لا شك أن المتتبع العادي لواقع العمل السياسي ببلادنا، سيلاحظ بلا شك انحدارًا مفزعا للممارسة السياسية خلال الفترة الأخيرة إلى مستويات قياسية من الرداءة والشعبوية، بشكل يجعلنا بحق أمام أزمة حقيقية. ان هذه الازمة -في نظرنا- والمتمثلة في شلل مؤسساتي وفي تعطيل دواليب الدولة تكشف عن أزمة أعمق، تتعلق بأزمة إنتاج الأفكار لدى النخبة السياسية ، التي غدت مع كامل الأسف تفتقد إلى عقول مفكرة تستطيع أن تمنح العمل السياسي رؤية و معنى، في مقابل حضور قوي لذوي المال والنفوذ الذين يفكرون بجيوبهم أكثر مما يفكرون بعقولهم. لقد وصل اليوم المشهد السياسي إلى درجة غير مسبوقة من التعفن والرداءة بسبب ضعف احترافية الفاعل السياسي و تراجع الوازع الأخلاقي للممارسة السياسية. فعندما يحدث الطلاق بين السياسة والأخلاق يصبح العمل السياسي عقيما وخاليا من أية روح تعطيه مصداقية من طرف مواطنين ينتظرون تغييرا لواقعهم الاجتماعي و الاقتصادي عن طريق الفعل و الممارسة السياسية المحتكمة للأخلاق... وعندما تنقطع الصلة بين هذه التنظيمات والجامعة كمصنع لإنتاج النخب المؤهلة، و القادرة على إبداع برامج ومشاريع مجتمعية يحضر الفراغ و الاغتراب السياسي و القطيعة بين هذه النخب و المجتمع و يغيب الوعي بحجم المأزق السياسي الراهن. ولا شكّ أن مثل هذا المأزق يفرض اليوم بإلحاح ضرورة العمل على إعادة هيكلة العمل الحزبي بنيويا و وظيفيا حتى يستطيع التجاوب مع مطالب الشعب و قضاياه الملحة التي ستبقى رسائل ميتة في غياب من له القدرة على تفعيلها. ما أحوجنا اليوم إلى نموذج لسياسي محاور بهدوء وروية، قادر على صياغة خطاب عقلاني مقنع بالحجة المنطقية، وليس عن طريق الانفعال وترويج المغالطات، سياسي فاعل وغير منفعل، يراهن فقط على ذرف دموع التماسيح ولعب دور الضحية، في شكل مقرف من الشعبوية في محاولة يائسة وبائسة لاستدرار عطف الناس. ذلك أنّ العمل السياسي و الحزبي أبان اليوم عن عجز كبير وخطير في صياغة برامج سياسية واقعية تلبي الحاجات المجتمعية الملحة. وتفتح باب النقاش السياسي المسؤول الذي يوفر البيئة السياسية الأساسية للتوافق والبناء على قاعدة وطنية بين كل القوى السياسية الوطنية. فسلوكات الترحال بين الأحزاب في ظل غياب برامج سياسية تبقى عصية على الفهم دون محاولة النفاذ إلى أبعادها العميقة، ودون ربطها بالتفاعلات مع النسق السياسي العام وطبيعة توازناته؛ مما يجعل من الأداء السياسي دون المأمول. إن ملاحظة دقيقة لنسق الفعل الملموس يظهر أن الثقافة السياسية للفاعلين السياسيين اليوم ، تغلّب منطق التوافقات بدلًا عن منطق الصراع والتفاوض والتنافس السياسي والندية، حتى أصبح هذا الفعل لا ينتج السياسة بقدر ما يعيد إنتاج الفراغ ،و يروّج لثقافة تنتصر لمنطق الغنيمة كمحدد للممارسة السياسية، والرغبة في الظفر بأكبر قدر من المنافع المرتبطة بهذا المنصب أوذاك، حتى وإن كان ذلك على حساب مصلحة الوطن، وباسم الدفاع عن مصلحة الوطن.