وثقة في الله بأن تنجح الأمة في تحقيق ما تصبو إليه ونصبو إلى أن تتعانق قيم الإسلام والحداثة والعدل والديمقراطية».